الجمعة 26-04-2024 19:28:05 م : 17 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

مع الصائمين.. مفاهيم، قيم، دروس (4-5) القيم العقلية في القرآن الكريم

الإثنين 18 إبريل-نيسان 2022 الساعة 11 مساءً / الإصلاح نت-خاص | عبد العزيز العسالي

 


أولا، مدخل تمهيدي:

آخر الدراسات العلمية حول ماهية العقل.. في كتابه "التفكر من المشاهدة إلى الشهود" أ. د. مالك بدري، عالم النفس السوداني، العضو في عدد من الجمعيات واتحاد ات علماء النفس في أوروبا وأمريكا، والمتوفي عام 2012، يقول إن آخر ما توصلت إليه البحوث وأجهزة الرصد الدقيقة لحركة الدماغ عام 1983 في أمريكا حول العقل، وعبر استنتاجات قياسية على الحواسب، توصلوا إلى أنه لا مكان للعقل، نعم هناك ثلاثة مليارات خلية في الدماغ، ودور تلك الخلايا هو استقبال إلهامات من خارج المخ، فهي أشبه بجهاز استقبال - راديو، تلفاز، أو جهاز لاسلكي.

وإن غياب العقل عند المجنون يكون بسبب تلف في أجهزة وخلايا المخ، بصيغة أكثر دلالة أن المخ يستقبل إلهامات التعقل كما يستقبل النوم فالنوم لا وجود له داخل المخ.

إذن:
1- التعقل والتفكر هما عملية استقبال للإلهام القادم من خارج المخ.
2- المخ يتعاطى مع الواردات - عقلية وفكرية، بحسب ما لديه من علم والتدرب على ممارسات التفكير والبحث، والدليل أن الجاهل لا يستطيع التعقل والتفكير إلا في حدود البديهيات العقلية الأولية.
3- قرر د. مالك بدري أن هذا الكشف العلمي لم يخرج عما قاله أبو حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين".

ثانيا، القرآن والعقل والفكر:

1- من اللافت للنظر جدا أن القرآن المعجز لم يذكر العقل والتفكير بصيغة الاسم إطلاقا وإنما يذكرهما بصيغة الفعل - يتفكرون، يعقلون، وما يعقلها إلا العالمون.. أفلا تعقلون؟ أفلا يتدبرون؟

نعم، ورد في القرآن أربعة أسماء هي:
- النهى.. إن في ذلك لآيات لأولى النهى.
- حِجْر.. هل في ذلك قسم لذي حجر.
- الألباب.. واتقونِ يا أولي الألباب.
- الأبصار.. فاعتبروا يا أولي الأبصار.

لكن عند التأمّل نجد أنها ليست أسماء خالصة، وإنما تعني أن التفكير والتعقل ينهيان صاحبهما عن فعل الخطأ، أما الألباب فهي جمع "لُبٍّ"، والأبصار جمع بصيرة، وكلاهما تشيران إلى عمليات تعقل وتفكر.. فهل استعمال القرآن صيغة الفعل "تعقل" و"تفكر"، يلتقي مع تقرير أبي حامد الغزالي أولا، ومع ما توصل إليه العلم الحديث ثانيا.

الحقيقة أن صيغة التعبير القرآني صادرة عن الخلاق العليم فيجب أن نتعاطى معها، ونتعاطى مع الكشف العلمي للاستئناس فقط.

ثالثا، القيم العقلية في القرآن:
1-العلم:
القراءة هي طريق العلم وهي في ذات الوقت أول القيم البانية للعقل بناء راشدا. وعليه، فلا غرابة إذا كانت أول آية نزلت في القرآن هي "اقرأ".

إن الأمر بالقراءة يلفت النظر إلى الاهتمام القرآني البالغ بالقيم العقلية.

2- الأمر بالقراءة يلفت النظر إلى نوعين من القراءة: قراءة الكتاب المسطور، وقراءة الكون المنظور. قال تعالى: "قل انظروا ماذا في السموات وما في الأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون".

وقال تعالى: "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه".. وهذا التسخير يتطلب القراءة السليمة للسنن الكونية الخادمة للإنسان حتى يستقيم التعاطي اكتشافا، ومنهجا، وتحويلها إلى آليات تحقق بل وتحمي مصالح الإنسان.

رابعا، القيم العقلية
صنعة إبراهيم الخليل:
الصورة الأولى:
استخدم الخليل عليه السلام العقل واعتمد استدلاله برهانا قاطعا لإثبات العقيدة، وهذا الاستدلال نص عليه القرآن حول محاجّة الخليل لقومه استدلالا برهانيا يربط السبب بالمسبب (لكل فعل فاعل).. إن وراء المخلوقات خالق.

"فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين".. وهكذا مع القمر، ثم الشمس.

إنه أسلوب استدلالي يثبت عقيدة الإيمان بالغيب من خلال الاستدلال بالمخلوقات المشهودة بالعين وصولا إلى التسليم المنطقي الذي لا يقبل الشك.. إنها طريقة تربوية على استخدام القيم العقلية مستندها التفكير العقلي، فإذا ثبت البرهان العقلي على وجود الخالق فالعقيدة تستقر في الوجدان، وهذه الصنعة الإبراهيمية تدحض تلكم الدعاوى الفجة القائلة إن العقائد لا تقوم على العقل وإنما على الوجدان.

الصورة الثانية:
الطاغي النمرود يغالط ذاته عندما استخدم طريقته المضحكة للثكالى بأنه يُحيي ويميت، فجاء الطلب الإبراهيمي المسكت للطاغي: بما أن ادعاء الربوبية لديك يستند إلى المغالطة، فالله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها أنت من المغرب.

وهذا طلب بديهي وجهه الخليل عليه السلام لمن يدعي أنه إله قادر على التصرف في الكون.

الصورة الثالثة:
تحطيم الأصنام، بهدف استثارة عقول قومه بهدف استدراجهم، فقالوا: "من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم"؟ فرد عليهم: "بل فعله كبيرهم فاسألوهم إن كانوا ينطقون".

فوقع القوم في تحت طائلة الإلزام المنطقي حيث حكموا على أنفسهم: "لقد علمت ما هؤلاء ينطقون".

فأتاهم الرد المفحم من الخليل: "أتعبدون ما تنحتون • أفٍّ لكم ولما تعبدون".

فنكسوا على رؤوسهم (عطلوا عقولهم).. أعظم نعمة -اتباعا للآبائية- التقليد الأعمى: "وجدنا آباءنا كذلك يفعلون".

الصورة الرابعة:
مع أبيه آزر.. "يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا"... إلخ النص القرآني.

أسئلة حضارية هي صنعة إبراهيمية في كل المواقف.. لم يستطع آزر مقاومة منطق العقل الإبراهيمي فلجأ إلى طريق العاجزين "لئن لم تنتهِ يا إبراهيم لأرجمنك".

إنها طريقة الإرهاب الفكري ومنها استخدام سلطة القمع.

الصورة الخامسة:
طرح السؤال العلمي المنهجي: نحن هنا أمام المنهجية العلمية المعاصرة التي تقول للباحثين في مجال الدراسات الجامعية العليا حيث يقال للباحث اطرح السؤال ولو افتراضيا حول المشكلة ثم دلل من خلال بحثك على تحديد أهمية المشكلة تحديدا علميا وأسبابها المباشرة والعوامل المساعدة وطريقة الحل علميا.

قال الخليل: "رب أرني كيف تحيي الموتى"... إلخ. الجدير ذكره أن الله عز وجل لم يوبّخ إبراهيم على السؤال وإنما دله لاستخدام وسيله مقنعة.

القرآن كتاب الأسئلة:
ثلاثة من أولي العزم سألوا الخالق العظيم العليم، أولهم الخليل حول قصة إحياء الموتى، والثاني موسى عليه السلام: "أرني أنظر إليك".. الجواب: "انظر إلى الجبل"، والثالث نوح عليه السلام "ربِّ إن ابني من أهلي"... إلخ.

فالملاحظ أن الله سبحانه وبخ نوحا: "إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح".. ولم يكتف، إنما أضاف: "فلا تسألنِ ما ليس لك به علم".. وبكلمة أقسى: "إني أعظك أن تكون من الجاهلين".. يا إلهي، أي الأسئلة أخطر؟

الجواب: واضح أن القرآن كتاب القيم العقلية، بدليل أن الله لم يعنّف الخليل والكليم، لكن التوبيخ لنوح كان قويا.

الحقيقة نحن عاجزون عن إزجاء الثناء والحمد والشكر للمولى سبحانه.

رابعا، تأييد القرآن للخليل عليه السلام:

استعمل القرآن طريقة الخليل في الاستدلال.
1- "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله عما يصفون".

المتعارف عليه بين شيوخ القبائل والملوك هو التنازع والصراعات والإفساد للحرث والنسل، فهذه مقدمة عقلية محل تسليم عند مشركي قريش وغيرهم. إذن، لو كان في السماوات والأرض آلهة متعددة فإنها ستتنازع، والنتيجة فساد الكون.

لكن بما أن الكون مستقر، فإن هذا الاستقرار دليل على وحدانية الله.

2- "قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا".

طبيعة الملوك في الأرض هي التكالب والأطماع والسباق إلى أعلى المراتب، فهكذا لو كان هناك آلهة فإن التطلع إلى العرش والتحكم في الكون سيكون واردا، والنتيجة فساد للكون، لكن بقاء الكون كما هو فهو دليل على وحدانية الله.

3- قياس الأولى:
هذه صورة استدلالية عقلية استعملها القرآن في إفحام المنكرين للبعث فقال سبحانه: "وهو الذي يبدئ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى"... إلخ.

"من يحيي العظام وهي رميم • قل يحييها الذي خلقها أول مرة وهو بكل خلق عليم".

" أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد".

إن الذي أنشأكم من نطفة قادر على إعادتكم.

خامسا، أسئلة الحصار:
هي أسئلة عقلية، استعملها القرآن في مواطن كثيرة، وفيها دلالة عقلية كونها تحاصر العقل في خط واحد، وبالتالي لا يملك العاقل المنصف إلا التسليم.

في سورة الطور مقطع يبدأ من الآية 30 وينتهي بالآية 43، وهو أكبر مقطع تضمن 15 سؤالا، كلها تحاصر العقل إما أن يجيب صوابا وهو المطلوب وإما أن يسكت العقل وهذا تسليم بالعجز.

سادسا، الاستفهام الإنكاري:
هذا النوع ينتهي بتوبيخ العقل المندس في وحل الأهواء.. "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت".. أين عقولكم؟ هذه الاستثارة القرآنية للعقول إذا لم يكن الهدف منها ترسيخ القيم العقلية فما هي القيم العقلية إذن؟

سابعا، الدعوة إلى التفكر:
تكررت الدعوة في القرآن إلى التفكر بصورة لافتة للنظر بلغت -حسب الأستاذ العقاد رحمه الله- 361 آية، وقد جمعها في كتاب واحد بعنوان "التفكير فريضة شرعية".

ثامنا، النظر في السنن الكونية في النفس والاجتماع:
تكررت الدعوة إلى السنن تارة باسم السنن وتارة تحت مبدأ التسخير.. "قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين".
"فاعتبروا يا أولي الأبصار"
"لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب".

فالاعتبار قيمة عقلية بالغة الأهمية، ومن لم يعتبر، الجواب للقارئ.

تاسعا، ضرب الأمثال:
"وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون".. إنها دعوة أخرى بل دعوات في القرآن إلى ترسيخ القيم العقلية.

عاشرا، دعوة القرآن إلى التدبر:
"كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته".

أفلا يتدبرون القرآن؟ أليس هذا دلالة على إعمال العقل وتنميته؟

أخي القارئ العزيز: الموضوع طويل ولكن المثل العربي يقول: حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.

نلتقي بعونه سبحانه مع الحلقة الخامسة بعنوان "دور التزكية الخلقية في تعزيز شبكة العلاقات الاجتماعية".

كلمات دالّة

#اليمن