الإثنين 29-04-2024 19:40:57 م : 20 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

التوحيد السببي (قراءة مقاصدية) (الحلقة الثالثة: معادلة المنهج وعبور التحديات)

الأحد 26 نوفمبر-تشرين الثاني 2023 الساعة 08 مساءً / الإصلاح نت - خاص | عبدالعزيز العسالي
 

 

غزة.. العنوان دليل المضمون:

يقرر المؤرخون وعلماء الاجتماع أن تقييم الأحداث التاريخية الكبرى، بدءا من معرفة الأسباب الجوهرية والمؤثرة في النصر أو الهزيمة، يجب يكون التقييم بعد جيل - 30 عاما على الأقل.. ولسنا في هذا المقام مع أو ضد، فهدفنا هو التقاط المؤشرات الأولى انطلاقا من المثل: "قراءة الكتاب من عنوانه"، أو "العنوان ينم على المضمون".

وقد اجتهدنا في استنطاق المؤشرات الأولى لانتصارات غزة فخرجنا بالدلالات المنهجية الهامة واللافتة للنظر، بل إنها جديرة حقا بالوقوف إزائها، نظرا لعمقها المنهجي والعقدي والفكري والثقافي، وهو عمق صالح للبناء عليه، وسيجد القارئ أننا غير مبالغين، وهذا ما سيتم تسليط الضوء عليه في المحاور التالية.

المحور الأول، جسد فاقد المناعة:

المؤشرات تعطينا دلالة مفادها أن نخبة غزة انطلقت من قراءة واعية للواقع المحلي والمحيط، فخرجت بنتيجة موضوعية ناطقة مفادها: "أنت أمام جسد فاقد المناعة - ضمور وتشوه معرفي مزمن متراكم شامل"، فكرته المحورية: غياب وعي بالواقع والآخر.. فتحول الأمر إلى كوابح ثقافية.. بصيغة أكثر وضوحا هي أن العقل العربي رازح تحت "ثقافة الإصر" التي دمرت العقل العربي بلا استثناء.. تتمثل معالم الدمار فيما يلي:

- تشوهت الرؤية تجاه كليات الإسلام.

- تشوهت رؤية المنهج وتشوهت رؤية الواقع.

- تشوهت المفاهيم الثقافية كلها، فغابت المبادئ وحضر الأشخاص، فخيم الاستبداد بأبعاده الثلاثة - دينيا، واجتماعيا، وسياسيا.. والسبب غياب الثقافة الناقدة.

- حضور الصنمية الثقافية - عماية التقليد للآبائية وهذا قاد إلى فصام في الشخصية وغياب الاتساق بين الوجدان والسلوك العملي على أرض الواقع، فبرز التنازع الشامل فتفككت شبكة العلاقات وسط تبادل الاتهامات بالفشل، فسيطر الإحباط داخل الأجيال المتعاقبة.

- فوجئ الجميع بالمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة أنها بدلا من الدفاع عن الهوية صارت تروج بقوة لثقافة العولمة، فتزايد التدهور المطلق فلا دين ولا دنيا، ووصل التدخل الخارجي إلى أدق خصوصياتنا - التدخل في المنهج التعليمي.

- خطاب التزكية فقد مقاصده فتعطلت ثمار التزكية ودخلت الأمة حالة الغثائية فضاع رأسمال الأمة (الفكر والتفكير)، وقد وصل الحال لدى شريحة أوسع أن العلم والتفكير والصناعة بل والوعي الشامل وحلول الإشكاليات، كل ذلك حكرا على العقل الغربي.

المحور الثاني، الحاجة إلى نسق معرفي متكامل:

نستطيع القول جازمين إن نخبة غزة أدركت حقيقة المرض كما هو بعيدا عن العواطف فكان هذا أولا، أما ثانيا فقد قررت إيجاد نسق معرفي فكري إسلامي منهجي متكامل - منظومة تنتج جيلا سليما من كل التشوهات القاتلة والمحبطة، على أن يكون من خصائص هذا النسق المعرفي المنهجي يحول دون العودة بالعقل إلى العجز، وتلك الحيلولة لن تتأتى إلا بالعودة إلى المصدر المعصوم - القرآن والسيرة العطرة.

وفي مقدمة المنهج مجموعة مفاهيم كبرى وهي: توحيد متكامل الأركان - عقيدة تعبد، وعقيدة سببية.. والهدف هنا تحرير الإرادة من صراعات التراث والارتواء المباشر من معارف الوحي - مقاصد القرآن، وهنا استقامت المفاهيم واستطاعت النخبة الاعتلاء على أكتاف منصات التاريخ، فاستشرفت المستقبل فحصل لديها تراكم معرفي بلغة الزمن المعيش، فاستشرفت الطريق من خلال التوحيد السببي - التعاطي مع الأسباب وكلها ثقة أنها توحد الله.. بهذا المنهج تم تطوير القدرات العقلية والإبداعية والنفسية.

وبهذا المنهج تم تصحيح مفاهيم الكرامة والحرية وفق رؤية منهجية متينة تفهم الروايات الجزئية في ضوء مقاصد القرآن وكلياته، وينضوي في هذا الإطار المنهجي عدم التعويل على الأنظمة المحيطة بما في ذلك النخبة العربية التي يصدق فيها قول الشاعر البردوني رحمه الله: "باعت الأرض في شراء السمادِ".

استطاعت نخبة غزة تحرير إرادتها النفسية والعقلية فبادرت بكل ثقة إلى تفعيل التوحيد السببي - معرفيا وعلميا وماديا - وسائل الزمن المختلفة ذات الفاعلية المؤثرة، كل ذلك مؤطر بالضوابط الخلقية الصارمة.

تنمية الوعي المجتمعي:

المجتمع الغزي خلق فاعلية مجتمعية - حاضنة مثّلت الذراع القوية الساندة للنخبة فتكامل البناء فانبثقت عنه إرادة فولاذية متظافرة.

إن المتأمل في أحداث غزة يجد أن نخبة القسام نأت برجالها عن ركام التاريخ الرازح تحت ركام ثقافة الإصر فأنجبت جيلا بعيدا عن مرارات وإخفاقات التاريخ الحديث وانكساراته، بل إنها قد حرصت بكل قوة على مشكاة المصدر المعرفي رافضة الدخلاء على التدين المنقوص الهش الغارق في وهاد روايات التاريخ الدائر في فلك السلالية العنصرية، والكبراء - أنصاف الآلهة.

إن مؤشرات أحداث غزة تقول لعقابيل التاريخ أنت أمام قيادة فريدة لأنها تشربت منهجا فريدا طيلة ثلاثة عقود ولا زالت - قيادة صنعت جيلا تنسم عبق سورة الأنفال والتزم ونفذ -راغبا- سنن الله في الكون والنفس والحياة كما رسمها القرآن الخالد القائل: "حتى يغيروا ما بأنفسهم".. فعبر التحديات بكل أريحية.

نعم، تحقق عبور التحديات ورافقته سنن التأييد والعون الإلهي، لأن نخبة العبور نصرت الله في التزام التوحيد السببي - سنن الله.. فلا غرابة أن تحقق أقوى ملاحم النصر المدوي في سمع التاريخ بفضل تلك النقلة المنهجية التربوية - تخطيط وتنفيذ صارمان والزمن جزء من العملية الشاقة حقا، لكنها محمودة العاقبة.

المحور الثالث، إزالة شبهة:

الحقيقة أن هذه الحلقة قد أخذت مني وقتا غير قليل، ذلك أنني جمعت الكثير الكثير من الأفكار والمفاهيم ولكن وجدت نفسي طوال الفترة أمام سؤال يحاصرني قائلا: لا تنس أنك قد أثرت شبهة أمام القارئ تجاه موقف فقهاء السنة من عقيدة التوحيد السببي، والمطلوب منك إزالة تلك الشبهة.

وعليه، فما هو موقف علماء السنة من عقيدة التوحيد السببي؟ الجواب كما يلي:

أولا، لا يوجد عند علماء السنة عبر التاريخ شيء اسمه توحيد سببي، وهذا المصطلح اجترحته أنا من خلال مقاصد القرآن.

ثانيا، علماء السنة يقتصرون على القول: النظر في الأسباب فقط.. فهل تعمدوا الفصل بين الأسباب والتوحيد؟ الظاهر أنهم تعمدوا ذلك والشواهد كثيرة في كلامهم، وإليك أخي القارئ مثال هو الأخطر على ثقافتنا مطلقا وبلا أدنى شك، هذا المثال هو قولهم: "إن الأخذ بالأسباب شرك".. هذا القول قديما وحاليا من يرى الأخذ بالأسباب هو "علماني"، ولو ذهبنا نستعرض أقوالهم فالموقف يحتاج مجلدا قوامه 250 صفحة كبيرة، ذلك أن المعركة حول الأسباب لا زال الصراع حولها محتدما حتى اللحظة وبنفس القوة والزخم الجدلي الفارغ.

ثالثا، دوافع الصراع والجدل العقيم يعود إلى عصر الترف العقلي بين فرقة المعتزلة وأهل السنة بدءا من مطلع القرن الرابع الهجري وحتى اللحظة - طيلة ألف عام، علما أن فرقة المعتزلة لا وجود لها، ولكن اسم المعتزلة لا زال يمثل فزاعة تستحق إعلان الطوارئ رغم غياب المعتزلة بل وغاب معها دوافع الصراع.

باختصار، قال المعتزلة: إن الله خلق الأسباب وبثها في الكون وترك الكون يمشي وفق الأسباب، فانبرى علماء السنة إلى مواجهة قول المعتزلة قائلين إن الأسباب لا تعمل والاعتماد عليها شرك، وبالتالي فصلوا بين الأسباب وعقيدة التوحيد، بل أغفلوا نصوص القرآن حول مبدأ التسخير: "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه".. فالمعتزلة لم ينكروا خلق الله للأسباب ولا نسبوا الفعل للأسباب وإنما قالوا إن الله أودع قوة في الأسباب لها أثر، قال تعالى: "أو كصيب من السماء".. أي المطر سبب الإنبات، ونظرا للسببية فالله سمى المطر صيبا.. والصيب هو البذور.

وقد أطلق الله اسم الصيب على المطر لأن المطر سبب في إنبات الصيب.. وهذه التسمية مصطلح مشهور لغويا هو: "تسمية اللازم بالملزوم".. والقرآن زاخر بالنصوص، بل إن القرآن ذاته سبب في هدايتنا والرسول أيضا، والعلم سبب للنهوض بالحياة وهلم جرا.

لكن علماء السنة دخلوا في مكابرة وسفسطة محتجين أن النار لم تحرق الخليل عليه السلام، والماء لم يغرق موسى عليه السلام، وتعاموا تماما أن المعجزة هي خرق للأسباب يؤكد اطراد الأسباب وعاداتها، بل وتعامى أهل السنة إزاء العقل أنه سبب التكليف وقد غالطوا وأكثروا الجدل العقيم بما لا طائل فيه اللهم الجدل لأجل الجدل فقط.

المحور الرابع، النتائج والآثار:

لقد انعكس ذلكم الجدل على عقلية العامة وحلقات العلم الشرعي، واشتدت الخطورة أكثر وأكثر عندما صدرت توجيهات سياسية مفادها عدم قبول خريجي العلوم الشرعية في الفتيا والقضاء والخطابة ما لم يكونوا قد درسوا التزكية في زوايا التصوف القادم من فلسفة الغنوصية الهندية والشيعية الفارسية.

الحقيقة أن هذا العامل قد سدد ضربة قاتلة للثقافة الإسلامية، ولن أكون مبالغا إذا قلت إن تخلف المسلمين يعود إلى هذا السبب بنسبة 60 في المئة، ذلك أن زوايا التصوف أصبحت مصدر التثقيف، والنتيجة في أفضل الأحوال هي الصمت التام تجاه الأسباب، والله يرزق من يشاء بغير حساب، ويعطي الملك من يشاء، ومنازعة ولي الأمر كفر أكبر لأنه منازعة لله في عطائه.

لم يقف الأمر عند هذا الانحطاط وإنما وصل إلى الخلط بين القدر الكوني الذي لا دخل للإنسان فيه وبين حرية الإرادة والاختيار، والحديث يطول جدا، ذلك أن هذه الثقافة المشوهة عمرها ألف عام.

وليس أخيرا، لقد تعمدت الربط بين الأسباب والتوحيد وجعلت التعاطي مع الأسباب لا يخرج عن التوحيد السببي، وها أنا أضيف قائلا إنني مؤمن أن الله سخر الأسباب وأمرنا بالتعاطي معها، وإنني مؤمن بأن الله قادر أن يبطل الأسباب متى شاء خارج اللحظة والثانية، وهذا هو القرآن فكيف نؤمن بالقرآن إجمالا ولا نؤمن بهداياته؟

كلمات دالّة

#اليمن