الأحد 19-05-2024 06:44:57 ص : 11 - ذو القعدة - 1445 هـ
آخر الاخبار

تراكم الفشل.. لماذا ظهرت في اليمن هويات فرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة؟

الثلاثاء 26 نوفمبر-تشرين الثاني 2019 الساعة 09 مساءً / الإصلاح نت – خاص / عبد السلام الغضباني

 

برزت في اليمن خلال السنوات الأخيرة ظواهر سياسية غريبة، لعل أبرزها ظاهرة الهويات الفرعية التي صارت الموجه الرئيسي للأحداث والأزمة التي تشهدها البلاد، في مقابل تراجع الهوية الوطنية اليمنية الجامعة، حيث تعددت القوى المحلية ذات الهويات الفرعية ودون الوطنية، يقابل ذلك محدودية القوى التي ما زالت تتشبث بالهوية الوطنية اليمنية الجامعة وسط أمواج وعواصف هويات متعددة، تعمل على الإعلاء من شأن هوياتها الصغيرة وتهميش الهوية الجامعة لليمنيين.

وتتعدد الهويات الفرعية، أو الهويات الصغيرة ودون الوطنية، بتعدد كل التقسيمات العمودية والأفقية للمجتمع. فمثلا، تختلق مليشيات الحوثيين هوية سلالية وطائفية ومناطقية مزدوجة لتمرير مشروعها السلالي، واستبعدت من قاموسها تماما هوية اليمن الكبير الموحد والمتنوع، واختزلت كل شيء في هويتها السلالية وفي شخص سيدها المدعو عبد الملك الحوثي، في حين تزعم مليشيات ما يسمى المجلس الانتقالي أنها الممثل الرئيسي لهوية جنوبية وهمية (الجنوب العربي) وتنكر هويتها اليمنية، وهي بنفس الوقت تعلي من شأن هوية القرية التي ينتمي إليها معظم قادة "الانتقالي"، كما ظهرت تقسيمات أخرى تعلي من شأن الهويات الصغيرة دون الوطنية، وكل ذلك بسبب تراكم فشل الأنظمة التي حكمت اليمن قبل وبعد الوحدة في تذويب مختلف الهويات الفرعية في هوية وطنية واحدة، ويشمل الفشل شكل النظام وهويته السياسية والأيديولوجية ونظرته للدولة، وهو ما سنوضحه في السطور التالية.

- هوية النظام الحاكم

شكلت أزمة الهوية أبرز مسببات الصراعات والحروب الأهلية في اليمن خلال العقود الأخيرة، حيث فشلت أنظمة الحكم المتعاقبة في ترسيخ الهوية الوطنية الجامعة، بل فقد كانت تلك الأنظمة ذاتها ترسخ الهويات الفرعية، وظهرت صراعات بين أجنحتها بدوافع هويات فرعية، مناطقية وقبلية وعائلية وغيرها، مما أسهم في تجذير مسببات الصراع الداخلي، وأبرز مثال في هذا السياق أحداث 13 يناير 1986، التي نشبت بين جناحي الحزب الحاكم في جنوب اليمن قبل الوحدة، وكان انقسام الحزب الحاكم إلى جناحين بدوافع هويات مناطقية وجغرافية، وكان القتل خلال تلك الأحداث يتم وفقا لبطاقة الهوية والانتماء المناطقي لحاملها.

ظلت أزمة الهوية أبرز أزمات النظام السياسي في اليمن قبل وبعد الوحدة، وفي بعض الأحيان شهدت البلاد تنافرا بين هوية النظام السياسي وهوية القطاع الأوسع من سكان البلاد، هذا التنافر وما نجم عنه من صراعات داخلية أثر بشكل بشع على هوية الدولة وهوية نظام الحكم، حيث غابت الهوية الوطنية الجامعة وحلت مكانها الهويات الفرعية دون الوطنية المستندة إلى معايير قبلية ومناطقية ومذهبية، فظهرت على إثر ذلك النزاعات التي اتخذت طابعا مناطقيا ومذهبيا وقبليا في الصراع على السلطة والثروة وحتى المكانة الاجتماعية.

وإذا كانت اليمن تتميز بعدم تعدد الأعراق والإثنيات فيها، إلا أنها تعتبر من أكثر الدول العربية تأثرا بمخلفات عهود الحكم الإمامي السلالي والاحتلال الأجنبي التي رسخت الانقسامات على أسس مناطقية ومذهبية، فغابت في خضم هذا الصراع الهوية الوطنية الجامعة، وظلت الهوية الوطنية الجامعة غائبة عن التأثير في المشهد السياسي حتى الوقت الحالي.

كما أن الصراع حول هوية الدولة في اليمن تأثر في كثير من الأحيان بذات الصراعات التي شهدتها الكثير من البلدان العربية، وخاصة في منتصف القرن العشرين، حيث شهدت تلك الحقبة صعود المد القومي العربي الذي تزامن مع ثورات التحرر العربية ضد الاحتلال الأجنبي، كما شهدت تلك الحقبة أيضا ولادة الحركات الإسلامية السياسية وتنامي دورها في الحياة العامة، بالإضافة إلى انتشار الأحزاب الشيوعية في بعض البلدان العربية.

وخلال تلك الحقبة، شهدت اليمن صراعات كثيرة حول هوية الدولة، خاصة ما يتعلق بهوية دولة الوحدة أثناء النقاشات التي سبقت الإعلان عنها، هل تكون شيوعية أم محافظة رأسمالية، وتسببت تلك الخلافات في تأخير تحقيق الوحدة لسنوات عديدة، قبل أن يتم الإعلان عنها فجأة عام 1990 نتيجة لعدة عوامل محلية ودولية ساعدت على ذلك ليس هنا مجال ذكرها.

وكان الخلاف حول هوية الدولة قبل عام 1990 رافقه خلافات داخل كل شطر على حدة حول هوية الدولة الشطرية أو نظامها السياسي، ففي الشمال ظهرت الخلافات حول هوية الدولة فور قيام ثورة 26 سبتمبر 1962، فهناك من يريدها جمهورية محافظة، وهناك من يريدها قومية علمانية، وهناك من يريدها شيوعية. وفي الجنوب، ظهرت خلافات بين قطبي الجبهة القومية (التيار المحافظ والتيار الشيوعي المتطرف)، وانتهى الصراع بسيطرة التيار الشيوعي المتطرف على السلطة، ثم ظهرت خلافات اتخذت طابعا قبليا ومناطقيا على السلطة، أسفرت عن اغتيال بعض رؤساء الشطرين والانقلاب على البعض الآخر. 

وبعد الإعلان عن إعادة تحقيق الوحدة، ظهرت الخلافات مجددا حول هوية الدولة الجديدة، ثم ظهرت نفس الخلافات بعد اندلاع الثورة الشعبية السلمية عام 2011، وهي خلافات تأتي بسبب تعدد التيارات ذات الخلفية الأيديولوجية، وكل منها يريد أن تكون هوية الدولة وفقا لرؤيته، ويبدو أن هذه الصراعات ستظهر بين الفينة والأخرى، مادام أن أطرافها ما زالت فاعلة في المشهد السياسي، يأتي ذلك رغم أن هناك من يريد أن تكون الدولة بلا هوية واضحة حتى يسهل حكمها بواسطة عائلة أو قبيلة أو سلالة محددة.

ولعل أخطر ما في الصراع حول هوية الدولة أنه أسهم في غياب الهوية الوطنية الجامعة، وساعد على ظهور الهويات الفرعية دون الوطنية، فالهويات المتصارعة حول طبيعة نظام الحكم تتخذ طابعا نخبويا، بينما الهويات الفرعية تتخذ طابعا قبليا وعائليا ومناطقيا وسلاليا بحتا، وهنا تتعقد المشكلة وتتشابك خيوطها حتى تصبح عصية على الحل.

- غياب الدولة

ومن أسباب غياب الهوية الوطنية الجامعة، وتعدد الهويات الفرعية، الغياب الكبير للدور الذي يجب أن تؤديه الدولة في الحياة العامة، سواء من خلال توفير الخدمات العامة والتوزيع العادل للثروة والوظيفة العامة، أو في الفصل بين الخصومات التي تحدث بين المواطنين أو بين بعض القبائل والعائلات بشكل سريع وعادل.

وشكلت ظواهر سلبية، مثل الرشوة والوساطة والمحسوبية، من أكثر الظواهر التي أثرت على سمعة الدولة، كما أن عجز الدولة عن بسط سيطرتها على كامل تراب الوطن جعل المواطنين يشعرون بالاغتراب، مما أدى إلى لجوئهم إلى قبائلهم سواء للبحث عن الحماية والأمن أو حل المشاكل والخصومات الشخصية. وجراء ذلك، شهدت مناطق واسعة من البلاد تنامي دور شيخ القبيلة على حساب الدور الذي يفترض أن تقوم به الدولة، والأبشع أن الدولة ذاتها شجعت مثل هذا الأمر، خاصة خلال عهد الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، ومثل هذه الظواهر ساعدت على تنامي الهويات الفرعية ودون الوطنية على حساب الهوية الوطنية الجامعة.

- الصراع على السلطة

اتسم الصراع على السلطة في اليمن بأنه يتم وفقا لدوافع عائلية وسلالية ومناطقية وقروية، مما أسهم في تهميش الهوية الوطنية الجامعة وتغذية الهويات الفرعية دون الوطنية، فتجذرت مسببات هذه الصراعات حتى بدت وكأنها قدرا محتوما لا يمكن الفكاك منه، خاصة أن الأنظمة التي تمكنت من السيطرة والحكم لم تستطع تذويب مختلف الهويات الفرعية في الهوية الوطنية الجامعة، بل فقد ظلت ترتكب أخطاء أسهمت في تغذية مسببات العنف وتجذير مختلف الهويات الفرعية دون الوطنية كرد فعل على سلوك النظام الحاكم وفشله في إدارة البلاد.

كما شكلت الصراعات على السلطة أبرزت المعوقات التي حالت دون بناء الدولة، وتسببت في تنوع الأزمات المرتبطة بالصراع السياسي والذي انحرف في محطات كثيرة إلى صراع عسكري عنيف بسبب الخلافات حول السلطة والتحكم بثروات الشعب وإساءة استغلالها من خلال احتكارها وإنفاق جزء كبير منها بشكل عبثي يذهب لصالح النظام الحاكم وعلاقاته الزبائنية الداعمة لاستمرار حكمه وتسلطه واستبداده.

وكان اليمنيون قد تفاءلوا كثيرا بثورتي 26 سبتمبر 1962 و14 أكتوبر 1963، كونهما قضتا على عهود الإمامة السلالية والاحتلال الأجنبي، إلا أن هذا التفاؤل سرعان ما تبخر بعد أن نشبت الصراعات بين الجمهوريين أنفسهم، الذين فشلوا في التوافق على صيغة محددة لملامح النظام الجمهوري الوليد.

وظلت النزعات العائلية والقبلية والمناطقية هي المسيطرة على تفكير السياسيين وصراعاتهم البينية على السلطة في شطري البلاد قبل الوحدة، وتم تغليف هذه الصراعات بخلافات أيديولوجية حتى لا ينكشف زيف المتصارعين على السلطة ومدى صدق اقتناعهم بالنظام الجمهوري الديمقراطي التعددي، حتى جاء عهد علي عبد الله صالح، والذي شهد فيه النظام الجمهوري الديمقراطي التعددي أسوأ انتكاساته منذ ثورة 26 سبتمبر 1962، حيث ظل علي صالح يمدد لنفسه بطرق مفضوحة من خلال التعديلات الدستورية المتعلقة بمدة الفترات الرئاسية، ثم توج تلك التعديلات بمحاولة توريث السلطة لنجله الأكبر أحمد، وكان ذلك أحد وأهم الأسباب التي أشعلت الثورة الشعبية السلمية عام 2011 ضد نظام علي صالح وعائلته.

ثم إن الثورة المضادة لثورة الشعب السلمية تسببت في ما وصلت إليه البلاد من حروب أهلية وتدخل خارجي ودمار شمل كافة مناحي الحياة. ويرتبط الصراع الدائر حاليا ارتباطا وثيقا بأزمة النظام السياسي وتراكم فشله في إدارة البلاد، ويأتي هذا الصراع بسبب اعتراض منظومة الحكم الفاسدة على طموحات الشعب في قيام نظام حكم جمهوري ديمقراطي تعددي عادل، وتصادم ذلك مع محاولات البعض إعادة نظام الحكم الإمامي الطائفي أو العائلي القبلي المنافي تماما للهوية الوطنية الجامعة ولطموحات مختلف أبناء الشعب في بناء دولة ديمقراطية حديثة.

كلمات دالّة

#اليمن