الإثنين 29-04-2024 19:40:09 م : 20 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

التوحيد السببي (قراءة مقاصدية) (الحلقة الثانية: قانون الاعتبار وآفاق التفكير.. مصادر، مقاصد، فوائد)

الأربعاء 22 نوفمبر-تشرين الثاني 2023 الساعة 08 مساءً / الإصلاح نت - خاص | عبدالعزيز العسالي

 

أدلة قانون الاعتبار من الذكر الخالد:
قال تعالى:
- "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب" (يوسف، 111).
- "فأخذه الله نكال الآخرة والأولى • إن في ذلك لعبرة لمن يخشى" (النازعات، 25 - 26).
- "يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار" (الحشر، 2).
- "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك" (النساء، 84).

توقيعات:
- "خمسة عقود وأنا أبحث عن أسباب هزيمة العقل العربي أمام العقل الصهيوني أتساءل: ألا يوجد عقل عربي قادر على إدراك العقل الصهيوني؟ وها أنا والحمد لله رأيت اليوم العقل الغزي الذي أدرك بامتياز العقل الصهيوني وتعامل معه" (الفيلسوف طه عبد الرحمن).

- "كوارث التاريخ مكوّن إحباط، ويتحداها التفاؤل لدى المفكر والمؤرخ، فيستدعي جهوده للكشف عن المعنى أو القوانين الناظمة لأحداث التاريخ، وكيف صنعت واقعهما المعيش، وبالتالي يتمكن من رسم خارطة المستقبل" (توينبي، مختصر التاريخ، بتصرف، ج 4، ص 236).

- القرآن المجيد تارة يحدثنا عن التربية بالأحداث، وتارة يهدينا أن الله يصنع الأحداث للرسل عليهم السلام.

- العقل الحمساوي وعى أبعاد إستراتيجية التفكير الصهيونية فانطلق نحو عملية إجرائية تربوية تنموية إستراتيجية للعقل الغزي فجاءت النتائج مدهشة مذهلة، الأمر الذي يستدعي بناء آفاق التفكير وإعادة تشكيل العقل المسلم انطلاقا من قانون الاعتبار الذي يتكون من أسس ومصادر ومقاصد وفوائد.

المصدر الأول، قصص القرآن:

إذا تأملنا قصص القرآن ومقاصده سنجد ما يلي:
- قصص القرآن بلغت آياته قرابة 1504 آيات، أي قرابة ربع القرآن، ولا شك أن قصص القرآن تضمن مقاصدا وأهدافا كثيرة يستطيع التالي المتدبر فهم تلك المقاصد أو غالبيتها.
- قانون الاعتبار هو أبرز مقاصد القرآن، وقد نص عليه القرآن حرفيا، وقد ذكرنا ذلك أعلاه، ولا مانع من التذكير: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب".. "فأخذه الله نكال الآخرة والأولى • إن في ذلك لعبرة لمن يخشى".. إذن، قانون الاعتبار ما لم يكن هو أول مقاصد قصص القرآن فإنه يأتي في مقدمتها بحسب تعليل القرآن.

المصدر الثاني، الأحداث:

والمقصود بالأحداث: السيرة النبوية التي ذكرها القرآن الخالد، حيث ذكر القرآن حدث جلاء بني النظير، وقينقاع، وخيبر، مقترنا بقانون الاعتبار قائلا: "يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار".. وهذا يوصلنا إلى المقصد التربوي القرآني: التربية بالأحداث.

هذا المقصد التربوي القرآني العظيم تم استجلاؤه من خلال مواكبة القرآن لأحداث السيرة النبوية، ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة ما إن ينتهوا من حدث فنجد القرآن يعقبه بسور كاملة أو نصوص طويلة، فهذه حادثة معركة بدر نزلت عقبها سورة الأنفال كاملة، وحادثة معركة أحد أعقبها نزولها آية في سورة آل عمران (120 - 184).. حادثتا قينقاع والنظير أعقبهما نزول سورة الحشر.. أيضا غزوة الأحزاب وبني قريظة أعقبهما نزول سورة الأحزاب كلها.. كذلك حادثة صلح الحديبة أعقبها نزول سورة الفتح كاملة.

وبعد فتح مكة ومعركة حنين وتبوك، نزلت سورة التوبة.. ما يلفت النظر أن آية واحدة نزلت تمدح الجرحى في أُحد حيث دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم للخروج إلى حمراء الأسد ثالث يوم بعد أُحد، فأثنى الله عليهم قائلا: "الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح".

وهذا الثناء الخاص وترتيب الأجر العظيم يعطينا مقصدا تربويا في غاية الأهمية وهو: التربية على المغالبة ورفض الاستكانة وترسيخ قيمة العزة: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين".. وقال لهم: "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون".

باختصار شديد نقول إن السور والنصوص التي نزلت عقب أحداث السيرة النبوية أرست تشريعات عقدية - تعظيم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وثناء على الصحابة - الأنصار تحديدا.. وأرست قيما كبيرة وغيرت أعرافا اقتصادية ورسخت سننا اجتماعية وآفاقا فكرية وثقافية وتشريعات جليلة الشأن تصنع خارطة المستقبل.. إلى غير ذلك.

المصدر الثالث، التاريخ:

والمقصود هو التاريخ عموما والتاريخ القريب الذي تعيشه الأجيال مباشرة أو تلحق شيئا منه أو تأخذه عن جيل الآباء المباشرين.. مزيد من التفصيل حول هذا المصدر لاحقا.

المحور الثاني، مقاصد قانون الاعتبار:

المقصود هنا تفكيك قانون الاعتبار وتقريبه في مفاهيم قريبة إلى الفهم، وذلك على النحو التالي:

- المفهوم الأول، من معاني قانون الاعتبار: تشكيل العقل وبناء التفكير، ومن معانيه: الاجتهاد.. كيف لا وقانون الاعتبار هو مصطلح قرآني كثيف يكتنز فيه معان ودلالات منهجية، بل نستطيع القول جازمين إنه يمكننا تسميته "نظرية الاعتبار" نظرا لاتساع دلالاته وقوة تأثيره في مجالات العلوم الإنسانية المختلفة.

قانون الاعتبار يصنع وعي الذات والواقع ويفتح آفاق التفكير ويخلق التصورات نحو المستقبل ورسم إستراتيجيته بما في ذلك الوعي بالعالم من حولنا، وإن شئت قل الوعي بإستراتيجية العدو ووسائله المتبعة وكيف يفكر ويخطط.

الخلاصة: قانون الاعتبار هو آليّةٌ ذهنية فكرية تساعدنا على العبور من المعلوم إلى المجهول، وهذا المعنى هو أقرب وأبسط التعاريف لقانون الاعتبار، ذلك أن العلماء تعاطوا مع هذا القانون باعتباره منهجا علميا عقليا موضوعيا له أسس وشروط وضوابط، ولا ننسى أن قانون الاعتبار منهج علمي يستند إلى أسس عقدية معصومة صادرة عن الخالق العليم: "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".

المحور الثالث، شهادة الواقع:

جميعنا يعلم ويعيش منذ 40 يوما الحدث التاريخي العظيم.. حدث غزة.. حدث تاريخي صنعته رجالات حماس، فهل هذا الحدث جاء اعتباطا؟ هل هو قدر سماوي جاء من دون مقدمات.. هذا الحدث الوحيد خلال القرن سببه الوحيد هو دعاء المصلين القانتين في فلسطين ودعاء الحجيج وسائر المسلمين طيلة سبعة عقود ونصف العقد.

العقل المؤيد، والعقل المسدد:

المقصود بالعقل المؤيد هو عقل الرسل عليهم السلام، فهو عقل مؤيد بالوحي المعصوم.. إما معجزات خارقة وإما تصويب إذا أخطا.. والقرآن والسيرة العطرة زاخران بالأدلة.

المقصود بالعقل المسدد هو عقل المسلم الناظر في مقاصد القرآن وأهدافه وغاياته ومنهج القرآن السنني العلمي وقوانين التاريخ.. ويستعين بقانون الاعتبار ويقرأ الواقع كما هو قراءة موضوعية شاملة، ويخطط تخطيطا علميا إستراتيجيا للمستقبل المنشود، ثم يقرأ العالم حوله قراءة واعية لإستراتيجياته مع استخلاص قوانين التاريخ وصولا إلى رسم رؤية واضحة وهدف محدد وأهداف مرحلية مستعينا بالله، وهنا يأتيه العون والسداد، وهذا هو المقصود بالعقل المسدد.

إذن، فالسداد هو نصر من الله يسدد الذي ينصر الله الله.. التزاما عقديا وقيما وأخلاقا وسننا وتشريعا، ومن هنا نفهم قول الله: "ولينصرن الله من ينصره"، وهذا الملتزم بتعاليم القرآن ومنها "قانون الاعتبار" يصدق فيه معنى الجندية "وإن جندنا لهم الغالبون".

العقل المسدد هو الملتزم بعقيدة التوحيد التعبدية وعقيدة التوحيد السببي.. عقيدة تفعيل الأسباب بتحويلها سلوكا عمليا من أفق ثقافة العصر والعرف المتجدد المتمثل في السنن الحاكمة للاجتماع "عقيدة تعبدية وعقيدة سببية"... إلخ تفاصيل الإعداد الجزئية.. التزاما بأمر الله: "وأعدوا".

هنا يصدق عليه مصطلح "العقل المسدد".. كيف لا والله يقول لخيرة الموحدين: "قل هو من عند أنفسكم".. لقد خرجتم من إطار: "وإن جندنا".. وأهملتم سنن النصر، وهنا لن يحالفكم النصر لأنكم ما نصرتم التوحيد السببي.

إذن أخي القارئ عد إلى كلام الفيلسوف طه عبد الرحمن الذي قرر بوضوح أنه وجد العقل الفعال حقا، وللعلم أن هذا الفيلسوف له نظرة صوفية تكاد تنكر العقل والأسباب، لكنه اليوم يعترف بالعقل المؤمن الذي ولدته "غزة".. نعم عقل مؤمن مسدد بالعون والتأييد الإلهي الأعلى.

عودة إلى المصدر التاريخي..
وعدنا بمزيد من التفصيل حول المصدر التاريخي والمقصود هو أن حماس درست قانون الاعتبار المستخلص من التاريخ عموما ومن التاريخ القريب عام 1948م وما بعده، فنظرت في الإخفاقات المتتالية طيلة 75 عاما، والأسباب والعوامل ذات التأثير المباشر وغير المباشر على المستويين المحلي والإقليمي والخارجي.

وحسب مشعل: نحن انطلقنا من توجيه القرآن: "فقاتل في سبيل الله لا تكلّف إلا نفسك".. نعم، رجال غزة قرؤوا بعقلية المؤمن بالله وبتعاليمه فدخلت التاريخ العسكري من أوسع أبوابه.. نحتت اسمها في الصخر الصلد.

المحور الثالث، قانون الاعتبار وقراءة التاريخ:

التربية بالأحداث تعيد تشكيل العقل، والمقصود هنا العودة إلى التاريخ الإسلامي بهدف إعادة قراءته وكتابته من خلال منهجية قانون الاعتبار الذي وضع لنا منهجية "فتبينوا".. ذلك أن في التاريخ روايات مخالفة للقرآن ومنهجية القرآن ومخالفة لسنن الاجتماع وروح المجتمع.

وعلى سبيل المثال نص القرآن على المكانة السامقة للصحابة في 27 موطنا، فالصحبة لا تعني صحبة للرسول صلى الله عليه وسلم بالمعنى الاجتماعي المتعارف، وإنما الصحبة هنا تعني الصحبة بالمعنى المعرفي الفكري الفقهي الثقافي، كما أن القرآن حرث عقول مجتمع الصحابة فخرج جيل فريد دانت لهم الدنيا لما يحملونه من قيم إنسانية وحضارية وليس بالسيف فقط، فالسيف كان لمن يحول دون حرية الناس.

باختصار، التاريخ الإسلامي تضمن روايات مسيئة للصحابة وللرسول صلى الله عليه وسلم مخالفة للقرآن ومنهجه، فتشوهت ثقافتنا تجاه أنبل ناس حملوا إلينا القرآن وقيم الإسلام.. تشوهت أفضل حقب التاريخ الإسلامي وتشوه روح ذلك المجتمع الرائع الذي صنع انتصارات تجاه أقوى الإمبراطوريات في عصره كما هو حال حماس في أيامنا، وها نحن نسمع ونرى بالعين من بعض المغفلين، يسبون بكل وقاحة أنبل جيل عرفه القرن الخامس عشر الهجري بشهادة العالم من مسلمين وغير مسلمين، ولكن قليلي التربية يشتمون.

تلك الحماقات الوقحة الحاقدة إزاء أعظم حدث تاريخي جعلتنا نفكر تجاه الصحابة رضوان الله عليهم.. نفكر بمنهجية قانون الاعتبار.. منهجية العبور فتحت لنا الطريق.. فنحن أولى الناس بالاستفادة من التربية بالحدث كي نعود مدافعين عن أفضل الخلق بعد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم من جهة، ومن جهة ثانية نعيد تشكيل العقل انطلاقا من قواعد منهجية أساسها القرآن والسنة وقواعد متفق عليها مستوحاة من معارف الوحي وروح المجتمع، وإعادة بناء التفكير وإعادة تأسيس ثقافة المجتمع، وهذا سيكون بعون الله في الحلقات القادمة.

كلمات دالّة

#اليمن