مدخل:
عودة السلالية، كيف؟ ولماذا؟
في صبيحة الـ26 من سبتمبر 1962، حدد الشعب اليمني خط وجهته السياسية بوضوح أن النظام الذي سيحتكم إليه الشعب اليمني الحر هو النظام الجمهوري، وأرسى ذلك بوضوح في 6 أهداف، ورسخها نظريا في الدستور والقانون وعمليا طيلة 50 عاما، وأكّد على ذلك آباؤنا - جيل الرواد في حواراتهم مع فلول السلالية الملكية الخبيثة بأن النظام الجمهوري خيار شعبي لا نقاش حوله مهما كانت التضحيات.

واليوم وبعد مرور 60 عاما على قيام ثورة الـ26 من سبتمبر، عادت السلالية الحاقدة بمليشياتها الإرهابية الانقلابية تذيق شعبنا اليمني ويلات القتل والخطف والتعذيب والتدمير والتمزيق وغير ذلك من مفردات الفتك والرعب والإرهاب الشامل، وهنا تساءل العقلاء:
- كيف عادت السلالية العنصرية؟
- شعبنا اليمني يرزح تحت وطأة ردة تاريخية 100%، نعم ردة تاريخية في الوقت الذي تعالت فيه بعض الأصوات في الفضاء الثقافي منكرة المفهوم الشائع أن التاريخ يعيد نفسه، فإذا سلّمنا للإنكار الآنف، فماذا نسمي عودة السلالية الكهنوتية الحاقدة بعد 60 عاما؟

الجواب: نعم، التاريخ [قد] يعيد نفسه إذا توفرت الشروط والعوامل، فما هي الشروط والعوامل؟ ولأنّ موضوع الشروط واسع المترادفات والدلالات، والتي قد يكتنفها الغموض، وبعد تأمل غير قليل بهدف تبسيط الفكرة، توصلنا إلى التقسيم أو التبديل على النحو التالي:

أولا، تنقسم شروط عودة التاريخ إلى نوعين: النوع الأول، الشرط المحوري. والنوع الثاني، الشروط المكمّلة.

ثانيا، وتقريبا للفكرة إلى ذهن القارئ فقد بدّلنا:
- مصطلح "الشرط المحوري" بمصطلح "قانون الفراغ".
- وبدّلنا مصطلح "الشروط المكملة" بمصطلح
"المكونات والعوامل"، فإلى التفصيل.

قانون الفراغ.. المقصود بقانون الفراغ هو:
- "غياب الوعي بثقافة الاعتبار"، ذلك أن القرآن العظيم قد نص على "قانون الاعتبار" في نصوص صريحة قطعية لا لبس فيها ولا غموض، حيث إن القرآن العظيم زاخر بحسن القصص الذي شغل حيزا اقترب من ثلث القرآن.

- مقاصد القصص: القرآن ربط القصص بمقاصدها الشرعية أي الحكمة من القصص سمّاها "الاعتبار"، قال تعالى:
- "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب".
- "فاعتبروا يا أولي الأبصار".
- "إن في ذلك لعبرة لمن يخشى".

ورد الخطاب القرآني حول الاعتبار بصيغ مختلفة منها صيغة الأمر الصريح الدال على الوجوب، قال تعالى: "فاعتبروا".

- الصيغة الخبرية المتضمنة التعليل الصريح، ومدلول الصيغة الخبرية عند علماء البلاغة يعني أن قانون الاعتبار أمر مفروغ منه غير قابل للنقاش.. مقارنة بدلالة الأمر هل هي للوجوب أم للاستحباب... إلخ.

- اقترنت الصيغة الخبرية بالخشية، والخشية هي أعظم المعالم القلبية والسلوكية الدالة على العلم والإيمان الراسخَين، قال تعالى: "إن في ذلك لعبرة لمن يخشى"، وقال تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء".. العلماء الذين يقرؤون قراءة استدلال واعتبار بالمآلات.

- اقترنت الصيغة الخبرية بالعقل والبصيرة، قال تعالى: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الأبصار".. وقال تعالى: "فاعتبروا يا أولي الأبصار".

باختصار، الاعتبار - نص، وإيمان، وعقل، وهذه الثلاثة هي مرتكزات المشروع الإسلامي.

- قانون الاعتبار متصل بالسنن الكونية الحاكمة للاجتماع الإنساني: لقد نص القرآن صراحة أن سنن الله الكونية الحاكمة للاجتماع لا تتحول، ولا تتبدل، قال تعالى: "فهل ينتظرون إلا سنة الأولين ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا".

- نص القرآن صراحة على حتمية عقوبة كل من لم يفكر في قانون الاعتبار، لأنه يخالف ويصادم عقيدة القرآن الذي أمر بالنظر إلى السنن الكونية.

- من يخالف السنن ولم يعتبر يطاله العقاب، مسلما كان أو غير مسلم، قال تعالى: "ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به".

- نص القرآن على تكرار العقوبة: "وإن عدتّم عدنا".

الخلاصة:
- قانون الاعتبار هو الجانب الإيجابي - التعاطي مع سنن الله كما قرّر القرآن.

- قانون الفراغ، هو الشرط الوحيد الذي يهوي بالمجتمعات والشعوب إلى الردة التاريخية (عودة التاريخ).. قانون الفراغ إذا تكاملت مكوناته وعوامله فهو مقدمة مرتبطة بالنتائج بلا جدال أو نقاش. إذن، قانون الفراغ هو القانون المحوري للردة التاريخية.

المكونات والعوامل.. قراءة تطبيقية:

معالم عودة السلالية نموذجا

إن قانون الفراغ الذي قاد إلى الردة التاريخية التي قذفت بوطننا الحبيب في مهاوي الردى والدمار السلالي الكهنوتي، لم يأت اعتباطا وإنما استند إلى مكونات وعوامل كثيرة.. عوامل ترسخت طيلة 5 عقود، حتى أصبحت معالم ظاهرة تغذّى عليها "قانون الفراغ".. هناك معالم كثيرة لكننا سنقدم أبرزها:

معْلَم غياب الوعي بالتاريخ:

فلاسفة الاجتماع يطلقون على التاريخ مصطلح "أبو العلوم"، ذلك أن التاريخ له دور بارز في تكوين الهوية الشخصية - عقيدة وثقافة الثقة بالذات... إلخ.

تحول الموقف إلى أسطوانة مشروخة - ترديد كلمات ضد العهد السلالي، وتلك العبارات باتت محل سخرية العجائز لسبب بسيط وواضح لخصه البردوني رحمه الله في بيت من الشعر قائلا:
فلم يمض شيء يسمى غريب
ولم يأت شيء يسمى عجب

نعم، من حق العجائز إطلاق الضحكات، كونهن لم يلمسن أي تغيير. إذن، جيل ما بعد الثورة يعاني فقرا مدقعا تجاه الوعي بتاريخ ما قبل قيام النظام الجمهوري.. غياب معْلم الوعي التاريخي سببه غياب المعلم التالي.

معلم غياب البرنامج الثقافي:

وأبي يعلمنا الضلال
ويسأل الله الهداية
(البردوني رحمه الله).

في حدود علمي لم أقف على أي معلومات تنص أن الحكومات المتعاقبة طيلة 50 عاما قامت بتخطيط برنامج ثقافي، ومن لديه معلومة في هذا فليمدني بها وسأكون شاكرا له.

باختصار، نشأ جيل ما بعد الثورة جاهلا بما قبل الثورة.. جيل لا يعرف المواد السّامّة، وصدق الفاروق حين قال: من لا يعرف الجاهلية لا يعرف الإسلام.

إذن، المعلم الثاني هو تقصير أو إهمال البرنامج الثقافي تخطيطا وتنفيذا.

معلم غياب السياسة التعليمية:

فاجعة مخرجات التعليم - أطروحة دكتوراه نموذجا.

- الباحث د. سمير العبدلي، قسم علم الاجتماع جامعة صنعاء، قام بعمل استبيان علمي للحصول على درجة الدكتوراه.

- تحدد ميدان الاستبيان في محافظتي عمران وحضرموت.

- شملت عينة الاستبيان 500 شخص في كل محافظة.

- عينة الاستبيان طالت خريجي الجامعات من الجنسين وكذلك كبار السن - حدود 55 عاما فما فوق.

- موضوع الاستبيان: ما مدى استفادة القبيلة من الثقافة الديمقراطية؟

- زمن ظهور الاستبيان في عام 2009.

نتيجة الاستبيان كالتالي: 64% من كبار السن في عمران جاءت إجاباتهم ناضجة حول أهمية الديمقراطية ولوازمها وفوائدها سياسيا وتنمويا... إلخ.

- نتيجة الشباب الجامعي: 34% و32% جاءت إجاباتهم ركيكة تعكس ضحالة مخرجات التعليم من جهة، وعدم القراءة في أوساط حملة الشهادة الجامعية.

- في حضرموت نسبة كبار السن لم تتجاوز 32%، تفاوتت الإجابات من حيث النضوج والركة.

- إجابات حملة الشهادة الجامعية في أسوأ حالات التدني حسب الباحث.

‐ تعليقات الباحث: علل الباحث حالة نضوج كبار السن في عمران بسبب اجتماعهم في مجالس القات - المقيل، وإن الشباب لا يحضرون مقايل الكبار.

- علل تدني نسبة كبار السن في حضرموت بسبب انشغالهم بالتجارة.

- علل تدني نسبة خريجي الجامعات أن أبرز سبب يعود لضحالة مخرجات التعليم.

أخزى المخازي، صدّق أو لا تصدّق، قرار عالي المستوى نص على تشكيل لجنة تقوم بكتابة تاريخ ثورة الـ26 من سبتمبر.

الجدير ذكره أن القرار أغفل ذكر الشخصية ذات النفوذ المتحكم باللجنة، إنها شخصية مغموسة في مستنقع الحقد على الثورة والثوار، إنه عبد الرحمن البيضاني.

مخرجات اللجنة: تشويه للثوار الأبطال عموما دون استثناء بدءا من أبي الأحرار الزبيري، وعلي عبد المغني، وهلم جرا، فقد وزعهم بين العهر، والخمر، وأشياء يعف اللسان عن ذكرها.

غياب المنهج المقاصدي:

والمقصود هنا المنهج الفكري المقاصدي الذي يبني الملكة الفقهية.. الأسوأ هو أن الفراغ الناجم عن غياب المنهج المقاصدي فتح المجال لفهم سطحي وعظي هش، والنتيجة: تشدد، تزمت، جهل بالأصول، إقصاء للفقه وتهميش لفقه الحياة.

معلم غياب عقيدة مؤسستي الجيش والأمن:

لا شك أن ذاكرة القارئ لم تتآكل تحت وطأة النسيان، فهو لا يزال يعلم موقف الجيش والأمن تجاه الانقلاب السلالي الإرهابي.

معلم خيانة المثقف:

فيلسوف أوروبي قال إن أخطر الخيانات خيانة المثقف لأنه يجيد التبرير والمغالطة تجاه انحطاطه، ورحم الله البردوني الذي داس أفواه بعض المثقفين قائلا:
على الحاكم يبول العار مبتهجا
إذ عاش حتى رأى من يعشق العارا

نعم، هناك مثقفون وصفوا الانقلاب الإرهابي السلالي الكهنوتي على الشرعية بأنه صراع حزبي، ألا شاهت الوجوه.

معلم منجزات الماضي:

يحضرني مثال من التاريخ الفاطمي في القاهرة، حيث كان لهم مواقف إيجابية أهمها إيقاف جيش الروم، لكن في زمن شيخوخة الدولة كتبوا إلى ملك الروم أن يحضر وسيعطونه سوريا، فرفض لأنه يريد فلسطين، ذلك السقوط والانحطاط كان مغلفا بالتغني في ماضي الفاطميين وأن خيانة تسليم سوريا للعدو التاريخي "مغتفرة" بالتصدي لجيش الروم الذي حصل قبل عقود.. لقد استند بهم غباء الغرور والاستعلاء فنسوا لماذا كان التصدي للروم؟

معلم غياب المبادئ:

غياب هذا المعلم هو نتيجة لما سبقه من المعالم.. قانون فراغ المبادئ تم استبداله بالعكوف حول الأشخاص، واللهاث حول الأشياء.

الخلاصة، يصف علماء الاجتماع حالة الشعوب التي تعيش حالة غياب المبادئ قائلين: إذا رأيت الشعب يعيش للمبادئ فاعلم أن الشعب في أوج شبابه، وإذا رأيت الشعب يدور حول الأشخاص فاعلم أنه في حالة موت سريري، أما إذا رأيت الشعب يلهث وراء الأشياء ولا يهمه من أين جاءت تلك الأشياء، فكبّر عليه أربعا.

وعليه، قانون الفراغ تغذيه مكونات وعوامل كثيرة تلك أبرزها، ولا شك أن هناك عوامل قد تكون أقوى ولا شك أن القارئ قادر على استحضارها بسهولة.

ما العمل؟
أحد فلاسفة الثورة الفرنسية قال: سيروا عكس ما أنتم عليه ستجدون أنكم في الطريق الصحيح.

ونحن نقول: حتى نستعيد ألق الثورة ونحول دون الوقوع في ردة تاريخية متكررة يجب علينا:
1- الولاء لله الذي علمنا سنن الحياة.
2- الولاء للأمة بكل مقوماتها وقواسمها المشتركة - هوية وثقافة وتاريخا وحضارة ودستورا ودولة وجيشا وقيما وطنية وكرامة الشعب وحرية ومساواة وديمقراطية.
3- النظر في أدب الثورة - شعرا وتاريخا وأغانٍ وطنية، وهذا الأخير لا عذر فيه لأحد صغيرا أو كبيرا متعلما أو أمّيّا.

أرضنا نحن غسلنا وجهها
وكسونا أفقها صبحا مبينا
وزرعنا في ثراها عزها
لا يرى ثراها مستكينا

وليس أخيرا، سبتمبر صديق الشعب.. صديقنا سبتمبر وصديق كل حر وطني شريف، الذين أثبت الواقع أنهم حملة المشروع الوطني - ولاء للجمهورية والشرعية الدستورية، والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والوقوف ضد الكهنوت السلالي انتصارا للديمقراطية، وولاء للوحدة اليمنية أرضا وإنسانا، والفكر الوسطي واحتراما لهوية الأمة تاريخا وحضارة.

عاش وطننا اليمني موحدا في ظل تضحيات الشرفاء، الرحمة والمجد والخلود للشهداء، الشفاء للجرحى، دمت يا سبتمبر صديقا لشعبنا اليمني الحر الأبي، دمت طريقا للأحرار.
نلتقي بعون الله..