السبت 27-04-2024 22:56:47 م : 18 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

ثقافة الإقلاع الحضاري.. دلالة العقل في القرآن (الحلقة الثانية)

الأربعاء 19 ديسمبر-كانون الأول 2018 الساعة 08 مساءً / الإصلاح نت - خاص / أ. عبد العزيز العسالي

 

مدخل: وجوب رد الاعتبار للعقل من خلال مكانته في القرآن

نظرا لاتساع موضوع الدلالة العقلية في القرآن، وكذا اتساع المقدمات الهامة التي تعطينا مكانة العقل في القرآن، فإننا نعتذر بل نعلن عدم استطاعتنا عن استعراض 5% من النصوص، وعليه، لجأنا قدر الإمكان وحسب الحيز المتاح، وعبر هذا المدخل، إلى تقريب الأمر في معالم عامة، يمكن للقارئ من خلالها ربط كثير من الأدلة القرآنية بهذه المعالم، وصولا إلى الهدف المنشود المتمثل في "تكوين العقلية السننية"، وصولا إلى "ثقافة الإقلاع الحضاري".

 

ومن هنا يمكننا القول:
1- إن دلالة العقل في القرآن العظيم اتسعت مجالاتها جدا، حيث دعا القرآن إلى النظر العقلي في السموات والكواكب والشمس والقمر والليل والنهار والسحاب والرياح والمطر والزر ع والثمر، واختلاف أشكال الثمار ومذاقها وهي تسقى بماء واحد ومنازل القمر والزواج والإنجاب والنار والخلق من نطفة وتسخير السموات والأرض للإنسان، والسير في الأرض والاعتبار بما حصل للسابقين، إلى غير ذلك من الميادين.

2- القرآن لم يتحدث عن العقل بالاسم وإنما ذكره بصيغة الفعل "تعقلون"، "يعقلون"، لأن العقل ليس عضوا وإنما قوة غريزية أشبه بالكهرباء داخل جهاز الثلاجة أو أشبه بنظام التعريف في جهاز الكمبيوتر، فحينما ينقطع التيار توقف الجهاز، علما أن جميع أجزاء الثلاجة ليس فيها أي خلل، والحاسوب جديد سليم لكن لا يعمل إلا بنظام تعريفي بل ويحتاج تحديث للنظام، من هنا يمكننا تقريب الفكرة قائلين: الجنون والعتَه والسفَه وفترة ما قبل البلوغ والرشد، يعطينا نفس الدلالة أن العقل غريزة لا عضوا، فالطفل والمجنون والإنسان بل والمجتمعات المتخلفة والحيوانات، الجميع يمتلكون أدمغة وقلوبا ولكن لا تفكير ولا ولا.. فما هو المفقود إذن؟ لهذا السبب جاءت نصوص القرآن عن العقل بصيغة الفعل "تعقلون"، "يعقلون".

3- تحدث القرآن عن صفات أخرى ذات صلة بعملية التعقل مثل: الألباب، الأبصار، التفكر، النُّهى، لذي حجر، الوعي، وتعِيها أذنٌ واعيةٌ.

4- صرح القرآن بالدلالة القاطعة بأن الله كرم الإنسان بأشياء كثيرة، ولكن العقل هو أعلى درجات التكريم، كونه التكريم الذي أوجد الفارق بين الإنسان والحيوان كما سنشير إليه لاحقا.

5- نص القرآن صراحة أن عدم إعمال العقل والتفكير والنظر والنقد هو سفاهة وانحطاط إلى أدنى من الحيوانية.

الشاهد في النصوص التالية:
أ- "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه".
ب- "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا".
ج- "ولقد ذرأنا لجهنم كثير من الجن والإنس لهم قلوب لا يعقلون بها"، إلى قوله: "أولئك كالأنعام...".
د- ويصل القرآن إلى أقسى أنواع التسفيه، قائلا: "إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون".

 

مكانة الدلالة العقلية في القرآن

1- القرآن اعتمد الدلالة العقلية معتبرا إياها دلالة قاطعة في مجال التوحيد، أي إثبات وحدانية الله، أعني أعلى دجات التدين، فهل هناك مكانة تعلو هذه المكانة؟

2- اعتمد القرآن التأمل والتفكر العقلي أفضل وأقوى الوسائل في ترسيخ وتدعيم الإيمان وصولا إلى أعلى درجات التزكية القلبية.

وعليه، فإننا بعون الله سنقتصر على إيراد الأمثلة على مكانة الدلالة العقلية في القرآن في هذين المجالين، أي حول العقيدة ابتداء وترسيخا، مكتفين بالإشارة أعلاه إلى بقية مجالات الاستدلال القرآني بالعقل.

 

عتبة الدخول إلى الدلالة العقلية

1- "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين"، سورة النحل.

هذه الآية قسمت المجتمع الذي يستهدفه الخطاب السماوي إلى ثلاثة أقسام، محتفظةً بالدلالة حول وسيلة الخطاب المناسبة لكل قسم، وذلك كالتالي:

القسم الأول: العقلاء، وهم القادرون على التحليل والنظر إلى الأبعاد الفكرية في الخطابً ودلالته وعلاقاته، وما يترتب عليه... إلخ. هذه الشريحة قليلة قياسا ببقية المجتمع، ووسيلة الخطاب المناسبة معها هي الحكمة، والحكمة تتسع دلالاتها زمانا ومكانا.

القسم الثاني: العامة، وهذه الشريحة الأوسع بطبيعة الحال، ووسيلة الخطاب المناسبة مع هذا القسم هي الموعظة الحسنة، علما بأن الموعظة الحسنة أيضا تتسع دائرتها زمانا ومكانا.

القسم الثالث: المعاندون، وهم العارفون بالحقائق، لكن هناك مصالح وقيم تحول بينهم والسماع للخطاب المقدس.

من هذه القيم المانعة: الذاتوية، الأنانية، الاستعلاء، المادة... إلخ. وسيلة الخطاب المناسبة مع هذا القسم هي الجدال بالتي هي أحسن.

2- حديثنا سينحصر حول القسم الأول أو الشريحة الاجتماعية المتمثلة في العقلاء، فنقول: القرآن قرر بوضوح لا لبس فيه ولا غموض اعتماد الدلالة العقلية في مجالين: الأول، إنشاء العقيدة. والثاني، ترسيخ العقيدة وتزكية النفوس.

 

المجال الأول: الدلالة العقلية في مجال إنشاء وتكوين عقيدة التوحيد.

1- "قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا".

نحن أمام استدلال بمنطق عقلي بحت مدعوما بمشاهدات الواقع المشاهد أو من خلال المتوارث ثقافيا، فكأنه يقول: يا معاشر العقلاء، إنكم تشركون بالله ما لا يملك مع الله شيئا ولم يشارك في خلق السموات ولا خلق البشر.

وعليه، فإن إعطاء الأصنام بشرية كانت أم حجرية وسواء كانوا من الجن أو من الإنس، فكل هؤلاء عاجزون، والدليل هو ما تشاهدونه واقعا أو موروثا ثقافيا من الصراع على النفوذ والسلطان والمال والجاه.

فالتناحر في دهاليز القصر السياسي، فلو كان الذين تدعونهم آلهة كما تظنون فلم لا يصعدون إلى العرش بحثا عن مكانة النفوذ والتسلط.

2- "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحن الله عما يشركون". يا من جعلتم شركاء مع الله، ألا ترون إلى التنازع بين الملوك والسلاطين وكيف يتصارعون فتفسد الحياة وتختل موازين الأمن والقيم الإنسانية والاجتماعية؟

إن نظام الكون المستقر الثابت لدليل على وحدانية الله الخالق العظيم، فارجعوا البصر، تفكروا في الكون وما فيه، هل ترون من نقص فإذا وصلتم إلى نتيجة منطقية فهناك سلامة المعتقد وصحة التوحيد.

3- "وفي أنفسكم أفلا تبصرون". تأملوا بديع صنع الله، "هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه".

4- "أم خُلِقُوا من غير شيء أم هم الخالقون"، أم أن هناك خلقا صادرا عن آلهتكم فتشابه الخلق عليكم واختلط؟ ألستم تقولون بأن الخالق الرازق المحيي المميت هو الله؟ فكيف تعتقدون بوجود شركاء، فأنى تسحرون؟ أفلا تعقلون؟ أفلا تتذكرون؟

تأمل أخي القارئ كيف انتهت الآيات: تسحرون، تتقون، تتذكرون. إنها أفعال تتصل بالنظر العقلي المحض، فإذا ترك المشركون هذا المعتقد الفاسد انطلاقا من العقل والفطرة السليمة فقد صح المعتقد، وأثبتوا وحدانية الله.

 

المجال الثاني: ترسيخ عقيدة التوحيد

1- التفكير فريضة إسلامية، هذا عنوان كتاب للكاتب عباس محمود العقاد رحمه الله، جمع فيه قرابة361 آية كلها متصلة بالتفكير.

2- "الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار"، بدأت الآية بلفت النظر إلى التفكير في خلق السموات والأرض، "ففي الأرض آيات للموقنين"، هذا التفكير العقلاني المسدد ببديع الصنع الإلهي المتقن، كفيل أن يرسخ الإيمان لدى حملة الفكر السليم، ثم يذيلون تفكيرهم بالتسبيح "سبحانك" ثم بالدعاء "فقنا عذاب النار". فالتسبيح تنزيه لله والدعاء بالوقاية من عذاب النار متصل بركن ركين للعقيدة وهو الإيمان باليوم الآخر.

 

الخلاصة

1- القرآن اعتمد الدلالة العقلية في أهم مجالات التدين وهو التوحيد.

2- الدلالة العقلية في القرآن اعتبرها القرآن قطعية، لأن العقيدة لا تقوم على الظنون.

3- إذا أردنا تكوين عقلية سننية تنطلق صوب ثقافة الإقلاع الحضاري، فليكن القرآن هو مصدر تكوين العقلية السننية.

4- إذا اعتمدنا القرآن مصدرا كما ذكرنا، نكون قد أعدنا الاعتبار للعقل وأطلقناه من قيود الموروث التي كبلته تحت ركام موتى القرون، وأزحنا عنه كوابيس "الرهبوت".

5- إذا لم نعد الاعتبار للعقل من خلال مصادرنا المعصومة، فإننا سنكون قد دخلنا تحت أخطر نص قرآني وهو: "ونجعل الرجس على الذين لا يعقلون"، (يونس:100).

والرجس هنا يتمثل في ركام صراعات القرون أولا، والانحطاط الحضاري والتبعية وإنتاج التخلف ثانيا.

6- وليتأمل القارئ الكريم كم هي أمتنا غارقة في رجس اللاعقل وأي انحطاط تعيشه أمتنا، فهل هذه هي العزة لله ولرسوله وللمومنين أم هو السقوط المدوي والمنكوس في رجس اللاعقل؟

الأمم كلها حركت عقولها إلا العقل المسلم يعيش وهم "لهم الدنيا ولنا الآخرة"، فهل هذه لها وزن في المقياس الآخروي؟

أخيرا، نصل إلى السؤال الهام: من أين نبدأ؟ الإجابة عن هذا السؤال سيكون موضوع الحلقة القادمة بعونه سبحانه.