الثلاثاء 10-12-2024 04:24:48 ص : 9 - جمادي الثاني - 1446 هـ
آخر الاخبار

اليمن: فرص التمويل وإخفاق التنمية

الخميس 11 مايو 2017 الساعة 08 مساءً / التجمع اليمني للاصلاح - خاص

أ.د. نجيب سعيد غانم الدبعي  (4-1)

الخلفية التاريخية
لا يوجد في منطقتنا العربية، ولا في الدول النامية، بلد كاليمن الذي أضاع فرصاً ذهبية في التمويل والتنمية منذ نشأته في تاريخه المعاصر سواء في شطره الشمالي في الفترة التي أعقبت ثورة 26 سبتمبر عام 1962م وإعلان قيام الجمهورية العربية اليمنية، أو في شطره الجنوبي بعد التحرر والاستقلال من الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر 1967م والإعلان عن قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية (سميت فيما بعد بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية), أو في الفترة التي أعقبت الإعلان عن الوحدة الاندماجية بين الشطرين وقيام دولة اليمن الموحد الذي عرف باسم الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو عام 1990م.

 

برامج التمويل والتنمية في شطري اليمن قبل الوحدة
لم يعرف شطرا اليمن قبل الوحدة برامج تنموية ذات فاعلية وأثر حقيقي في تحسين مستوى المعيشة ومكافحة الفقر لدى المواطنين؛ ففي الوقت اعتمد الشطر الشمالي بالكامل في ميزانيته وبرامجه التنموية – خاصة في الفترة التي سبقت اكتشاف البترول والغاز فيه – على دعم ومساندة المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي خاصة الكويت والإمارات، وإلى حد ما من العراق، والدعم الدولي القادم من الدول المانحة في أوروبا وأمريكا واليابان والصين وروسيا، وفي معيشة السكان على تدفقات المغتربين اليمنيين العاملين في السعودية ودول الخليج العربي وأوروبا وأمريكا، وقد تسببت تدفقاتهم المالية بالعملة الصعبة إلى تأمين الأموال بشكل نسبي لسعر صرف العملة اليمنية، كما ساهمت من العملة الصعبة لتغطية الاستيراد من الخارج.


أضاع الشطر الشمالي فرصاً ذهبية كثيرة عندما كانت تتدفق عليه أموال سخية قادمة من المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي أيام الطفرة المالية فيها في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وذلك في تمويل وتنمية بنيته الأساسية مثل الطرق السريعة وإنتاج الكهرباء وخدمات المياه والصرف الصحي والإسكان والتعليم والصحة وغيرها، حيث ابتلعت منظومة الفساد فيه الكثير من تلك التدفقات المالية المقدرة بخمسين مليار من الدولارات مقدمة من المملكة العربية السعودية وحدها.
وعندما لا حظ الأشقاء في السعودية ودول الخليج العربي العبث بتلك المساعدات المالية السخية وصرفها في غير الغرض من اعتمادها والتي كانت ترد على شكل تحويلات نقدية إلى البنك المركزي اضطرت إلى افتتاح مكاتب لتمويل وتنفيذ الكثير من مشاريع البنية التحتية في الشطر الشمالي، فرأينا مكتب المشاريع السعودية، وكذلك مكتب للمشاريع تابع لدولة الكويت، وقس على ذلك هيئات ومنظمات ومكاتب متخصصة في تنفيذ وتمويل مشاريع تابعة لليابان ولأمريكا وللدول الأوروبية في صنعاء.


أما في الشطر الجنوبي قبل الوحدة فقد جاء الإعلان عن انسحاب القوات البريطانية الاستعمارية من عدن يوم 29 نوفمبر 1967م بعد مفاوضات في جنيف بين الحكومة البريطانية ووفد يمثل الجبهة القومية، والذي تنازلت بموجبه عن الكثير من الاستحقاقات المالية والمميزات في التعامل المستقبلي مثل الدول الأعضاء في منظومة الكومنولث (الدول التي استقلت من الاستعمار البريطاني) والذي كان مقرراً أن تلتزم بها بريطانيا للحكومة اليمنية التي ستتولى الحكم بعد انسحاب قواتها من عدن، وقد كانت تلك الاتفاقية -بنظر الكثير من الفاحصين والمحللين والدارسين- أقرب إلى التفريط بالحقوق التاريخية والوطنية والسيادية للشطر الجنوبي من اليمن، باعتبار أن حقبة استعمارية للشطر الجنوبي من اليمن امتدت لقرابة 128 عاما ( من سنة 1839م الى 1967م) كانت تستدعي وفق القانون الدولي تعويضاً عادلا من جراء استثمار واستخدام الاستعمار البريطاني وقواعده العسكرية للموارد والمرافق والموانئ في جنوب اليمن باعتبارها قاعدة إقليمية كانت تخدم قواته العسكرية وجهازه الإداري, وقد أعقب الإعلان عن استقلال الشطر الجنوبي من الوطن يوم الثلاثين من نوفمبر 1967م إدارة الحكم فيه من قبل الجبهة القومية بخزينة حكومية تقريبا فارغة مالياً، ثم كانت المعالجات المالية الكارثية من قبل الرفاق والإجراءات التي أعقبت ذلك بتأميم منازل المواطنين ومدخراتهم الخاصة في البنوك ومؤسساتهم الاقتصادية من الشركات والمحلات التجارية وأدوات الإنتاج من المعامل وغيرها، وكذلك الإجراءات السياسية والأمنية بمنع المواطنين من السفر والمحاكمات العشوائية الغير عادلة للكثير من الحالات والأحكام الجائرة الصادرة والتي أغلبها الإعدام، كلها ألحقت الكثير من الأضرار النفسية في سمعة النظام الحاكم و في البنية الاقتصادية وفي البيئة الاستثمارية حتى أضحى معظم سكان الشطر الجنوبي يعاني الفقر والعوز والفاقة.

 

برامج التمويل والتنمية في اليمن بعد الوحدة
ألقى اقتصاد الشطر الجنوبي بكل إخفاقاته وفجواته على اقتصاد الشطر الشمالي الهش والمتكئ على المعونات والإعانات الخارجية القادمة خاصة من الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية عشية قيام الوحدة، وكانت الفترة الانتقالية الممتدة من مايو 1990 وحتى مايو 1993م فترة بداية الاستنزاف الفعلي للموازنات العامة وللاحتياطات بالعملة الصعبة في البنك المركزي بصنعاء، حيث عمد طرفا الائتلاف الحاكم (المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني) على استنزاف الميزانية الحكومية في عمليات محمومة لترتيب أوضاع الكوادر الحزبية لكلا الحزبين في دولة الوحدة، وذاعت مقولة إرهاق الفساد عند الرفاق الاشتراكيين في تبريرهم لاستنزاف موارد الدولة الهشة، وممّا زاد الطين بلّة وكانت القاصمة في ظهر الاقتصاد الوطني هو دخول صدام حسين للكويت ووقوف نظام علي عبدالله صالح مع غزو العراق للكويت، وما تلا ذلك من تداعيات كارثية علي الاقتصاد اليمني تمثلت في:


- إيقاف المساعدات المالية والتنموية السعودية والخليجية للجمهورية اليمنية.
- ارتفاع حجم المديونية الداخلية والخارجية في دولة الوحدة إلى ضعف الناتج المحلي الإجمالي العام.
- إرتفاع نسبة العجز في الموازنة العامة إلى نسب قياسية وصلت في العام 1994 الى 22%
- ارتفاع معدلات التضخم بدرجات لم تشهدها اليمن من قبل حيث وصلت في العام 1994 الى 72 %، وإن كانت بعض التحليلات تشير إلى أنها تجاوزت ذلك المعدل بكثير.
- رجوع حوالي أكثر من مليون ونصف من المغتربين اليمنيين من السعودية ودول الخليج العربي الى اليمن، وقد كانت مدخراتهم وتحويلاتهم السنوية إلى اليمن تصل إلى اثنين مليار دولار سنويا، والتي كانت تعد من أهم مصادر التمويل للكثير من السكان.
- النمو السالب في الناتج المحلي لعدة سنوات متتالية وتجميد الاستثمار وهروب رؤوس الأموال الوطنية.
- استفحال البطالة وارتفاع معدلاتها لتصل إلى حوالي 40% في أوساط القوى العاملة من الشباب.


لقد ساهمت تلك التحويلات في الاستقرار النسبي للعملة اليمنية (الريال) وفي تغطية ميزات المدفوعات بالعملة الصعبة للمواد المستوردة من الخارج، وكانت النتيجة هي بداية الانهيار الفعلي للعملة اليمنية الريال خاص أمام الدولار والريال السعودي والعملات الصعبة الأخرى، وفي تلك الفترة فقد الريال حوالي 40% من قيمته الشرائية.

 

البنك الدولي وبداية برامج الإصلاحات الهيكلية والاقتصادية في اليمن
وبتطبيق بعض من الشروط التي فرضها البنك الدولي على السلطة في منتصف التسعينيات من القرن الماضي حتى يطلق حزمة القروض ويزكي جملة من المساعدات والهبات لدى المانحين الدوليين إزاء اليمن, فقد كانت الآثار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية التي خلّفتها تلك الشروط على اليمن مأساوية بامتياز.


بلغت الشروط المجحفة في حق الدول النامية للبنك الدولي عام 1999 حوالي 114 شرطا فرضت على الكثير من دول افريقية جنوب الصحراء وزادت تلك الشروط لتصل إلى 150 شرطا على تنزانيا، وكان لليمن نصيب الأسد من لك الشروط، وقد تبين أن سياسات وتدخلات البنك الدولي، وكذا صندوق النقد الدولي فيما يسمى بالإصلاحات الاقتصادية للدول النامية، وصلت حدا انتهكت من خلاله السيادة الوطنية لتلك الدول؛ بل أضحى الارتباط بقروض البنك الدولي سواء قصيرة او طويلة الأمد بمثابة نسيان تلك الدول لبرامج التنمية المستدامة فيها، وأضحى اقتراضها من البنك من أجل تسديد الديون القديمة المستحقة عليها، وكذا تسديد فوائد تلك الديون، وأن المثل الصارخ الذي يضرب به المثل هنا هو نيجيريا، إلا أنّ مآلات برامج ما سمي بالإصلاحات السعرية لا يختلف عن تلك النتيجة التي وصلت إليها نيجيريا البلد الأفريقي المصدر للنفط والذي يرزح معظم سكانه تحت خط الفقر.

 

وقد شكّل العام 1995م عاماً فارقاً في واقع الاقتصاد اليمني, وحتى يبدو الاقتصاد اليمني متماسكاً وأرقام الموازنة الحكومية فيه تبدو واعدة بالتحسن والنمو قامت الحكومة اليمنية بتزيين موازناتها بأرقام وهمية وكاذبة خاصة أبوبها المتعلّقة بالإيرادات والنفقات وفي البرنامج الاستثماري لتبدو متناغمة مع بداية تطبيق برامج البنك الدولي المؤلمة فيما سمي شعبياً بـ(الجرعات السعرية) وسمي رسميا ببرنامج الإصلاحات الاقتصادية؛ حيث كان في الحقيقة برنامجاً لزيادة التحصيلات الريعية والضرائبية المالية عبر رفع أسعار المشتقات البترولية المترافقة مع الزيادة في أسعار الخدمات التي تقدمها الحكومة مثل قيمة فواتير الماء والكهرباء وغيرها، وقد زادت بالفعل الإيرادات المتحصلة للدولة التي لم تنعكس في زيادات حقيقية في أجور الموظفين ولا في خفض مستوى التضخم أو حماية سعر العملة المحلية الريال، ولا في إحداث تنمية حقيقية كما كانت تدعي السلطة آنذاك، بل التهمتها منظومة الفساد المزمن في دهاليز السلطة وفي بنية الجهاز التنفيذي للدولة وكانت النتيجة الطبيعية لتلك السياسة الاقتصادية الخرقاء هي زيادة أسعار المواد الغذائية الأساسية، وزيادة أجور المواصلات، وكلفة المدخلات والمخرجات الزراعية، وبالتالي زيادة في كلفة معيشة المواطنين واتساع من رقعة الفقر.