الجمعة 17-05-2024 08:24:10 ص : 9 - ذو القعدة - 1445 هـ
آخر الاخبار

النظرية السياسية في الإسلام.. دراسة دلالية سننية مقاصدية

السبت 27 يونيو-حزيران 2020 الساعة 07 مساءً / الإصلاح نت – خاص / عبد العزيز العسالي

 

أولا: إضاءات من الذكر الحكيم

قال تعالى: "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين • يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم".

وقال تعالى: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم". وقال: "قرآنا عجبا • يهدي إلى الرشد". وقال: "تبين الرشد من الغي". وقال تعالى: "فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى".

وقال تثبيتا للرسول صلى الله عليه وسلم وإيضاحا لأمته عبر الأزمنة: "ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا". وقال: "ما فرطنا في الكتاب من شيء". 

إننا أمام نصوص مكثفة تضمنت عددا من الدلالات.. نصوص صادر ة من لدن حكيم عليم، غير أننا لا نريد الدخول في تفاصيل عمق الدلالة فليس مجالها، ولكن ما يهمنا هو الانطلاق من مقاصد القرآن التي تعددت غاياتها وأهدافها ومن أبرزها "الحث" على طرح السؤال. إذن، يجب علينا طرح أسئلة ذات صلة بموضوعنا فنقول: 

1- هل مقاصد القرآن تضمنت معان ومفاهيم ودلالات تمكننا من الوصول إلى بلورة "نظرية سياسية"؟ إذا كانت الإجابة: نعم، فالسؤال الثاني هو: ما هي المضامين القرآنية المكونة للنظرية السياسية في الإسلام؟

3- ما المكانة التشريعية لتلك المضامين؟

4- إذا بحثنا في مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم هل سنجد تلك المعالم والمضامين؟
 
منهج الدراسة: 

لا شك أن الموضوع واسع لعدة أسباب، أهمها هو أن موضوع النظرية السياسية يعتبر فكرة جديدة، ولكي نثبت وجود النظرية السياسية من خلال دلالات ومضامين مقاصد القرآن أولا، ومن ثم وصولا إلى بلورة النظرية ثانيا، فقد سلكنا الطريق المنهجي التالي: 

1- استقراء نصوص القرآن وتحليلها دلاليا.

2- استقراء نصوص القرآن من زاوية السنن الحاكمة للاجتماع الإنساني.

3- استقراء نصوص القرآن مقاصديا. 

4- استقراء مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم.

بواعث الدراسة: طَحنُ الماء

 من خلال اطلاعي خلال عقدين ونصف من الزمن، وفي حدود علمي، الذي تعمدت من خلاله القراءة الفاحصة المتعمقة في البحوث الأكاديمية والكتب العادية وأوراق العمل في المجلات البحثية وفي الشبكة العنكبوتية، فلم أجد ما يشير إلى مفهوم أو دلالة "النظرية السياسية في الإسلام" لا من قريب ولا من بعيد، اللهم سوى "طحن الماء".

لست من دعاة العدمية المتنكرة للعطاء الإسلامي، حاشا، وإنما قصدي أقول إنه رغم الكتابات الكثيرة حول الشورى والنظم الإسلامية في الكتابات ذات العمق الفكري للدكتور محمد عمارة، رحمه الله، والغنوشي، والقرضاوي، وحامد ربيع، الذي أسهب وأطال الكلام، ود. محمد المجذوب، وتوفيق الشاوي صاحب أكبر موسوعة عن الشورى، وقبله مجلس الجامعة الأردنية الذي أخرج مجلدين شاملين ولكنه في حدود نقل التراث مع تعليقات قليلة بعضها جميل، هنا ترسخت عندي قناعة كبيرة بمقولة "كم ترك الأول للآخر"؟ فازداد حماسي تجاه فكرة النظرية السياسية في الإسلام كفكرة جديدة، وترسخ اعتقادي أن الموضوع أصبح واجبا دينيا وحضاريا.

تمهيد: 

حاولت قدر الإمكان تبسيط مفهوم 
"النظرية السياسية" من خلال الثقافة المعاصرة، وبعد جهد بحثي مضنٍ استشهدت بثلاث نظريات لدول عظمى (أمريكا، بريطانيا، فرنسا).

النظرية السياسية الأمريكية هي "الدستور"، والنظرية السياسية البريطانية هي "مجلس العموم"، والنظرية السياسية الفرنسية هي "الشعب".

تجنبت التعليق حول دلالات تلك النظريات، لأن هناك صراعات وفلسفات ومفاخرات وبصمات ثقافية، غير أنه مما لا شك فيه أن التكامل وارد بين مفهوم النظريات الثلاث، فالدستور مصدره الشعب، ومجلس العموم ينتخبه الشعب.

ثانيا: النظرية السياسية في الإسلام هي مؤسسة الشورى، ولإثبات هذا التصور نقول: 

1- عبارة "مؤسسة" هي من عملي الخالص، ذلك أنني لم أقف في حدود علمي على قول سابق في هذا الصدد. 

2- اختيار مصطلح "مؤسسة الشورى" سيسهم إيجابا في بلورة مكونات النظرية السياسية في الإسلام دلالة، ووظائف، واستيعابا للمفاهيم المستجدة ذات الصلة.
 
ثالثا: المنهج الدلالي

 انطلاقا من النص القرآني والذي نزل بمكة مبكرا قبل تشريع أركان الإسلام وتشريعات الحياة أسرة وتجارة ومعاملات... إلخ، نستنتج أن:

1- مبدأ الشورى ذو صلة بالسنن الحاكمة للاجتماع وبالتالي لا صلة له بالتكليف الفقهي المتصل بجزئيات الشعائر التعبدية.

2- السنن الحاكمة للاجتماع هي قضاء الله الكوني المتصل بالنفس والاجتماع البشري.

3- المكانة التشريعية لسنن الاجتماع متصلة بمقاصد الشريعة، وهذا يعني خطورة المساس بالشورى لأنه يؤول إلى الاستبداد والفساد وإهلاك الحرث والنسل. 

قوة الدلالة: 

لا شك أن مدلول مفردة "الشورى" يحمل كثافة دلالية ملازمة لكلمة الشورى من خلال دلالة المفهوم، وبدون أي تعسف أو تكلف أو مغالاة، وعليه سنعمل على تفكيك مفردة الشورى إلى أبعادها الدلالية والمفهومية الملازمة منطقيا على النحو التالي:  

1- الشورى تعني التشاور.

2- التشاور يعني وجود أكثر من شخص. 
 
3- التشاور يكون حول شيء فيه غموض. 

4- تعدد الشخصيات يعني اختلافا في الرؤى. 

5- اختلاف الرؤى يستلزم تنظيم النقاش والتعاطي. 

6- تنظيم النقاش يعني وجود إدارة.

7- تنظيم النقاش وإدارته يستوعب كل المستجدات المعاصرة الشاملة للوسائل وغيرها بحكم تطور الواقع زمانا ومكانا. 

8- وجود الإدارة والتنظيم الشامل يحمل بقوة المنطق دلالة "العمل المؤسسي".

النتيجة: 

مصطلح "مؤسسة" موجود بقوة منطق دلالة الشورى، وعليه، فإن النظرية السياسية في الإسلام هي "مؤسسة الشورى".

 رابعا: المنهج السنني

لن نطيل ها هنا، فقط نقول إن القرآن الكريم نص بوضوح في 16 موطنا وفي نسق متصل بالسنن الحاكمة للاجتماع الإنساني وفي مقدمتها "القيام بالقسط" والحكم بالعدل، بل وبتصريح واضح الدلالة أن أعداء العدل هم "الملأ"، وبالتالي فالحل السماوي القرآني هو تمكين المجتمع من حماية مصالحه بواسطة السنة الحاكمة وهي الشورى. 

وكل وسيلة من شأنها خدمة هذه السنة الحاكمة المحافظة على مصالح الأمة، فالأخذ بهذه الوسائل يأخذ حكم المقصد الشرعي لأن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. 

وإذا كانت الشعائر التعبدية، صوما وصلاة وزكاة وحجا وتزكية، كلها تهدف إلى ترسيخ التقوى، والتقوى يعني قبل كل شيء "كف الأذى عن الغير"، فإن موسسة الشوري تمنع الاستبداد وتجفف منابع الظلم والفساد السياسي بأنواعه. 

خامسا: مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم

الرسول صلى الله عليه وسلم هو صاحب البيان التطبيقي الأول والمناسب للزمان والمكان، فنجده دخل المدينة المنورة بواسطة الشوري، تمثلت في بيعتي العقبة 1و2.

ونجده صلى الله عليه وسلم ارتقى بوظيفة البيعة الثانية حيث نص على الحماية، وهذا يعني تلبية المصالح المستجدة زمانا ومكانا والشواهد كثيرة. 

سادسا: دستور المدينة

نحن هنا إزاء خطوة تنظيمية مؤسسية جديدة تضمنت كتابة القانون ولم تعتمد الاتفاق اللفظي المجرد. 

الرسول صلى الله عليه وسلم مكّن كل مكونات المجتمع في المدينة (مسلمون، أنصار، مهاجرون، يهود، مختلفو البطون، مشركون) بأن يكتبوا ما يرونه مصلحة لهم. 

وهنا تجسدت بشكل حاسم فكرة النظرية السياسية في الإسلام، في عمل مؤسسي يمكننا تسميته بكل وضوح "مؤسسة الشورى" هي النظرية السياسية في الإسلام. 

سابعا: العهد الراشدي 

اختلفت صور البيعة المجسدة للشرعية السياسية في الإسلام، هذا الاختلاف يعطينا دلالة واضحة أن الأمة هي صاحبة الحق في تحديد الوسيلة المجسدة للشرعية السياسية، بمعنى أن الحق للأمة في القبول إذا اطمأنت أن هذه الوسيلة واضحة المعالم، ولا لبس فيها ولا مصادرة لحق الأمة، والعكس صحيح. 

 بيعة الخليفة الثالث: 

تضمنت تنافسا بين شخصين، عندما تساوت الكفاءة بين المتنافسين، اتجه الموقف إلى وضع شروط خاصة متعلقة بمصلحة الأمة وأبرزها عدم تولية أقارب الخليفة. 

هنا تجسدت فكرة النظرية السياسية في الإسلام أنها موسسة الشورى، وأن من حق الأمة أن تضع اللوائح والنظم والقوانين المواكبة زمانا ومكانا. 

ثامنا: القضايا الإستراتيجية
 
"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم".

نحن إزاء عمل مؤسسي فيه متخصصون يناقشون القضايا ويواجهون الجوائح والكوراث، بل ويشرفون على التنفيذ، أليس هذا عملا مؤسسيا؟ إن لم يكن هذا عملا مؤسسيا فماذا نسميه؟

الخلاصة: الله لم يجعل إيمان الحاكم هو وسيلة حماية حقوق الأمة، رغم أهمية إيمان الحاكم، وإنما شرع الشورى، فالشورى لم تكن إلا مؤسسة منظمة، هذا العمل المؤسسي هو النظرية السياسية في الإسلام، والشرعية السياسية هي ملك الأمة، والشوري التنفيذية قطعية الوجوب بلا نزاع، فكم من دمار لحق الأمم والشعوب عندما تركت الشورى التنفيذية للفرد؟

القرآن الكريم حث على ممارسة الشورى في مجالات الحياة المختلفة، ولم يكتف الخالق سبحانه بما سبق، وإنما شرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشرع الولاء للأمة واحترام إرادتها، "فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".

ليس أخيرا، شرع الله للمظلوم أن يجهر بالسوء ونص أنه يحب الجهر بالسوء من المظلوم، إذن، مؤسسة الشورى هي النظرية السياسية في 
الإسلام. 

كلمات دالّة

#اليمن #الاسلام