الجمعة 26-04-2024 19:17:01 م : 17 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

بناء الدولة الحديثة.. أسس، قيم، أهداف، وغايات .. الحلقة الثالثة والأخيرة: وظائف الدولة وأهدافها

الأحد 14 إبريل-نيسان 2019 الساعة 09 مساءً / الاصلاح نت - خاص/أ. عبد العزيز العسالي

 

عرفنا في الحلقتين السابقتين أن مفهوم الدولة الحديثة اختلف كليا عن مفهوم الدولة في الموروث، تكويناً وشرعيةً وأجهزةً، وكذلك اختلفت وظيفة وأهداف وغايات الدولة الحديثة تبعا لاختلاف مفهومها المعاصر. فما هي وظيفة الدولة؟ وما هي أهدافها؟ وما هي غاياتها؟ 

أولا، لا ندعي أن هناك فرقا متفق عليه، ولكن التفريق يستخدمه بعض الفلاسفة الذين كتبوا حول نظرية الدولة الحديثة.

ثانيا، سنشير بإيجاز إلى التفريق بين وظيفة الدولة، والهدف من قيام الدولة، والغايات، مؤكدين أن هذا التفريق الهدف منه تقريب وتبسيط الفكرة فقط.

1ــ وظيفة الدولة

المقصود بهذا المفهوم هو 
"التكييف القانوني لحال السلطة"، فقالوا إنها تؤدي وظيفة وكيل أو نائب عن الشعب الذي اختارها، فلا مكان لدعوى الحق الإلهي، أو التمييز والتسيُّد، أو التسلط، أو الفردية، أو وصاية على الأمة.

2ــ الهدف من إقامة الدولة، كأجهزة إدارية و.... إلخ، المقصود بهذا المفهوم أن وجود السلطة مرتبط بخدمة الأمة وجودا وعدما، كما سنوضح لاحقا.

3ــ الغاية من وجود الدولة:

المقصود بهذا المفهوم هو الثمار التي تتحقق كنتيجة وثمار للأهداف، مثلا، ردع المجرمين والمفسدين ومنع الجريمة (هدف) يجب على الدولة تنفيذه، لكن (الغاية) من هذا الهدف هي ترسيخ الأمن والاستقرار. أيضا السعي نحو تجفيف منابع الجريمة، من خلال دراسات علمية ومن ثم معالجة الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى ظهور الجريمة، فهذا هدف. 

وتحقيق الأمن والاستقرار غاية أولية، والوصول إلى التنميه والنهوض والرفاه الاقتصادي غاية إستراتيجية.

توضيح مفهوم وظيفة الدولة

ــ بما أن التشريع الإسلامي والقانون الوضعي قد اتفقت مضامينهما حول تكييف حالة الدولة بأنها وكيل عن الأمة، فإن هذا يعني:

1ــ أن الدولة لا يجوز لها أن تمارس أي تصرفات في القضايا الإستراتيجية إلا بعد الرجوع إلى الأمة واستفتائها بشفافيه ووضوح.

فمثلا، قررت السلطات البريطانية خروج بلادها من الاتحاد الأوروبي، لكنها لم تكتف بقرارها، وإنما أنزلت استفتاءً شعبيا وبكل شفافية، فكانت نتيجة الاستفتاء بنسبة 52% لصالح الانسحاب، فقررت السلطات الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

ــ لعل القارئ قد اتضح له المقصود بـ"وظيفة الدولة".

ثالثا: الهدف من وجود الدولة

ــ مبدئيا في القديم والحديث يتفق الفلاسفة والفقهاء ورجال القانون على أن وجود الدولة ضرورة دنيوية واجتماعية. 

ــ بما أن مفهوم الدولة في العصر الحديث قد اختلف عن مفهوم العصور القديمة، فإن هذا الاختلاف انعكس على أهداف الدولة، وبالتالي تعددت الصيغ النظرية حول الهدف من وجود الدولة.

ــ بدورنا سنترك الأهداف الفلسفية، وسنقدم الهدف الإجرائي العملي فنقول إن الهدف من وجود الدولة هو:

أ- خدمة المجتمع.
ب- تنظيم التعاون بين شرائح المجتمع.
ج- نشر العلم والأمن وترسيخ السلم، وردع الانحراف، وتوفير الخدمات الصحية... إلخ متطلبات المجتمع.

ــ يمكننا القول إن الهدف الأول الذي هو "خدمة المجتمع" يعتبر هدفا شاملا وبقية الصيغ هي شرح لهذا الهدف.

مآخذ على الدولة الحديثة

هذه المآخذ جاءت من ربط كافة خدمات المجتمع بالدولة.

 ــ يلاحظ أن المفهوم القديم للدولة كان أفضل بكثير، كون "الدولة الإسلامية" في القديم تتمثل في خمس وزارات لا غير وهي:
ــ وزارة الخزانة.
ــ قيادة الجيش.
ــ الأمن الداخلي (الشرطة).
ــ ناظر الخراج والزكاة.
ــ قاضي القضاة (وزارة العدل).

في حين كانت المؤسسات الأهلية هي القائم بدور بقية الوزارات المتعارف عليها اليوم.

وعليه، فإن الحرية المدنية كانت أكثر إيجابية، وكان المواطن يمتلك أغلب القرارات المتعلقة بخدمته، كما أن مؤسسة الوقف الإسلامي اضطلعت بأعظم المهام في خدمة المجتمع تعليما وخدمات صحية وغير ذلك.

بالمقابل، فإن الدولة الحديثة ارتبطت بها كافة خدمات المجتمع، فتعقدت الأمور وأصبح الحصول على أبسط الحقوق يتطلب جهودا مضنية سيما في السلطات العربية المتخلفة.

لكن هناك دول (اليابان نموذجا)، جمعت بين شكل أجهزة الدولة في القديم والشكل التنظيمي الحديث، ففي اليابان اليوم يتراوح عدد الوزارت ما بين 11 ـ 13 وزارة فقط، والبقية هيئات وهي قليلة أيضا، والمجال مفتوح للمجتمع المدني.

وهكذا يزداد عدد الوزارات قليلا عن اليابان في عدد غير قليل من الدول الحديثة، وهذا الجمع بين شكل الدولة قديما وحديثا يُعدُّ في نظر علماء الإدارة خطوةً متقدمةً في سرعة استجابة الدولة إزاء حاجة المجتمع.

رابعا: الغاية من جود الدولة

ــ سبق أن قدمنا مثالا للهدف وهو ردع المجرم، فهذا بحد ذاته هدف، لكن الغاية هي ترسيخ الأمن والسلم والاستقرار والتنمية والرفاه والنهوض الاقتصادي.

 المفهوم الحديث للدولة ارتبطت به غايات إستراتيجية كبرى، علما بأن هذا المفهوم لم يكن بمعزل عن الفكر الإسلامي المشرق، بل كان له حضور ذو بعد قداسي كما سنوضحه في السطور القادمة فنقول:

ــ غاية الدولة بالمفهوم الإسلامي الحديث هي تحقيق الأهداف الكبرى للأمة، والمتمثلة في تحقيق مقاصد الشريعة من زاوية مجموع الأمة.

مثلا، مقاصد الشريعة على مستوى الفرد حماية دينه، نفسه، عرضه، عقله، ماله، حريته. لكن هذه المقاصد تختلف من زاوية المجموع.
 
ــ هذه المقاصد الجماعية هي الأهداف الكبرى للأمة وهي:

1ــ حماية دين الأمة من زاوية المجموع يعني: حماية عقيدة وهوية الأمة من الذوبان وحماية ثقافتها وأصالتها وتراثها، فالتراث هو شخصية الأمة وذاكرتها سلبا وإيجابا، وضياع تاريخ الأمة يعني ضياع ذاكرتها، وهذا هو الجنون.

 2ــ فتح المجال للاستفادة من الغير بوعي بما لا يتصادم مع هوية الأمة ومعتقداتها وقوانينها، ذلك أن الانغلاق على الذات مصيره الذوبان والتلاشي، بخلاف الانفتاح الواعي فإنه يعطي الحيوية للأمة فكرا وممارسة مع الاحتفاظ بثوابت الأمة.

3ــ حماية دماء الأمة من الاقتتال والاحتراب الداخلي، أيا كانت أسبابه: مذهبية، طائفية، قبلية، حزبية، أو بين السلطة والشعب، وذلك بتجفيف منابع هذه الحروب.

ولن يتم تجفيف منابع الحروب إلا بترسيخ الشرعية السياسية وإقرار التعددية والقبول بالآخر... إلخ المنظومة المتداخلة في هذا الصدد.

4ــ كما يتمثل في حماية دماء الأمة من الحروب الخارجية التي تأتي تحت أي مبرر كإرساء الديمقراطية على متن الدبابة (أمريكا وأفغانستان والعراق نموذجا)، أو حروب الاحتلال كشعب فلسطين، أو حروب الجيران العرب أو المسلمين مع غيرهم أو الأقليات المسلمة.

هذا المقصد الشرعي يجب أن تقوم به الدولة بالمفهوم الإسلامي المعاصر ووضع حد لسفك دماء المسلمين خصوصا والإنسانية عموما.

5ــ حماية عرض الأمة يعني: حماية أجواء بلاد المسلمين وبرها وبحرها من أي تدخل أجنبي تحت أي مسمى، ذلك أن عِرض الأمة المتمثل في الجو والبر والبحر يعيش اليوم تحت وطأة قوى الاستكبار العالمي، ولا يشترط المواجهة الحربية وإنما على قاعدة الحوار والاحترام المتبادل وحق التعايش. 

6ــ حماية مال الأمة يعني: حماية ثرواتها البترولية والمعدنية ورفض ثقافة الاستهلاك القاتل لمنتجات الغرب الذي لا يفتأ ليل نهار ساعيا لنهب ثرواتنا بطريقة أو بأخرى، والدخول معه في شراكة، لا أقول ندية ولكن شراكة غير مجحفة.

ــ من مظاهر حماية مال الأمة: عدم الإنفاق على التسليح والذي أصبح يمثل الثقب الأسود الذي يلتهم ثروات الدول ذات الريع النفطي إلى الحد الذي تسمع فيه عن دولة أفريقية ذات ثروة نفطية هائلة بلغت ديونها في مطلع تسعينيات القرن الماضي 161 مليار دولار.

ومن مظاهر حماية مال الأمة عدم الاقتراض من صندوق النقد الدولي المتآمر على العالم أجمع والعالم الإسلامي خصوصا.

ــ حماية اقتصاد بلاد المسلمين وفصله عن التبعية للخارج.

7ــ حماية عقل الأمة يعني:

ــ الانفتاح على العلوم النافعة لدى الغير، وعدم الرضوخ لثقافاته وإملاءاته وإن ادعى خداعا أنها ثقافة كونية.
ــ حماية عقول الأجيال من خلال تشجيع البحث العلمي المنهجي في مجالات الحياة وتشجيع الإبداع العلمي، لأن حماية العقل العلمي المنهجي هي في النهاية حماية لمجموع عقل الأمة ونهضتها وازدهارها الحضاري.

ــ حماية عقل الأمة من المخدرات والمتلفات للعقل ومحاربة هذا الهدم العقلي المنظم بين السلطات الحاكمة للمسلمين وسياسة الاستكبار العالمي.

ــ حماية العقل من التبعية الثقافية والسعي نحو استقلال العقل المسلم بتفكيره، مع الانفتاح على الآخر انفتاحا واعيا.

ــ حماية عقل الأمة من الإيمان والاستسلام للخرافة والظنون والهوى والشعوذة وأنواع الدجل وتجفيف منابع هذه السموم العقلية التي أخرت أمتنا سنوات ضوئية.

8ــ حماية حرية الأمة تعني:

ــ حمايتها في الداخل بإعادة قرار الشرعية السياسية إليها فتختار من يمثلها بشفافية دون وصاية داخلية أو خارجية.

ـ حماية حرية الأمة من الإفساد القادم من الخارج تحت ذرائع مختلفة (حقوق الإنسان، حقوق المرأة، حقوق الطفل... إلخ)، فهذه تدخلات مشينة ليس لها من هدف سوى التبعية وصولا إلى الرصوخ لمراكز الاستكبار العالمي.

فلدينا الأفضل ولسنا بحاجة لأفكار وفلسفات، نعم نحتاج لبعض التنظيمات وهذه يستفيدها العالم من بعضه البعض دون ضير.

ــ إن حماية حرية الأمة في الداخل أولا أن يجعل لها هيبة ومكانة في عيون الغير، كما أن بناء هيبة الأمة هي غاية مقاصد الشريعة أولا، وهي غاية من الغايات اللازم تحقيقها من جانب الدولة والشعب ثانيا.

وليس أخيرا، لن تستطيع أمتنا بناء الدولة الحديثة إلا بترسيخ "الشورى" التي هي أم القيم السياسية، مرورا بالمنظومة الأخلاقية السياسية كاملة، مرورا بدفن الفردية الفرعونية المتغولة وإحلال الأمة محلها، وصولا إلى تعقيد اتخاذ القرار حتى لا يصبح قرار الأمة ألعوبة بيد لصوص مفروضين بالقوة.

كلمات دالّة

#الدولة #اليمن