السبت 27-04-2024 11:24:10 ص : 18 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

مقاصد الصيام.. تعزيز قيم وموازين الحياة

الثلاثاء 12 مارس - آذار 2024 الساعة 08 مساءً / الإصلاح نت-خاص | عبدالعزيز العسالي

 

المحور الأول، مقصد الصيام وتراكم العبادات:

تنويه:

في هذه السطور مؤشرات سريعة، بصيغة أوضح نريد أن نرسم للصائمين معالم هادية إلى المقاصد الكلية للصيام من جهة، ومن جهة ثانية وهي الأهم، استعراض عدد من الأهداف المنبثقة عن تلك المقاصد والتي تتمثل في القيم والموازين البانية للحياة والحافظة لها في آن.

أولا، مقاصد الصيام الكلية:

للصيام مقصدان محوريان هما مقصد التقوى ومقصد الشكر، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".

المقصد المحوري الأول هو التقوى، قال تعالى: "ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون".. هذا النص صريح أن المقصد المحوري الثاني هو الشكر.

ثانيا، دلالات أخرى للمقصدين:

النصان الآنفان تكتنز فيهما دلالات ومفاهيم كثيرة هذه أبرزها:

1- التقوى مقصد كلي، وفي ذات الوقت نجد أن التقوى وسيلة لتحقيق مقصد الشكر.. بصيغة أوضح مقصد التقوى وظيفته تحقيق مقصد الشكر.

2- لماذا مقصد الشكر؟ من المعلوم بداهة أن القرآن نزل في شهر رمضان، قال تعالى: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه". إذن، النص صريح أن الصيام هو شكر لله على نعمة القرآن والتي هي أعظم وأجل نعم الله على الإطلاق، ذلك أن القرآن جاء ليخرجنا من الظلمات إلى النور.

3- قام الكاتب بتتبع النصوص القرآنية حول مقصد الشكر فكانت المفاجأة -حقا- أن النصوص كلها حرفيا، أو من خلال السياق، دلت أن الشكر لن يكون إلّا "عمليًّا" وأولها فريضة الصيام، قال تعالى: "اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور".

هناك عشرات النصوص الآمرة -دلالة على القيام بالشكر- عمليا وسنذكر بعضا منها لاحقا.

4- الشكر العملي منظومة قيم وموازين متداخلة مترابطة تنتظم فيها عبادات روحية نفعها ذاتي للصائم أولا، وثانيا عبادة سلوكية متعدية النفع إلى حياة المجتمع كما سنوضح لاحقا.

وعليه، لا غرابة إذا قلنا إن شعيرة الصيام تتضمن عبادات مركّبة - متراكمة الدلالات والمعاني والأهداف المنظمة للاجتماع، كما أنها أعظم السنن الإلهية الحافظة للاجتماع بسهولة وسلاسة كونها صادرة عن وعي واقتناع مجتمعي أنه يتعبد الله.

لا يخفى على القارئ أن الموضوع واسع الأبعاد، غير أننا سنسلط الضوء بإيجاز لإيضاح وظيفة التقوى تحت المحور التالي.

المحور الثاني، وظيفة التقوى:

وظيفة التقوى وأهدافها كثيرة، وقد بلغ عدد النصوص التي تضمنت التقوى حرفيا أكثر من 53 نصا، وإليك بعضها:

1- "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا • يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما".. دل النص بوضوح أن تقوى الله تثمر صلاح الأعمال دنيا وأخرى. وثانيا، مغفرة الذنوب. وثالثا، صلاح الأعمال - إقامة موازين الحياة هو عين الشكر العملي. ورابعا، صلاح أعمالنا هو عين سنن التأييد الرباني لمجتمع المتقين الصائمين الشاكرين. وعليه، فلا غرابة إذا قلنا إن التقوى هو المقصد المحوري للصيام.

2- "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض". الجدير ذكره أن سياق هذا النص يحمل دلالة أعمق بداهة، ذلك أن خيرات الأرض هي ثمرة جهد عملي يشترك فيه المؤمن وغيره، لكن بركات السماء هي ثمرة التقوى، فالمؤمن التقي يواجه الحياة بالمال القليل وتكتنفه الطمأنينة والرضا وهذه إحدى البركات، في حين نشاهد أناسا ذوي وفرة كبيرة، ولكن حياتهم إلى الجحيم أقرب والعياذ بالله.

3- "واتقوا الله ويعلمكم الله".

نحن أمام ثمرتين إحداهما أعظم من الأخرى، أولاها، أن المراد اتقوا الله الذي أنزل إليكم القرآن يعلمكم موازين السعادة دنيا وأخرى. وثانيها، أن التقوى ثمرته سنن التعليم الرباني والإلهام والتوفيق... إلخ. قال تعالى: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه". ويقول تعالى: "والله ولي المتقين".

4- "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" . تضمن النص دلالة حرفية على أعظم البركات وأقواها على الإطلاق وهي معية الله مع المتقين بل والمحسنين، وقيمة الإحسان تعني الجودة عقيدة وسلوكا عمليا صالحا دنيا وأخرى.. نعم، "الذين آمنوا وعملوا الصالحات".. وعليه، ونحن نعيش أجواء الارتقاء الروحي في الشهر العظيم، يلزم علينا الوقوف مع نصوص التقوى عموما بتأمل طويل.

وإذا كان التأمل صادقا حقا سيجد التالي أنه قد التقط خيط الإجابة على الأسئلة القديمة الجديدة التي تطاردنا بقوة قائلة: أين الخلل؟ ما سبب فقرنا؟ ما سبب تخلفنا؟ ألسنا نصلي؟ ألسنا نصوم؟ ألسنا...؟ ألسنا...؟ وقطعا سيجد أن الحلقة المفقودة هي فقرنا المدقع بمقاصد الصوم الكلية وجهلنا القاتل بوظيفة التقوى وتبجحنا وغرورنا المقرف بوهم المعرفة.

كما أن التالي سيدرك بوضوح كم هي جناية الوعظ السقيم الذي قزم بل أضاع مقاصد الوحي عموما ومقاصد الصيام؛ التقوى والشكر بشكل أخص، الأمر الذي يدعونا إلى التعاطي المباشر مع القرآن بلا واسطة، وسيجد أن القرآن ميسّر: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر".

المحور الثالث، وظيفة الإحسان:

أشرنا أعلاه إلى مكانة الإحسان، غير أن مفهوم الإحسان قد طالته ضربات التقزيم الوعظي الباهت نابذة نصوص القرآن خلف جدار التقليد المتوارث، فهذا يحتم علينا العودة إلى نصوص القرآن وما أكثرها في هذا الصدد، لكننا سنختار أشملها.

الجدير ذكره أن النص الشاهد يحتاج وقفتين كما يلي:

أولا، قال تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب كل مختال فخور".

لا تختلف مقاصد الوحي أبدا، فهي تربط كل القيم بتوحيد الله.. وهنا النص أضاف النهي عن الشرك بالله قليله وكثيره، ثم أضاف قيمة الإحسان إلى الوالدين، ثم عطف عددا من شرائح المجتمع - يلزم وجوبا
الإحسان إليها بلا استثناء بنفس درجة الأمر بالإحسان إلى الوالدين، ودل النص على أن عدم الإحسان إلى الوالدين يعد معصية كبرى كما هو معروف حق الوالدين، فكذلك عدم الإحسان إلى المجتمع معصية سواء بسواء بنص القرآن.

ودلالة أعمق وأبعد هي إغفال القرآن ذكر الإساءة واقتصر على ذكر الإحسان فقط، فهذا دليل واضح وصريح على وجوب الإحسان والإحسان فقط تجاه الوالدين وتجاه المجتمع.

ثانيا، العبادات بين التراكم والكيف:

تضمن النص الآنف دلالة على تراكم العبادات وعلى كيفية العبادات، فالتراكم وجدناه من خلال استيعاب شرائح المجتمع بلا تفريق بين نوعية الناس مسلم وغير مسلم، والمقصد قطعا هو تجسيد شبكة علاقات المجتمع -حماية المجتمع من نفوذ الطغيان والفساد- أيا كان منبعه أو جهته.

ثالثا، الصيام يرسخ تراكم العبادات:

1- العبادات المتعدية النفع إلى الغير أفضل عند الله وأنفع القيم لموازين الحياة.. نجد هذا فيما يلي.

2- إذا تدبرنا القرآن سنجد أنه زاخر بالنصوص الآمرة بالعبادات المتعدية النفع، وإليك الدليل إجماليا، ذلك أن النصوص الآمرة بالاتفاق تجاوزت 54 نصا، غير نصوص الزكاة. كما أن نصوص القرآن جعلت الإنفاق من صفات المؤمنين شأنه شأن الزكاة، والمقصد الشرعي هو الحفاظ على وحدة المجتمع بعيدا عن الحسد القادم من آلام الفقر ومرارات الجوع والعري والأمراض... إلخ، الأمر الذي يتحول إلى حقد مكبوت ويتراكم الشعور بالغبن والقهر والحرمان ثم الانفجار بصوره المتخلفة.

ولا شك أن فيلسوف الأدباء الشاعر البردوني رحمه الله قد صور الموقف أفضل تصوير قائلا:
وجوارنا قوم لهم
إشراقة العيش الطليق
يتحادثون عن النقود
حديث تجار الرقيق
هم يلبسون من الحرير
فهم رجال من حرير
لولا خداع ثيابهم
كسدوا بأسواق الحمير

تلك الدّمى المتكومة من الحرير تنبئ عن خواء روحي، وإن أدت الشعائر التعبدية لكنها عادات لا غير، وهنا نعرف حقيقة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا" لا عادة سنوية.

ولا شك أن تحويل العبادات إلى عادات يعود إلى جناية الوعظ الفاقد للمقاصد، ولنا عودة إلى هذه النقطة.

رابعا، العبادة المطلقة:

هناك كتابات كثيرة حول التعبد المطلق - الشامل لكل ميادين الحياة كما رسمتها مقاصد الوحي، والصواب أن التعبد المطلق له أولويات زمانا ومكانا؛ أولاها، التعبد المتعدي نفعه إلى الغير، وهذا دلت عليه النصوص بل واتفق الفقهاء على دلالتها في هذا المجال - إنفاقا، وإطعاما، وكسوة، وعلاجا، وتعليما، وإصلاحا للمرافق... إلخ. وثانيها، أولوية الجهاد، وأعني تحديدا هذه الأيام جهاد المليشيا الانقلابية - دعم الجيش الوطني في جبهات القتال، بهدف رفع الويلات عن المدن التي تحاصرها المليشيا الانقلابية الإرهابية واستعادة لحق الأمة اليمنية المتمثل في الشرعية السياسية والدستورية ومخرجات الحوار الوطني وإحلال السلام والاستقرار في الوطن اليمني الحبيب، وثالثها دعم الجهاد الفلسطيني ضد النازية الصهيونية، ذلك أن جبهتي القتال اليمنية والفلسطينية تمثلان خطا واحدا هو استعادة الحق المغتصب.

خامسا، جناية الوعظ في تقزيم التعبد

أسوأ محن التعبد المعيش في واقعنا والناتج عن التقليد الأعمى المصحوب بجمود فقهي وتعصب مقيتين يتمثل فيما يلي: التوجه إلى الحج - نافلة، وكذلك الاعتمار في رمضان والذي تحول إلى سعار اسمه عبادة. ولو قيل لهؤلاء ها هي الجبهات تجد هذه الإجابة حرفيا بلا أدنى مبالغة والله يشهد علينا.

سادسا، الارتقاء الروحي المنشود:

الجدير ذكره أنني وقفت على قول اشتهر عن عدد من السلف -فقهاء ونساك- مفاده: نعم جاء رمضان ولا مجال لمستزيد اللهم إلّا الجمع بين عدد من العبادات في آن، جاعلين من مفهوم الاعتكاف مستندا لهذا الارتقاء الروحي، وهو فهم جدير بالتأمل.

العبادة بين الكم والكيف: أولئك الرجال لم تستهوهم كثرة الصلاة وسرد عدد من المصاحف، وإنما نظروا إلى الكيف فقالوا: ركعتان فقط يتخللها تلاوة عدد من الآيات، يقف المصلي متدبرا عند كل آية.. إن كانت إنفاقا وجب عليه عقد النية على الإنفاق بعد الصلاة قدر المستطاع، وإن كانت آية تدعو إلى التفكر فعليه إطالة الوقوف متفكرا، وإن كانت استغفارا وجب عليه الاستغفار، وإن كانت تدعو إلى الذكر وجب عليه الذكر، وهكذا. وهذه هي عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد كان اعتكاف الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف لا يخرج على هذا النحو.
جئنا بهذا النموذج، والذي نعده شبه مغيب لعل الله ينفع به.

المحور الرابع، الصيام والجهاد وموازين الحياة:

سجل التاريخ الإسلامي أن كبريات المعارك كانت في رمضان، وهذا إن دل فإنما يدل أن الذي ترسخ في الذهنية الإسلامية المجاهدة هو تجديد قيم وموازين الحياة، ذلك أن السلم والسلام والاستقرار لم ولن يقوم إلا بذراع حامية لقيم وموازين حياة المجتمع المسلم، فامتلاك القوت لا يكفي فلا بد من امتلاك القوة العقلية والعسكرية رجالا وعتادا وأعدادا.
وها هي أمة العرب تجد نفسها وجها لوجه مع هذا المفهوم الجهادي الشامل المتمثل في طوفان الأقصى والذي يعتبر نافذة على حقيقة التعبد المطلق، فقد ظلت الأمة العربية طيلة قرن وخمس القرن تحلم في منامها ويقظتها بشيء اسمه توازن القوى بين جميع الدول العربية والإسلامية وبين الكيان الغاصب.. توازن شامل يبدأ من المعتقد وينتهي بعقيدة الأخذ بالأسباب - أعدادا، وتقنية... إلخ.

وها هي المقاومة الفلسطينية عموما وحماس خصوصا تصنع مدرستها بنفسها في حيز جغرافي محاصر لا جبال ولا غيرها،
فكانت الأنفاق هي الكليات وهي الطبوغرافيا العسكرية وهي المصانع وهي المدارس وهي المحاضن، وفوق ذلك الحاضنة الشعبية الصامدة تحت جبال من القنابل الصهيوصليبية.

وهنا نوجه النداء إلى كل الشرفاء أن يمدوا يد العون إلى المقاومة الفلسطينية ومناصرتها إعلاميا وسياسيا.

ولا ننسى دور الحاضنة الشعبية اليمنية الداعمة لجبهات جيشنا الوطني والمقاومة الشعبية الباسلين في مواجهة المليشيا الانقلابية الإرهابية الفارسية. إننا إذ نشيد بموقف الجيش الوطني والمقاومة الشعبية وحاضنتهما الشعبية الأبية نجدد الدعوة للجميع إلى مزيد من الثبات والصمود حتى تندحر المليشيا الإرهابية صاغرة ذليلة والله مع المتقين المخلصين الصابرين المرابطين.

رمضان ها قد أتيت مربيا
وتريد منا أن نكون رجالا
وتريد منا أن نكون أعزة
نأبى الهوان ونأنف الإذلالا
إن الصيام عبادة قدسية
والصوم أوسع ما يكون مجالا.

الصوم لي وأنا أجزي به،
صدق الحديث وصح عنه تعالى.

كلمات دالّة

#اليمن