الجمعة 06-12-2024 10:10:58 ص : 5 - جمادي الثاني - 1446 هـ
آخر الاخبار

التغول الإيراني في البحر الأحمر وبحر العرب "رؤية استراتيجية تحليلية تستند إلى قاعدة معلوماتية صحيحة"

الأربعاء 01 نوفمبر-تشرين الثاني 2017 الساعة 06 مساءً / الاصلاح نت - متابعات/ عبده سالم (الحلقة الأولى)

     

المعلوم أن اليمن ينتمي إلى نظامين أمنيين إقليميين في آن واحد، بحكم موقعه الاستراتيجي على مضيق باب المندب الذي يربط البحر الأحمر ببحر العرب.

الأول: النظام الأمني لدول بحر العرب، ويبدأ من خليج عدن غربا إلى خليج عمان شرقا وصولا الى مضيق هرمز في إطار الامتداد الطبيعي للمحيط الهندي. ويتشكل هذا النظام حاليا من: اليمن (الجنوب) إضافة إلى الصومال، وعمان، وإيران، وباكستان، والهند، وجزر المالديف.

الثاني: النظام الأمني لدول البحر الأحمر، ويبدأ من خليج عدن وباب المندب جنوباً، وصولاً إلى خليج العقبة شمالا، ويتشكل هذا النظام من: اليمن (الشمال) إضافة الى جيبوتي، واريتريا، والسودان، ومصر، والسعودية، والأردن، وفلسطين (إسرائيل).

لكل نظام من هذين النظامين مصالحه، ومناطق نفوذه التي عادة ما تكون مناطق نفوذ تنافسية بين النظامين، وهو التنافس الذي قد يؤدي إلى التصادم بين النظامين الأمنيين وتكون النتيجة انفصال النظام الأمني لبحر العرب عن النظام الأمني للبحر الأحمر، وبالتالي انفصال اليمن إلى شطرين (شمالي، وجنوبي).

حقيقة التنافس والصراع بين هذين النظامين الأمنيين الإقليميين في هذه المنطقة الاستراتيجية له مرتكزات تاريخية ثابتة وأخرى معاصرة وراهنة، وكلها مرتكزات معلومة لدى شعوب هذه المنطقة، ويمكن إجمالها بالتالي:

  • المرتكز التاريخي (مرحلة ظهور الإسلام)

ما هو معلوم تاريخياً بأن إمبراطورية الروم كان لها نفوذ واسع ومؤثر على النظام الأمني للبحر الأحمر، أو ما يسمى في حينها ب(بحر الحبش) وذلك من خلال عمقها الإقليمي بالحبشة...حيث عرف عن الأحباش أنهم أمة تابعة للدولة الرومانية وحارسة لحدودها الأمنية في القطاع الإفريقي للبحر الأحمر...والروم إمبراطورية مسيحية لها مركزها بالشام بالقرب من خليج العقبة، وتحديداً في (المنطقة الصخرية في بتراء الأردن المحاذية للكيان الإسرائيلي حاليا).

 المعلوم أيضاً أن امبراطورية فارس كانت هي الأخرى تسيطر على النظام الأمني لبحر العرب أو ما يسمى ب(بحر فارس)، والفرس أمة سكنت شرق الجزيرة العربية وامتد نفوذها إلى المحيط الهندي ومعظم ساحل بحر العرب الممتد إلى شرق إفريقيا عبر الصومال.

الثابت تاريخياً أن الرومان استخدموا ذراعهم الأمني في البحر الأحمر (الحبشة) ودفعوا بالأحباش عبر باب المندب إلى بحر العرب، ومن ثم احتلوا اليمن (جنوب الجزيرة العربية)، وفي الاتجاه نفسه، فقد ثبت تاريخياً أيضاً بأن امبراطورية فارس هي الأخرى أوعزت إلى حليفها الأمير (سيف بن ذي يزن) بطلب النجدة من الفرس ومن ثم الاستعانة بالنظام الأمني لبحر العرب بقيادة الفرس، وهو ما فتح الباب لدخول حملة عسكرية فارسية إلى اليمن تمكنت من دحر الأحباش واحتلال اليمن في آن واحد.

أما بالنسبة لمنطقة الجزيرة العربية، فالمعلوم عنها أنها كانت تعيش في ظل حالة من الاستقطاب الدولي الحاد لهذين النظامين؛ بحكم وقوعها في منطقة الوسط؛ أي في حالة شد وجذب بين النظام الأمني للبحر الأحمر في الحبشة بقيادة الروم والنظام الأمني لبحر العرب بقيادة فارس، وظلت على هذا الحال إلى أن أنعم الله على الأمة ببزوغ فجر الإسلام وخاتمة الرسالات.

كانت هذه الحالة من الصراع الأمني والتنافس الاستراتيجي في إطار هذين النظاميين الأمنيين واضحة لدى الرسول -صلى الله عليه وسلم- منذ أن بدأ بنشر دعوته، وتبليغ رسالة ربه للعالمين، لاسيما وأن مكة حيث مركز الدعوة الإسلامية في وسط الجزيرة العربية كانت في حينها لا تزال تعيش آثار الصراع بين هذين النظامين بأبعاده السياسية، والاقتصادية، والأمنية؛ وهو ما يدل على أن هذين النظامين - في لحظة بزوغ فجر الإسلام- كانا في ذروة فاعليتها، ويشكلان بحكم تنافسهما تهديداً أمنيا لمنطقة الجزيرة العربية؛ فالنظام الأمني لمنطقة البحر الأحمر كان يستند على قوة الرومان، وفي عهدهم وصلت قوة الدولة الأكسومية في الحبشة إلى ما وراء النيل، كما أن ساحل إريتريا هو الآخر كان بمثابة الأسطول العسكري الفاعل الذي بمقدوره تطويق الجزيرة العربية عبر البحر من الغرب. والأهم من ذلك فإن ملوك هذه الدولة كانوا قد اشتهروا قبل الإسلام بالعدل والحرية، وبكراهية الظلم؛ وهو ما يزيد من فاعلية نظامهم الحضاري ويمد من نفوذه.

أما علي صعيد النظام الأمني لبحر العرب، فقد كان هو الآخر يخضع كليا لهيمنة الفرس بقيادة باذان، الذي كان في لحظة بزوغ فجر الإسلام والياً على عدن في بحر العرب، وكذا على صنعاء وضواحيها، وقسم من شبه الجزيرة العربية؛ ولهذا كانت اليمن في عهد باذان لا تزال تشكل مركز الاستقطاب والثقل في الجزيرة العربية.

ويمكن الاستشهاد على ذلك بتصورات الملك الفارسي لدور اليمن في الجزيرة، عندما أرسل هذا الملك إلى واليه في اليمن يأمره بالقبض على رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم- في الحجاز وإحضاره إلى المدائن حيا أو ميتاً، وفي ذلك دلالة على ما كانت تمثله اليمن من أهمية استراتيجية لفارس، باعتبارها الذراع الأمني الفارسي الذي بإمكانه أن يطال وسط وشمال الجزيرة العربية برمتها وبالتالي يصل إلى المركز للقبض على رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم.

على هذا الأساس ولأهمية هذين العمقين الاستراتيجيين، ولما يشكلانه من تهديد للجزيرة العربية حيث مركز الدعوة الإسلامية؛ فقد كانت استراتيجية الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي إيصال الدعوة سلمياً إلى المركزين السياديين لهذين النظاميين الأمنيين، ومن ثم إخضاعهما لسيادة واحدة، حتى يسود الأمن والاستقرار منطقة الجزيرة العربية كلها.

المعلوم في هذا الوضع، واستناداً إلى هذه الاستراتيجية النبوية؛ فإن دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانت فعلاً قد وصلت إلى المركز السيادي للنظام الأمني الفارسي لبحر العرب، حيث اهتدى باذان (والي كسرى في اليمن)، ودخل الإسلام استجابة لدعوة المصطفى -صلى الله عليه وسلم.

ما ينبغي الإشارة إليه في هذا الوضع: أنه عندما اعتنق باذان الإسلام كان لا يزال والياً على عدن في بحر العرب وكذا على صنعاء وضواحيها وقسم من جنوب شبه الجزيرة العربيّة، إلا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعاد تعيينه من جديد واليًا على تلك المنطقة التي كانت تقع أصلا تحت نفوذه قبل أن يسلم...أي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أراد من عملية إعادة تعيينه على هذا النحو، هو إكسابه الشرعية السيادية الجديدة للدولة الإسلامية؛ وبالتالي تحريره كليا من شرعية الدولة الفارسية، وبهذا التعيين يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد سحب البساط السيادي في اليمن عن المركز الكسروي في فارس، ومن ثم نقله إلى سيادة المركز في الدولة الإسلامية في مكة. على هذا الأساس يمكن القول أنه بدعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لباذان للدخول في الإسلام، ومن ثم إعادة تعيينه من قبله -صلى الله عليه وسلم- واليا على اليمن بالشرعية السيادية الجديدة للدولة الإسلامية، تكون الدولة الإسلامية بهذا الإجراء قد هيمنت على النظام الأمني لبحر العرب بكل قوامه السيادي والاستراتيجي.

أما بالنسبة للعمق الاستراتيجي الآخر المتصل بالنظام الأمني للبحر الأحمر فقد كانت الخطة الأمنية للرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم- تقتضي البحث عن قاعدةٍ أمنية أخرى جديدةٍ للدعوة غير مكة...قاعدة جديدة تحمي العقيدة وتكفل لها الحرية، بحيث تظفر بحرية الدعوة وحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة، وهذا في تقدير الكثير من كتاب السيرة النبوية هو السبب الأول والأهم في هجرة الصحابة -رضوان الله عليهم- إلى الحبشة؛ ولهذا فإن الاقتصار على القول بأن الصحابة -رضوان الله عليهم- هاجروا إلي الحبشة لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قويةٍ، فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذاً أقل الناس وجاهةً وقوةً ومنعةً من المسلمين، غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا، إنما هاجر رجالٌ ذوو عصبيات، لهم من عصبيتهم في بيئةٍ قبليةٍ ما يعصمهم من الأذى؛ أي أن المهاجرين إلى الحبشة كانوا في حقيقتهم وجهاء، وأصحاب منعة وقادة أ ري وأقدر على التأثير في أهل البلد

الذي سيهاجرون إليه... من هذا المنطلق، يمكن القول بأن هؤلاء المهاجرين من الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا في حقيقة أمرهم سفراء الإسلام على الأرض الجديدة، وقد أسلم على يديهم حليف الرومان في الحبشة (الملك النجاشي)، فكان ذلك فتحاً جديداً للإسلام، وهو الفتح الذي بموجبه وصلت الدعوة الإسلامية إلى المركز

السيادي للنظام الأمني للبحر الأحمر. ومن هذا المنطلق، يمكن القول أنه بإيفاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الكوكبة من المهاجرين إلى الحبشة، وبدخول الملك النجاشي في الإسلام على يد هذه الكوكبة من المهاجرين تكون الدولة الإسلامية بهذا الإجراء قد هيمنت كلياً على العمق الاستراتيجي الأمني للبحر الأحمر.

خلاصة ما يمكن قوله في هذا المرتكز التاريخي: أنه بوصول الدعوة الإسلامية إلى صميم وضعها السيادي في صنعاء، وما ترتب عن ذلك من دخول (باذان) في الإسلام، وإعادة تعيينه والياً على اليمن بالشرعية السيادية الجديدة للدولة الإسلامية، وكذا وصول الدعوة الإسلامية إلى الوضع السيادي في الحبشة، وما ترتب عن ذلك من دخول (النجاشي) في الإسلام تكون الدولة الإسلامية قد سيطرت سلمياً بشكل كامل على النظامين الأمنيين للبحر الأحمر وبحر العرب بكامل قوامهما السيادي والاستراتيجي، ليتحول مضيق هرمز والمنطقة المجاورة له من فارس وكذا مضيق باب المندب والمنطقة المجاورة له من القرن الإفريقي إلى عمقين إقليميين استراتيجيين للدولة الإسلامية في الجزيرة العربية بعد أن ظلا فترة من التاريخ قبل الإسلام في حالة صراع مستمر يهدد الأمن والاستقرار في الجزيرة العربية... ومن حينها لم يعد اليمن الذي كان تحت هيمنة فارس سوى عمقاً وطنياً داخلياً للدولة الإسلامية في الجزيرة العربية، أما العمقان الإقليميان للدولة الإسلامية في الجزيرة العربية فهما القرن الأفريقي بالقرب من باب المندب غرباً، ومنطقة الأهواز بالقرب من مضيق هرمز شرقاً.

استمرت هذه الوحدة بين هذين النظامين الأمنيين واندماجهما في سيادة إقليمية واحدة في دولة الخلفاء الراشدين، والدولة الأموية، والدولة العباسية، وحتى دولة الأتراك وبداية الحروب الاستعمارية في المنطقة، وصولاً إلى نهاية الحر العالمية الثانية، وما أعقبها من تداعيات بفعل أحداث الحرب الباردة التي شكلت تهديداً مباشرًا لوحدة هذين النظامين الأمنيين في التاريخ المعاصر.