الأحد 28-04-2024 20:00:08 م : 19 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

غايات القرآن.. إصلاح الإنسان وقيام العمران (الحلقة 4) التسخير.. مقاصده، علاقاته، ثماره

الإثنين 31 يناير-كانون الثاني 2022 الساعة 10 مساءً / الإصلاح نت-خاص | عبد العزيز العسالي

 

قبس من القرآن العظيم:
أولا، استدلال عام:
قال تعالى:
1- "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم" (النحل: 18).

2- "وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار" (إبراهيم: 35).

هذان النصان وردا في سياقين استعرضا عددا من النعم التي سخرها الله للإنسان، فالمقطع الأول في سورة النحل أخذ حيزا بلغ 15 آية، استعرضت 24 نوعا من النعم العظيمة، وكل نعمة ينضوي تحتها عدد من النعم.

وانظر معي إلى الآية 13 من السياق ذاته كم انضوى في إطارها من نعم، قال تعالى: "وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآيةً لقوم يذّكّرون".

الله أكبر.. فكم في الأرض من نباتات؟ وكم في كل نبات من فوائد؟ هذا التسخير كان في غاية التوازن والتسخير على مر الدهور متجدد عطاؤه.. "وقدّر فيها أقواتها".

تقدير يكفي البشرية وكل العوالم التي تعيش في الأرض بحرا وبرا، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

كم نعمة في تسخير البحر؟ وكم نعمة في تسخير النجم؟ علامات للمسافرين في ظلمات البر والبحر - الحساب الفلكي ومعرفة عدد السنين والحساب؟

- المقطع بدأ بخلق الإنسان: "خَلقَ الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين"، خصيم.. بدلا من أن يكون شاكرا متواضعا، ذلك أن استمرار النعم واضطرادها يجعلها شبه منسية لدى الإنسان.

- النص في سورة إبراهيم جاء بعد ذكر عدد من نعم التسخير أيضا.

- وللرسم الحرفي دلالات.. نعمة.. في سورة النحل.. رُسِمت تاء مربوطة..
نعمت.. في سورة إبراهيم.. رُسِمت تاء مفتوحة.. والشائع في الوسط اللغوي وعلم الإملاء يعلل أن بعض كْتّاب الوحي كان لديهم قصور في الإملاء، وهذا التعليل خطأ في خطأ، والسبب يعود إلى إهمال النظر في نهاية سياق رؤوس الآيات، ففي سورة النحل انتهى النص بقوله سبحانه: "إن الله لغفور رحيم"، وفي سورة إبراهيم انتهى النص بقوله سبحانه: "إن الإنسان لظلوم كفار".

إذن، رسم التاء مفتوحة في "نعمت" له بعد دلالي يفيد بغزارة وانفتاح واتساع لا محدود لنعم الله لأنها لا تحصى، ومع ذلك "فإن الإنسان لظلوم كفار"، واللام هنا هو لام الجحود يعطينا دلالة على شدة جحود وظلم وكفر الإنسان.

والنصوص كثيرة جدا حول "سنة التسخير" ودورها المقاصدي في خدمة الغايات الحضارية - إنسانا وعمرانا.. بصيغة أكثر وضوحا: إقامة الأمم العظيمة.

- دلالة أعلى وأعظم:
إنزال القرآن العظيم هو أعلى وأعظم وأجل النعم هداية وتيسيرا في الفهم والتسخير.

- قناعتي 100%:
وبناء على ما سبق وغيره من أدلة معارف الوحي وأدلة العقل نقرر جازمين وبلا تردد: أن العقل العربي والمسلم إلى اللحظة لم يكتشف1% من سنن التسخير التي أرشده إليها الوحي المقدس في ميدان الاجتماع السياسي ومقاصده، وكذا ميدان مقاصد التربية وعلم النفس، والتنمية، فضلا عن إعمال العقل في مجال التصنيع والزراعة... إلخ.

- مما يتفطر له القلب أسىً ومرارةً، أن يتردد كثيرا في الأوساط الأكاديمية والثقافية، ناهيك عن حديث الشارع، أن تسمع ثرثرة تقول إن دولة كذا (عربية أو إسلامية) تستخدم آخر صيحات التكنولوجيا من الإبرة إلى الصاروخ.

والجواب:
- أن يتردد هذا الهذيان الفج في الأوساط الأكاديمية والثقافية هو الكارثة بعينها.

- هنا نستحضر فلسفة شاعرنا المبصر الساخر عبد الله البردوني، رحمه الله، لقد قال بيتا ناقدا للوسط الأكاديمي والثقافي من جهة، والنظر السنني من جهة ثانية، قائلا:
وأبي يعلمنا الضلال
ويسأل اللهَ الهداية.

- أيضا، بيت آخر للبردوني، رحمه الله، فيه إجابة أكثر عمقا وسخرية لاذعا تلك العقول المأفونة، العقول التي طالما عوّلت عليها الشعوب أنها ستسعى دائبة نحو بناء العقول بناء علميا نظريا ناقدا منهجا وبرهانا وتطبيقا.

قال البردوني، رحمه الله:
عجوز تئن بعصر الجليد
وتلبس آخر ما يجتلب

فأنّى للعقل المستهلك أن يكتشف سنن التسخير ويمتلك ناصية العلم منهجا وتطبيقا؟

ثالثا، مقصد تفتيت الثروة:
القرآن أعطى مساحة واسعة للحديث حول مقصد تفتيت الثروة، وإن شئت أخي القارئ قل: عدالة التوزيع، أو قل: المساواة، أو التكافل، أو تحصين المجتمع، أو تجسيد السنن الضامنة حماية المجتمع من التحاسد والحقد الاجتماعي المؤدي إلى التقاطع والاضطراب، ثم إلى التناحر.

الأدلة الإجمالية:
1- "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم".
هذا النص تضمن المقصد الكلي للمال، وكل نصوص المال في القرآن ترجع إليه.

2- إرث الأبناء والأقارب:
الحقيقة أن موضوع توزيع المال بين ورثة وعصبة وأرحام وأقارب المتوفى يعتبر بمثابة العمود الفقري للقيام بالقسط وعدالة التوزيع والمساواة.

- الزكاة:
الزكاة حق واجب للمحرومين، ليست منة ولا منحة، قال تعالى: "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم".

هذا الحق يشمل ثمانية أصناف من مكونات المجتمع: فقراء، ومساكين، وأبناءالسبيل، والغارمين، وعتق الرقاب، والمؤلفة قلوبهم، والعاملين عليها، وفي سبيل الله.. وانتهى النص مقرا أن هؤلاء لهم حق في أموال الأغنياء "فريضة من الله" ليست تفضلا من أحد.

- مفهومان جديران بالنظر:
الأول، العاملون عليها.. هذا النص العظيم بمفهومه وظلاله يقول لنا: اكفلوا موظفي مؤسسات الدولة من ذوي الدخل المحدود.

الثاني، الزكاة والدولة:
ابتليت أمتنا بعقليات فقهية كانت ولا زالت في جل همها تحصين الطغيان لا غير، داعية إلى إدخال الزكاة في الدستور أولا، وتُسلّم للدولة ثانيا، وما لم فالدولة غير إسلامية.

المهم أن الزكاة ذهبت إلى جيوب الفاسدين العرابيد بنص الدستور الإسلامي القادم من عقليات تعاني فقرا مقاصديا كالحا، وكل جهدها تمزيق كليات الشرع ومقاصده.

فإذا جاء من يقول: أعيدوا النظر في هذا الفهم المريض المنافي لمقاصد القرآن الهادفة إلى حماية سنن الاجتماع، فيأتي من يشهر في وجهك سيفا صدئا اسمه الإجماع، والله يشهد أنه لا إجماع، وإنما هي فتوى اجتهادية انفرد بها ابن عمر فأجاز تسليمها للظلمة حتى لا يبطشوا بالضعفاء وهذه فتوى لها سياقها ولا تلزمنا.

الملزم هو قوله صلى الله عليه وسلم: "تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم". وعلى افتراض أنه إجماع، فالإجماع في قضايا الحياة يتغير بتغيير وجه المصلحة.

- الإنفاق:
المتدبر للقرآن يجد أن الزكاة وردت 18 مرة في القرآن، لكن الإنفاق ورد 144 مرة تقريبا.. ماذا يعني هذا؟ يعني أن في المال حقوقا غير الزكاة.. فما الذي حصل؟

وردت رواية تحصن طغيان المال كغيرها من روايات تحصين الطغيان السياسي، حيث نصت الرواية أنه ليس في المال حق سوى الزكاة.. يا إلهي نحن أمام تشريع مستأنَف دفن 144 آية محكمة.

- الوصية والوقف:
هذان المفهومان كان لهما الدور البالغ في قيام الحضارة الإسلامية، فجاءت ثقافة إنجلترا المجرمة لتلحق الوقف بالحكومات.

وهنا نتذكر الحكمة: فلو كان الغراب دليل قومٍ.. لجرّهمو إلى جيف الكلابِ.

وعليه فإنه من الواجب والضروري المبادرة إلى إلحاق موضعي الوقف والوصايا في المقرر المدرسي ومقرر الثقافة الإسلامية في الجامعة، كما يجب إعادة النظر في بقية مفردات مقرر الثقافة الإسلامية عموما.

- زكاة الثمار:
من البلايا القاصمة لمقاصد القرآن في جانب المال ابتداء من مقصد "القيام بالقسط" أنها تلك الفتاوى الهزيلة القائلة إن من حصد حبوبا من مزرعته ما يوازي زِنة 8 أكياس قمح وجبت عليه الزكاة، لكن من باع من مزرعته شاي أو مانجو أو برتقالا أو فراولة أو طماطم أو بطاطا أو علاف حيوان... إلخ، فلا زكاة عليه، نابذا للقرآن وراء ظهره وبكل وقاحة.

نعم، لقد نص القرآن صراحة بدلالة قاطعة بعد أن استعرض نعمة الله في ما أخرجته الأرض من النخيل والأعناب والرمان والزيتون، إلى قوله تعالى: "وآتوا حقه يوم حصاده".

إنها محنة التعضية للقرآن، "الذين جعلوا القرآن عضين"، أي جزؤوه وفتتوا وفرقوا نصوصه بما يخدم مذاهبهم لا غير.. بربكم، كيف ساغ لتلك الأمزجة المريضة أن تقرر زكاة النخيل والأعناب فقط واستثناء الزيتون والرمان وبقية ما تخرجه الأرض؟

رابعا، استخراج النظرية التربوية من القرآن:
- يجب ضرورة استخراح النظرية التربوية من القرآن، والتي محورها ومرتكزها القيمة الكونية القرآنية (القيام بالقسط).

- يجب ضرورة إرساء وتقرير النظرية الاقتصادية في القرآن وهي: تفتيت الثروة، أي عدم تركيزها في أيدٍ قليلة.

- يجب ضرورة تضمين النظريتين التربوية والاقتصادية في مقرر الثقافة الإسلامية للجامعات عموما والمعاهد المتوسطة ودور العلوم الشرعية، بشرط عدم إيكال إنزال المقرر من أستاذ الثقافة الإسلامية وإنما لجنة تشرف عليه سنويا تواكب آخر المستجدات.

خامسا، مقصد القيم الكونية.. صناعة الهوية وتنميتها:
نص القرآن العظيم على القيم الكونية مقررا أنها ملة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام.. "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم".

إنها قيم، إنها أسس تكوين الهوية وتجذيرها بعرى وثيقة ضاربة في الرسوخ والقدم، إنها "ملّة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل".

إنها أمهات القيم الكونية، وفي ذات الوقت هي مكونات الهوية، تتمثل تلك القيم في: الرحمة، وكرامة الإنسان، والحرية، والعدل، والمساواة، والقيام بالقسط، وتحقيق وترسيخ السلام، والوسطية، والإحسان الحضاري.. هذه القيم الكونية هي صانعة الهوية وللهوية ثمارها الجبارة في صناعة الأمم العظيمة.

ترسيخ هذه القيم كفيل بتحقيق الورثة الصالحة: "إن الأرض يرثها عبادي الصالحون".

سادسا، العلم ثم العلم ثم العلم:
من أعظم مقاصد القرآن السننية البانية للأمم العظيمة "مقصد العلم"، وقد يقول البعض هو مقصد حاجي جزئي، والجواب: إذا نظرنا في مآلاته وثماره سنجده مقصدا كليا، ذلك أن كل المقاصد لن تتحقق إلا بالعلم، والقرآن هو العلم وتضمن العلم ووجه العقل والفكر نحو العلم.

سابعا، مقصد إعمال العقل:
القرآن وجه العقل وحذره من اتباع الظن، فالظن لا يغني من الحق شيئا، وكم هي الأسئلة التقريرية في القرآن؟
"أفلا تعقلون".
"أفلا تتفكرون".
"أفلا ينظرون".
"إن في ذلك لآيات لأولي النهى".
"هل في ذلك قسم لذي حجر"؟
"فاعتبروا يا أولي الأبصار".
"واتقوني يا أولي الألباب".

ثامنا، التعارف:
قال تعالى: "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا".. هذا التعليل القادم من خالق النفوس البشرية مهيمن على ثلاثة مصطلحات وضعية هي التسامح والتعايش والقبول بالآخر.

من جهة ثانية أن الجذر اللغوي للتعارف قادم من "ع ر ف"، ومصدره العرف القرآني الفطري ويلتقي بالمعروف المجتمعي السليم، بخلاف مصطلح التسامح والتعايش والقبول بالآخر فكلها مشحونة بالثقافة النقيضة، فالتسامح صادر من النبيل والإقطاعي الذي يغض الطرف عن العامل في المزرعة إذا أكل تفاحة أو نام ولد العامل ساعة عن العمل أو زوجته، فيكون الإقطاعي الذي يستغل عرق العامل وأولاده وزوجته لسنين عديدة ثم حصل للعامل ما يعيقه خارج عن إرادته، فالنبيل هنا متسامح وقابل للعامل أن يعيش، ذلك أن الإقطاعي من حقه أن يقتل أو يحرق أو يسجن العامل، بل يصل الأمر بالإقطاعي أن يقتل ولد العامل تسلية.

ومن التسامح ولد مصطلح التعايش والقبول بالغير، معتبرين هذا فضل عظيم جاد به الإقطاعي النبيل، فأين هذا من مصطلح التعارف القادم من الفطرة والمعروف والعرف المجتمعي السليم؟

كلمات دالّة

#اليمن