الإثنين 13-05-2024 02:29:45 ص : 5 - ذو القعدة - 1445 هـ
آخر الاخبار

الدولة المدنية.. دراسة مقاصدية (الحلقة الأولى)

الأربعاء 16 يناير-كانون الثاني 2019 الساعة 10 مساءً / الإصلاح نت - خاص / أ. عبد العزيز العسالي

 

مقدمة

كثيرة هي المصطلحات الوافدة علينا من الثقافة الغربية، ومن هذه المصطلحات مصطلح "الدولة المدنية"، وبطبيعة الحال فإن هذا المصطلح كغيره من المصطلحات اصطدم بثقافة الممانعة عربيا وإسلاميا، بل ومع ثقافات أخرى، بدافع الحفاظ على الذات من الذوبان. هذا الدافع المجتمعي بحد ذاته -إجمالا- هو دافع إيجابي لا ضير فيه.

هنا يأتي السؤال: أين المشكلة إذن؟ والإجابة تقتضي تفكيك المصطلح على النحو التالي:
- إشكالية مصطلح الدولة المدنية.. كيف ولماذا؟
- الدولة المدنية.. المكونات والأبعاد.
- ثمار الدولة المدنية.
- الدولة المدنية وتكييفها فكريا.
ــ حكم الشرع في الدولة المدنية.

وانطلاقا من المنطق الإسلامي العقلاني والتزاما بالمنطق القائل "الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره" نقول: قبل إطلاق الحكم الشرعي في قضية الدولة المدنية، يجب علينا تفكيك المصطلح إلى مكوناته الأولى وآثاره وأبعاده، وأن تقع الإشكالية ومدى صحتها ودرجة علاقتها بالمصطلح، وهل الإشكالية مفتعلة أم هي حقيقة لازمة للمصطلح؟

  

أولا: الدولة المدنية وإشكالية المصطلح

من المعلوم أن اتفاقية سايكس بيكو انتهت باحتلال العالم العربي والإسلامي من قبل الغرب الأوروبي.

كانت وظيفة الغرب أثناء الاحتلال هي حراسة التخلف الفكري والثقافي داخل العالم الإسلامي.

بطبيعة الحال اجتلد المسلمون مع الاحتلال فخرج مهزوم عسكريا، لكن الاحتلال ظل كما هو ثقافيا وهو الأخطر. السؤال: كيف بقي ثقافيا؟

الجواب: عادت قيادات النضال العربي الإسلامي مظفرة بالنصر، وهنا هتف المجتمع المسلم للقيادة المظفرة وسلم لها القيادة عن ثقة.

غير أن القيادة العسكرية بل والنخبة عموما، والتي أطلق عليها بعد ذلك الدولة الوطنية، كانت هذه النخبة فارغةًمن الثقافة العربية الإسلامية. ومع هذا الفقر الثقافي، فقد صُنعت رؤوسها على موائد الاحتلال بامتياز، فأصبحت النخبة العربية منتجة للتخلف وبتبعية مطلقة للغرب المهزوم عسكريا وهذا من أسوأ أنواع التحرير، إذ كيف تطرد الاحتلال وتتبنى ثقافته.

  

شاهد علماني

عالم الاجتماع العربي د. برهان غليون أستاذ الاجتماع في السربون، يقدم إشكالية مصطلح الدولة المدنية بأوجز تعبير قائلا: "الدولة الوطنية العربية
فرضت قيما باسم الدولة المدنية بقوة السلطة والإعلام، حيث رفعت شعارا خلاصته قيم الدولة المدنية نابعة من ذات المصطلح الوافد وليس من قيم المجتمع". (انظر: برهان غليون.. الدين والسياسة، ص 147ــ 149).

وأشار إلى أن هذا الشعار أيديولوجي علماني 100% هدفه إبعاد المجتمع المسلم عن أي مشاركة.

وهنا يمكننا تلخيص موقف الدولة الوطنية الرافعة شعار الدولة المدنية والديمقراطية بأنها قد تناقضت مع ذات المصطلح للدولة المدنية ومع مفهومه، فضُرب المجتمعُ المدني وهُدمت الدولةُ المدنية باسم الدولة المدنية، وصودرت الحرية باسم الحرية، ودفنت الديمقراطية بيد النخبة المؤدلجة علمانيا.

فهل الإفساد السياسي العربي هو الذي زرع الإشكالية خدمة للغرب حارس التخلف؟ سنواصل الحديث حتى يتسنى للقارئ حقيقة الإشكالية، وبالتالي يمكنه إصدار حكمه عن إحاطة.

  

ثانيا: الدولة المدنية.. المكونات والأبعاد

1- مكونات الدولة المدنية:
المقصود بالمكونات هنا الأرضية التي تنطلق منها الدولة المدنية والمتمثلة في:
أ- التعددية السياسية وحرية التفكير والتعبير.
ب- الديمقراطية.
ج- المجتمع المدني.
د- المواطنة المتساوية.
هـ- سيادة القانون.

2- أبعاد الدولة المدنية: المقصود بالأبعاد هنا هي المبادئ والقيم والأخلاق السياسية المتصلة بالفكر والممارسة والمتمثلة في:
أ- حرية الشعب، أي أن الشعب هو الذي يمنح الشرعية السياسية للسلطات.
ب- الشعب يختار قوانينه التي يحب أن يحتكم إليها يصيغها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
ج- دستور مكتوب، وكذلك القانون، تحت نظر الشعب.
د- برلمان منتخب.
هـ- استقلالية القضاء.
و- رقابة شعبية.
ز- تداول سلمي للسلطة تداولا حقيقيا.
ح- حرية الصحافة.
ط- تحديد صلاحيات السلطة ماليا وإداريا.
ي- تحديد الفترة الزمنية للحاكم.

بكلمة، ما سبق ذكره وما لم نذكره، يمكن بلورته في مفهومين فلسفيين هما: الولاء للأمة، واحترام إرادتها.

  

ثالثا: ثمار الدولة المدنية

المقصود بالثمار هنا هي الغايات التي جاءت الدولة المدنية لتحقيقها وترسيخها في المجتمع، وتتمثل هذه الثمار أو الغايات في:
1- تجسيد حرية الشعب.
2- تقليم أظافر الاستبداد وتفكيكه ومحاصرته على كل المستويات.
3- تحقيق السلام والاستقرار والتنمية، وصولا إلى الإبداع الفكري تنظيرا وإنتاجا وتحقيق الرفاه المجتمعي
والنهوض الحضاري.
4- إيجاد ضمانات حقيقية أي ضوابط قانونية، وتوعية المجتمع تربية وثقافة تجسيدا عمليا، أي تمكين الشعب من هذه الضمانات لحماية حقوقه.
5- تحقيق العيش الكريم لكل مواطن.

  

رابعا: التكييف الفكري إسلاميا لمصطلح الدولة المدنية

إذا تاملنا جيدا إلى مكونات المصطلح وأبعاده وثماره... إلخ، سنجد أننا أمام عمل دنيوي هدفه وضع تدابير متمثلة في شروط ومبادئ وضمانات ووسائل متفق عليها بين المواطنين تنظم العلاقة بين الشعب ومن يختارهم الشعب لخدمته، بحيث تتحول إلى ممارسة، من شأنها حماية حرية الشعب وكرامته وحقوقه.

وعليه، فما هو التكييف الفكري إسلاميا لمكونات وأبعاد وأهداف وغايات الدولة المدنية؟

التكييف الفكري الإسلامي يقول لنا إن هذه المبادئ والشروط هي:
1- سنن الله التي خلقها الله في النفس والاجتماع البشري.
2- إنها أوامر الله وقضاؤه الكوني الذي لا يحابي أحدا، فمن أخذ بها استجابت له، لا فرق بين مسلم وغير مسلم.
3- ليس هنا كفر وإسلام وإيمان، وإنما سنن دنيوية تنظم أحوال الاجتماع الإنساني، ومن خالفها تأتيه العقوبة الدنيوية سريعا: ظلم، جور، استبداد، مصادرة حقوق، حروب وتطاحن وصراعات وانقلابات. والنتيجة العامة، إنتاج التخلف وتدمير الإنسان وإهدار الثروات!

  

تعقيب وجوابه

يقول التعقيب: الكاتب جانب الصواب أو غالط، وفي أقل الأحوال ربما أنه نسي أن العلمانية ملازمة للدولة المدنية وللديمقراطية وهو الموقف الذي عرفته الأمة طيلة عقود حكم الدولة الوطنية، فأين مرجعية الشريعة بين ما ذكرتموه من مبادئ ومكونات وأبعاد وثمار؟

الجواب: سبق القول في الفقرة (ب) من الأبعاد والضمانات:
1- إن الهدف الأول والوسط والأخير أو المبدأ أو الشرط هو احترام حرية الشعب فيما يختاره من سلطة عليا ونواب وجهاز تنفيذي ودساتير ونظم وقوانين، وهذه هي المدنية وهي المواطنة المتساوية وهي الديمقراطية، وبالتالي فإن عقيدة الأمة وهويتها وشريعتها مكفولة في ظل احترام حرية الأمة والمجتمع.

2- ما فعلته الحكومات الوطنية من اشتراط العلمانية مع الديمقراطية والقومية والمواطنة والدولة المدنية، هو فعل التقليد اليساري السخيف بشقيه القومي والليبرالي والماركسي، هذ التقليد العربي الشاذ والأعمى لاقى نقدا لاذعا من مثقفين مسلمين وغير مسلمين ومن علمانيين أيضا.

  

الخلاصة

مصطلح الدولة المدنية، وإشكالياته ومكوناته وأبعاده وثماره... إلخ، هو عمل دنيوي مفيد تجسدت فيه قاعدة مقاصد الشريعة المتمثلة في جلب مصلحة ودفع مفسدة في آن.

يجب أن نتعامل مع مصطلح ومفهوم الدولة المدنية مجردا بعيدا عن ممارسات أهل التقليد المتمثل في طرفي السلفية الخاطئَين، أعني سلفية الليبراليين المقلدين للغرب، وسلفية التقليد للموروث، صاحب النظر السطحي الحرفي، وإن كانت دوافع الأخير إيجابية، لكن نتائج موقفه هي خدمة الاستبداد والفساد والإفساد والفجور السياسي.

  

خامسا: الحكم الشرعي في الدولة المدنية

سيتم تناول الحكم في محورين: الأول، حكم الدولة المدنية في فقه مقاصد الشريعة. والثاني، حكم الدولة المدنية من خلال مفرد "المدينة" في الاستعمال القرآني ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم.

المحور الأول: مفهوم مقاصد الشريعة

1- مقاصد الشريعة هي الغايات والأهداف التي جاءت الشريعة لتحقيقها وتتمثل في: جلب المصالح، ودفع المفاسد على مستوى الفرد والمجتمع. بصيغة أخرى، مقاصد الشريعة تعني تحقيق الصلاح ومحاربة الفساد ومحاصرته وتقليله على مستوى الفرد والمجتمع.

2- مقاصد الشريعة هي كليات الشرع أي أنها مكونةٌ من عشرات الأدلة تجتمع في قاعدة "جلب مصلحة أو دفع مفسدة".

3- إذا عرفنا أن قاعدة جلب المصلحة أو دفع المفسدة تقوم على عشرات الأدلة، فإنه يجب علينا تقديم القاعدة على النص الجزئي، لأن النص الجزئي هو نص واحد فقط، والقاعدة المقصدية مكونة من عشرات الأدلة الجزئية، وهذا يعني أن الأكثر مقدم على الأقل باتفاق فقهاء الأصول.

4- المثال، ينطبق المثال على حديث الغدير والبطنين والقرشية. هذه الروايات مهما صحت سندا فقد اتضح للعيان أنها تكرس العنصرية والطبقية والسلالية، وتفرق بين المواطنين، وبالتالي فإن كل واحدة من هذه الأمور مفسدة بل كارثة مجتمعية والواقع اليمني شاهد.

بكلمة، القاعدة المقصدية هنا هي العمل بما يحقق حرية الأمة وكرامتها وسيادتها في وطنها.

5- أخيرا..
أ- الدولة المدنية لا تتصادم مع قيم الأمة ولا مع هويتها، ولكن العملاء الحضاريين سلفيي الليبرالية هم المجرمون في حق الشعوب العربية.

ب- ندعو السلفية الحرفية أن تكون سلفية حقا وذلك بالعودة إلى الفقه الراشدي، فهو الفقه الخصب الذي فتح آفاقا لجلب المصالح ودفع المفاسد، وصدق الفاروق حين قال: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟".

فديننا وتشريعنا غني بما يجعل حرية الأمة هي صاحبة الشرعية السياسية، وليس في هذا أدنى تبعية أو تنازل عن الشرع الإسلامي.

إذا طبقنا قاعدة مقاصد الشريعة على النحو الآنف نكون قد جمعنا بين الولاء لله والولاء للأمة واحترام إرادتها.

نلتقي في الحلقة الثانية: المدنية في الاستعمال القرآني ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم.

كلمات دالّة

#الدولة_المدنية