السبت 23-11-2024 11:02:06 ص : 22 - جمادي الأول - 1446 هـ
آخر الاخبار
الحزبية في اليمن ودورها في البناء الوطني.. قراءة لتجربة نصف قرن
بقلم/ د. ثابت الأحمدي
نشر منذ: 7 سنوات و شهر و 13 يوماً
الإثنين 09 أكتوبر-تشرين الأول 2017 04:54 م
 

لا يكاد باحث ما أن يجزم بصورة مؤكدة عن بداية نشوء الحزبية في اليمن، وكل ما في الأمر مجرد تخمينات وتقديرات قد يكون أرجحها يشير إلى أن نشوء الحزبية في اليمن كتيارات وحركات كان مع نهاية الثلاثينيات من القرن من الماضي بعد خروج بعض من الطلبة اليمنيين إلى خارج الوطن سواء من الشمال أو من الجنوب، حيث فتحوا أعينهم في بعض العواصم العربية كالقاهرة وبيروت وبغداد ودمشق على تبلور ونشوء الجماعات الحزبية ومنظمات المجتمع المدني والجمعيات العامة التي كانت في بداية عهدها أيضا هناك, لينخرط هؤلاء الشباب في هذه التيارات بعضها بطريقة سرية والبعض الآخر علنيا أو شبه علني.

 عادوا بعدها إلى اليمن بشطريه وقد أصبحوا أكثر تطلعا من أساتذتهم الذين تأثروا بهم هنالك، وأكثر حماسة للعمل الحزبي والنشاط السياسي والثقافي من خلال منظمات المجتمع المدني والأندية والمنتديات وغيرها، ولعل في تجربة الجماعة الأولى للإخوان المسلمين خير دليل على ذلك، أشار إليها الراحل الأستاذ حميد شحرة رحمه الله في كتابه "مصرع الابتسامة" باستفاضة، إلا أن هذه الجماعة في طورها الأول ومعها بعض الخلايا من جماعة اليسار أو القوميين قد تعرضت للملاحقة والتضييق من قبل الإمام يحيى وأركان حكمه المنغلقين على أنفسهم في هذا الركن القصي من الجزيرة العربية.

 ليس هذا فحسب؛ بل لقد كان الإمام حسَّاسًا حد الإفراط من قيم الحداثة أو التطور أو ملامح أي جديد قادم حتى ولو كان كتابا لأحد رواد المدرسة الإحيائية في مصر أو بيروت التي كانت ـ بحق ـ الخميرة الأولى التي تشكلت منها ثقافة الأحرار الأربعينيين "الشباطيين" ومنها كانت شرارة الثورة، وكانت روح الميثاق الوطني المقدس الذي صاغه العائدون من القاهرة تحديدا.

وشهدت فترة الأربعينات والخمسينات ركودا حادا في مسيرة العمل الحزبي في اليمن بسبب التضييق عليهم والنفي الذي لاقوه والسجون التي واجهتهم، وكانت الحزبية في حد ذاتها تهمة جديرة بملاحقة صاحبها واتهامه في دينه ووطنيته، وقد ظلت هذه الفكرة هي السائدة عند كثير حتى فترة السبعينيات فالثمانينيات، ومما ينسب لرئيس المجلس الجمهوري في الشطر الشمالي سابقا القاضي عبد الرحمن الإرياني رحمه الله، قوله عن الحزبية في معرض التشنيع والتحذير: "الحزبية تبدأ بالتأثر وتنتهي بالعمالة" وهي مقولة لا نستطيع أن نخطئها اليوم بكاملها على الإطلاق، لأن لها ظروفها الزمانية التي ولدت منها، خاصة مع اشتداد الصراع بين طرفي الحرب البادرة آنذاك، وفي ظل المركزية الشديدة لكل الأحزاب التي دخلت إلى اليمن من خارجه، من القاهرة أو دمشق أو بغداد أو بيروت، ولأن الضعيف عادة يكون متوجسا أمام أي طارئ أو جديد خاصة ممن هم أقوى منه، وقد كانت اليمن يومها الحلقة الأضعف في سلسلة الدول العربية التي سبقتها في مضمار الثقافة والسياسة في القرن العشرين.

 على أية حال كانت البداية الأولى لنشوء الأحزاب السياسية في اليمن مرتبطة ـ إلى حد كبير ـ بثورة السادس والعشرين من سبتمبر في الشمال عام 1962م وثورة الرابع عشر من أكتوبر في الجنوب عام 1963م اللتين فَتَحتا لليمن أفقًا أطل من خلاله على العالم بمتغيراته وتحديثاته، وقد كان اليمن بعيدا كل البعد عن ذلك بحكم سياسية الأئمة التي اتبعتها في حكم اليمن، وإن كان الناصريون في عناصرهم الأولى متواجدين من العام 59م، وكذا البعثيون من العام 56م حسبما تذكر بعض المصادر، وأيضا اتحاد القوى الشعبية من العام نفسه، وكذا الإخوان المسلمون من قبل ذلك، وغيرهم.

 ولما لم يقر أي دستور في البلاد بالحزبية أو الاعتراف بها عمل الجميع بالتخفي منذ مطلع الستينات وحتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وتكونت كل الأحزاب الموجودة اليوم خلال فترة الستينيات وتنامت بصورة ملحوظة، غير أن طابع العلاقة بينها هو العداء أو الخصومة في أحسن الأحوال؛ بل لقد احتربت مع بعضها البعض على الرغم من سمو الأفكار ومثالية الشعارات التي كانت تحملها وإن كان بعضها قد قدم نموذجا غير جيد على الصعيد العملي في الممارسة والسلوك، وهو سلوك على الرغم من عدم تبريرنا له إلا أننا يجب أن نقرأه اليوم وفق ملابسات تلك المرحلة نفسها ثقافة وسياسة وعمقا اجتماعيا.

 ظلت الأحزاب في اليمن خلال فترتي الستينيات والسبعينيات هي الوجه الآخر لليمن في تلك الفترة، متطلعة للظهور من عوالم التخفي، مثلما الدولة حالمة بالتطور وهي في ذيل القافلة، وجاءت فكرة المؤتمر الشعبي العام في منتصف السبعينيات أثناء حكم الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي رحمه الله كمظلة جامعة لكل اليمنيين من أجل بناء يمن جديد كانت ملامحه مرسومة في ذهن الشهيد وغير مكتوب ربما، إلا أن ذلك لم يتحقق وبقيت الفكرة حتى العام 1979م ومع صعود علي عبدالله صالح إلى السلطة على الطريقة المعروفة بعد مقتل الحمدي والغشمي في الشمال، وسالمين في الجنوب، استطاع أن يحتويها ومعه الكثير من رجال اليمن المخلصين والشرفاء فكان المؤتمر الشعبي مظلة جامعة لكل الفئات والجماعات التي انضمت تحت لوائه وعملت لصالح أفكارها من خلاله، حتى جاءت الوحدة اليمنية عام 90م واقترنت بالديمقراطية والتعددية السياسية فعاد كل من الأطراف إلى حزبه وظهرت جميعها للعلن، وصارت التعددية السياسية والحزبية حقا مشروعا بعد أن كانت تهمة محرمة قبل ذلك، ووصلت الأحزاب حينها إلى ما يزيد عن أربعين حزبا في بدايتها الأولى غير أن كثيرا منها تلاشى والبعض اندمج مع الأقرب إليه فكرا وثقافة، لتستقر مع بداية العقد الثاني من الألفية الجديدة في حدود خمسة وعشرين حزبا سياسيا، بعضها مكتملة النمو والبعض الآخر إلى الجماعة العائلية أقرب إليه من الحزب السياسي، وذلك بحكم الثقافة والموروث الرجعي المتخلف الذي يحتكم إليه في زمن لا جدوى فيه لمثل تلك الأفكار والتهويمات.

 السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: بعد أكثر من سبعة وعشرين عاما على قيام التعددية الحزبية في اليمن ما الذي أضافته لليمن على الصعيد السياسي والاجتماعي؟

أقول: لاشك تحقق لليمن الكثير مذاك وإلى اليوم وإن كان ما تحقق هو دون المأمول لاشك من جميع الأطراف، ولا أظن أن أي طرف من الأطراف راض تماما عما قدمه خلال هذه الفترة، فقد تجذر إلى حد ما مفهوم التداول السلمي للسلطة في أوساط الغالبية العظمى من أبناء الشعب اليمني الركيزة الأساسية الأهم في عملية التغيير السياسي في البناء والحكم بصرف النظر عما جرى خلال الفترة الأخيرة منذ اندلاع ثورة الشعب الشبابية السلمية، واندمجت القبيلة في العملية السياسية وقد كانت سابقا تستخدم كأداة للصراع بين أقطاب الحكم خاصة أيام الحكم الإمامي، وإن كانت في مسيرتها هذه مثقلة الحمل وئيدة الخطى، بحكم الموروث الاجتماعي المتخلف وبحكم بعض الأخطاء التي مارستها سلطة ما بعد عام 94م، سواء في الشمال أو في الجنوب، حيث عملت على مسخ القيم الأصيلة في منظومة الموروث الثقافي القبلي بدلا من استغلاله كرافد مدني وحضاري خاصة وفي الأعراف القبلية الأصيلة من الأعراف والقوانين التي تحتكم إليها ما يساعدها على التمدن ونبذ الجانب السلبي منها إلا أن ذلك ما لم يحدث للأسف؛ بل لقد عمدت السلطة إلى مسخها وتشويهها، كما هو الشأن في تشويه ومسخ بعض منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والنقابات..إلخ.

الآن وبعد كل ما حدث في العام 2014م يبرز سؤال آخر.. ما الجديد في عوالم الأحزاب السياسية؟ وإلى أين ستمضي؟ والجواب: أن معادلة 2014م قد قوضت أركان الدولة ككل لا الأحزاب السياسية فحسب؛ وبالتالي فقد تحول دور الأحزاب من السير باتجاه تجذير المفهوم الديموقراطي أكثر والتنافس الحزبي إلى العمل بروح الحزب الواحد لاستعادة الدولة أولا وآخرا، اليوم الجميع أمام مهمة استعادة الدولة المخطوفة.. المغدورة، وتأجيل البرامج الحزبية حتى تستقر الدولة وتتم استعادتها من أيدي الغاصبين. ولا عيب اليوم إن حملت الأحزاب السياسية السلاح واستبدلت معارك صناديق الاقتراع بمعارك الجبهات العسكرية، فهذا ما تقتضيه ثقافة اللحظة، لتعود المياه إلى مجاريها بصورة طبيعية، ومن ثم يشرع اليمانيون في بناء دولتهم المنشودة.