الإثنين 29-04-2024 15:51:00 م : 20 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

التجمع اليمني للإصلاح.. وعي سنني ورشد سياسي: (الحلقة الأولى) الإصلاح وثقافة سنن الاجتماع

الأحد 10 سبتمبر-أيلول 2023 الساعة 03 مساءً / الإصلاح نت - عبد العزيز العسالي

 

 

عند الحديث عن الوعي السنني لدى حركات الإصلاح والتجديد، فإن المقصود بذلك هو دراسة واختيار أفضل الطرق والوسائل والأساليب المفيدة عاطفيا وعقليا، والموصلة سننيا إلى تحقيق الأهداف المرحلية في ميدان الإصلاح الاجتماعي المنطلق من مقاصد القرآن، أي الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وقول الحسنى، قال تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"، وقال تعالى: "وقولوا للناس حسنا".

 

معالم الوعي السنني

يتصدر الوعي السنني الآنف الذكر اهتمامات قيادات إصلاح المجتمع وإن لم يُعلن عنه في الأدبيات والبرامج، وقد تميزت الحركة الإصلاحية اليمنية، عندما انطلقت عام 1938، بقدر من الوعي والرشد السنني فكريا وسياسيا.

وفيما يلي أهم معالم الوعي السنني لدى الحركة الإصلاحية اليمنية:

 

- المعلم الأول، الإصلاح السلمي:

بعد قيام الجمعية اليمانية الكبرى في عدن عام 1944، والتي انضوى في إطارها الآباء المؤسسون للحركة الإصلاحية اليمنية المعاصرة والتي أسس لبِنَتها الأولى الأستاذ الشهيد محيي الدين العنسي عام 1938، وانضم إليه آخرون، فإن أولئك الآباء الرواد المؤسسون كانوا قد درسوا تاريخ الحركة الإصلاحية اليمنية، التي بدأها الفقيه المجدد ابن الوزير في القرن الثامن الهجري، دراسة واعية لأسباب وعوامل النجاح والإخفاق التي رافقت تاريخ الحركات الإصلاحية حتى وفاة الفقيه الشوكاني رحمه الله عام 1250 هجرية.

والجدير بالذكر أن الأستاذ النعمان والأستاذ قاسم غالب، رحمهما الله، كانا قد اشتركا، ومعهما آخرون، في تأليف كتاب بعنوان "ابن الأمير وعصره" تضمن التركيز على جوانب التجديد فكريا وفقهيا، بعيدا عن التعصب المذهبي السلالي، ذلك أن تاريخ ابن الأمير مليء بمواقف الإصلاح كالتجديد الفكري والفقه، بالإضافة إلى المواقف العملية مثل وساطات الإصلاح بين ملوك السلالة المتقاتلين على الملك وتسببهم بدمار الأمة اليمنية.

وقد كان الهدف الأول من تأليف ذلك الكتاب هو لفت نظر الإمام السلالي المتعصب يحيى حميد الدين وحاشيته وفقهاء الهادوية المتعصبين إلى أن دعوة الحركة الإصلاحية تستند إلى فقهاء كبار هم محل تقدير الأمة اليمنية، وأما الهدف الثاني فهو أن أسلوب الإصلاح من اللحظة الأولى للحركة هو الطريق السلمي، أي لغة الخطاب والمرجعية وتجنب كل ما من شأنه إثارة العصبية المقيتة.

وقد اشتهر برنامج تلك المرحلة بالإصلاح الدستوري (الدعوة إلى قيام مملكة دستورية)، بل واشتهرت بالثورة الدستورية، لكن الشعب غارق في الجهل الذي كان من أبرز مظاهره أمية القراءة والكتابة القاتلة، فكيف له أن يفهم ما هو الدستور، ولذا فقد استغل الطاغية الإمام أحمد جهل الشعب موظفا إياه ضد الدستوريين الذين قتلوا الإمام العجوز، ولا شك أن عملية القتل أدانها غالبية رجال الدستور، بيد أن الحركة السلمية وُئدت وأعدم الإمام قرابة 35 من العلماء والقضاة وعددا من مشايخ القبائل والتجار، واعتقل كثيرين وأذاقهم ألوانا من التعذيب، بالإضافة إلى تدمير المنازل، كما أباح الإمام أحمد نهب مدينة صنعاء خلال ثلاثة أيام، وهكذا واجهت الإمامة ثورة 1948.

 

 - لا بديل عن التغيير السلمي:

وبعد ثورة 1948، اندلعت ثورة 1955 التي لازمت الطريق السلمي من بدايتها، وإذا كانت قد حصلت ملابسات ليس هنا مقام ذكرها، إلا أن الموقف انتهى بحصاد رؤوس عدد من العلماء والقضاة، ما يعكس تعطش الطاغية للدماء، بل إنه مارس العنصرية المقيتة ضد أخيه الإمام عبد الله حيث عيّره بأن أخواله من خبان فكيف يطمع أن يكون إماما؟!

وفيما بعد تعرض الإمام أحمد لمحاولة اغتيال في الحديدة، وتفيد بعض المصادر بأن المحاولة كانت فردية نفذها ثلاثة ضباط، وظل الإمام على سرير المرض طيلة عامين حتى توفي، علما أن رجال الحركة ملتزمون بالسلمية ويطالبون الإمام البدر بالتنازل لكنه ألقى خطابا ذكر فيه أنه إذا كان أبوه يحز الرؤوس فهو سيقصم الظهور.

انطلقت ثورة الـ26 من سبتمبر المجيدة 1962، واكتسبت زخما شعبيا قويا، فنجحت رغم عوامل الإخفاق التي رافقتها.

 

- المعلم الثاني، عزيمة واستبصار:

أحدثت ثورة الـ26 من سبتمبر المجيدة تغييرا كبيرا في كافة المستويات، غير أن التغيير الفكري والثقافي لم يلامس العمق، نظرا للأمية الثقافية الضاربة، ولأن الحكومات المتعاقبة انشغلت بمقارعة فلول الملكية والثورة المضادة طيلة ثماني سنوات، وأيضا شحة الموارد الاقتصادية، إلى جانب عوامل أخرى، فإن كل تلك العوامل أثرت سلبا على الوعي المجتمعي تربويا وثقافيا وفكريا.

والأمر الأشد وطأة هو أن النخبة التي أقامت النظام الجمهوري دخلت في شتات وصراع فكري ثقافي سياسي عسكري مدني، فالقوميون منقسمون على ذاتهم، وفي ذات الوقت فهم ضد اليسار وضد القبيلة، بينما اليساريون ضد القوميين وضد القبيلة، وفي ذات الوقت ظهر خطاب الفريقين متمثلا في أقوال عمومية مستفزة لوجدان المجتمع وخادشة لضميره، إذ ظهر خطاب مفاده: بما أن الثورة والجمهورية قد قضت على العهد السلالي البائد فالواجب هو القضاء الشامل على ثقافة العهد الإمامي بما في ذلك الدين والعرف السليم، والنتيجة خلق ريبة لدى المجتمع ضد الجمهورية بأنها ضد الدين والهوية.

وفي ظل تلك التحديات اتجهت الحركة الإسلامية إلى دراسة الواقع دراسة واعية بعزيمة واستبصار، انطلاقا من القاعدة القرآنية السننية الهادية إلى إصلاح المجتمعات: "حتى يغيروا ما بأنفسهم".

 

- المعلم الثالث، وعي حقيقة المشكلة اليمنية:

تعد أمية القراءة والكتابة مشكلة قديمة جديدة وهي أساس المحنة إضافة إلى الأمية الثقافية، والدليل على محنة أمية القراءة والكتابة هذا الرقم الصادم حقا، والذي حمله إلينا أول تعداد سكاني عام 1975، حيث كشف أن المتعلمين يمثلون نسبة 17%، وللعلم هذا الرقم هو حصيلة 13 عاما بعد قيام ثورة الـ26 من سبتمبر.

 

- المعلم الرابع، التدين الموروث:

هذا المعلم يعد أبرز مظاهر أمية القراءة والكتابة، وهو ركام من الخرافات المسيئة إلى الإسلام، المربكة للعقل والفكر والثقافة، ركام يفسد التصور الصحيح للدين، فيجعل الحق باطلا والباطل حقا.

 

- المعلم الخامس، الوعي بالخريطة الاجتماعية:

الثقافة الآبائية أثقلت الواقع الاجتماعي وأربكته بتضاريسها المتشابكة لدى كل قبيلة، وأصبحت الثقافة الآبائية تحتل قدسية تجاوزت قدسية الدين عقيدة وأخلاقا وشريعة.

 

- المعلم السادس، الوعي بالعالم الخارجي:

والمقصود هنا الوعي بالرأسمالية الأمريكية والاشتراكية السوفييتية ودورهما في الاستقطاب للدول العربية والإسلامية، والوعي بالأثر الثقافي والسياسي للثقافة الوافدة على الواقع.

وهذا يعني أن طريق بناء المجتمع ليس بالأمر السهل، غير أن الحركة الإصلاحية اليمنية، منذ القرن الثامن الهجري، كانت على يقين راسخ بمرجعية القرآن كونه كتاب الرسالة الخالد الذي يقرر "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم"، وكذلك سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وبما أن الحركة الإسلامية هي امتداد للحركة الإصلاحية فقد التزمت "السنن الاجتماعية" الحاكمة للاجتماع قرآنا وسيرة عطرة للاضطلاع بمشوارها في ظل دولة الجمهورية، فاجترحت الطرق والأساليب والوسائل المناسبة زمانا ومكانا، بمرونة لا تخرج عن"القول الحسن".

 

الوعي السنني.. طرق ووسائل

يتمثل الوعي السنني لدى الحركة الإسلامية في ظل النظام الجمهوري في استحضار قاعدة أو مفهوم "العزيمة والاستبصار"، فهذا المفهوم أو القاعدة الخلدونية لا شك أنه كان حاضرا ذهنيا لفظا أو معنى، والدليل على ذلك نجده متجليا في اختيار الطرق واجتراح الأساليب والوسائل المناسبة ابتداءً من تحديد الأولويات، والأسلوب الحكيم اللين، واختيار أسلوب حماية "بناء المجتمع" كي يستمر البناء في النمو.

وهذا يستدعي رؤية ترتكز على مبادئ عدة أبرزها: مبدأ الحكمة، ومبدأ التوازن، ومبدأ التدرج، ومبدأ المرونة، على أن مبدأ الحكمة ينضوي في إطاره مبدأ التغيير السلمي، ومبدأ الوعي بقيم وأعراف المجتمع، ومبدأ التعايش ورفض الأسلوب التصادمي، وغير ذلك.

 

معالم الرشد السياسي:

لا شك أن الرشد السياسي متلازم مع الوعي السنني في بناء المجتمع، لكن الجديد هو "ميل الشراع" نسبيا باتجاه الرشد السياسي كما يلي:

 

- المعلم الأول، الالتزام بالدستور والقانون:

هذا المعلم الراشد سياسيا مفاده الانطلاق في بناء المجتمع في ظل الدولة، وعدم مصادمة الدولة، وعدم الالتفات إلى المناصب، والتعايش مع النظام السياسي، وتقديم النصيحة بالحسنى.

لا يعني هذا أنه لا يوجد خطاب متشدد، فهذا إن وجد فهو حالة فردية لا تمثل الأسلوب المتبع لدى الحركة الإسلامية، وقس على ذلك.

 

- المعلم الثاني، اجتناب ما يخدش ضمير المجتمع:

هذا المعلم كان وما زال وسيظل حتى تستقيم ثقافة المجتمع، ويعد من صميم الوعي السنني المتبع الذي أرساه الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة، علما أن هذا المعلم السنني العظيم ليس اجتهادا وإنما هو من صميم نصوص القرآن الهادي "للتي هي أقوم"، و"الهادي إلى الرشد"، قال تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم"، وتقوى الاستطاعة هي عين "تقوى الله حق تقاته".

الجدير ذكره أن الحركة الإسلامية أخذت الدرس من الخطاب المتشنج سواء كان إسلاميا أو يساريا أو قوميا، كيف لا وقد دفع جميعهم ضريبة خطابهم المستفز تارة والخادش لضمير ووجدان المجتمع تارة أخرى، ذلك أن التخلف الثقافي المتراكم عبر القرون تحت نير السلالية العنصرية أنتج تعصبا مذهبيا وقبليا وجهويا لدرجة أنه أضفى قدسية على الموروث الديني والعرفي السليم والمعوج.

 

- المعلم الثالث، إصلاح التعليم:

ذكرنا آنفا نسبة المتعلمين وفقا لأول تعداد سكاني بعد 13 عاما من قيام الجمهورية، وقلنا إن الأمية الحرفية كانت هي المشكلة الجوهرية وأساس المحنة اليمنية حينها، ومن هنا اتجهت الحركة الإسلامية إلى إصلاح التعليم، وقد كانت الحركة تدرك جيدا أن التعليم هو الطريق الأصعب والبطيء لكنه أكيد المفعول، وقد اتجه الإصلاح في هذا الميدان التنموي الحيوي الهام إلى قضايا أهمها إصلاح الكتاب المدرسي، وإعداد المعلم، وحث المجتمع على تعليم الجيل، وحث المجتمع على التوجه إلى محو الأمية وتعليم الكبار، وإعداد الكتاب الهادف والمناسب في هذا المجال، علما أن الدولة كانت قد أعلنت النفير في ميدان محو الأمية إبان حكم الزعيم الحمدي رحمه الله، والسبب كما ذكرنا هو الرقم الصادم في نسبة المتعلمين.

وحسب تقارير أنه خلال ثلاث سنوات من الاستنفار ارتفعت نسبة القادرين على القراءة والكتابة من خلال التعليم العام ومحو الأمية إلى 67%.

 

- المعلم الرابع، إحياء الخطاب الإسلامي:

والمقصود بالإحياء التدرج في إصلاح وعي الخطيب ابتداء من تبسيط العقيدة كما وردت في نصوص القرآن بعيدا عن الصراعات التاريخية، واكتفاء بأركان الإسلام، وأركان الإيمان، ودعمها بتكثيف الأدلة من الكتاب والسنة، إضافة إلى تدريب الخطيب على أهم أساليب الخطابة.

 

- المعلم الخامس، إرسال الخطباء إلى القبائل:

هذا المعلم السنني أخذ عناية خاصة من زاوية كونه سنة إلهية مصلحة للمجتمع ومن زاوية كونه إجراء عملي، وهذا الأخير ليس من السهل تنفيذه ولكن الذي ساعد عليه هو شبكة العلاقات الاجتماعية.

والجدير ذكره أن سبب الوصول إلى إقامة شبكة العلاقات الاجتماعية يعود إلى فن الخطاب الديني بعيدا عن لغة الاستفزاز، حيث اقتصر الخطاب على إحياء قيم الإيمان والأخلاق والحب والتعاون والتكافل وإحياء قيمة الأخوة والرحمة وصلة الأرحام وخطورة الظلم والحث على التوبة.

لقد كان لإحياء القيم المشتركة الأثر الإيجابي في بناء شبكة العلاقات الاجتماعية، ولا ننسَ أن التأثير كان محدودا في الحيز الاجتماعي، والجانب النفسي، غير أن قاعدة "العزيمة والاستبصار" كانت حاضرة عند التغذية الراجعة المتمثلة في بحث المعوقات مثل موانع وأسباب تأثير الخطاب.

الجدير ذكره أن الخطاب الإسلامي في الوسط القبلي لم يستطع الحديث عن الجمهورية، والسبب يعود إلى الخطاب المستفز الصادر عن اليسار والقومية، فهذا المانع كانت له سلبياته التي أعاقت الخطاب الثقافي والفكري طيلة عقود ثلاثة.

الخلاصة، لقد نجح الخطاب الإسلامي نسبيا، والأهم أنه أصبح مقبولا مبدئيا في الوسط الاجتماعي، والسبب يعود إلى التعاطي الإيجابي مع السنن الاجتماعية، الأمر الذي أثبت عمق الوعي السنني والرشد السياسي لدى الحركة الإسلامية اليمنية، كما أثبت جدارة الحركة الإسلامية ببناء المجتمع وقيادته ثقافيا، بل ثبت أن الوسط الاجتماعي -ولو بنسب متفاوتة- أصبح آمنا مطمئنا واثقا بخطاب الحركة الإسلامية دينيا وجمهوريا.

 

 النتيجة والحصاد:

 - بناء المجتمع على أساس ديني سليم ولو بنسب متفاوتة.

 - بناء شبكة علاقات، وكسب ثقة المجتمع، والتميز بالحضور المجتمعي للحركة الإسلامية.

 - عدم التصادم مع النظام والمجتمع أدى إلى تحقيق أمن الاستمرار في بناء المجتمع واتساع وسائل البناء حسب الظروف المتاحة.

...........................

* هامش: كتاب تطور التعليم في اليمن، سيف محمد صالح الشرعبي، مدير عام التربية بتعز.