الأحد 28-04-2024 13:59:27 م : 19 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

فقه المقاصد العامة للشريعة الإسلامية.. خلاصات منهجية ونماذج تطبيقية (الحلقة الرابعة: دور المنهج المقاصدي في تكوين العقلية الفقهية)

الثلاثاء 12 مايو 2020 الساعة 02 صباحاً / الإصلاح نت - خاص / عبد العزيز العسالي

 

ءأولا: هذه الحلقة سنتحدث فيها عن الأفق الثاني من آفاق المنهج المقاصدي، هذا الأفق يتميز بخصائص لها أهميتها الكبرى.

الخصيصة الأولى: غرس الثقة بل وترسيخها في العقلية الفقهية بأنها: 

أ- تسير في عمق المنهج الإسلامي. 

ب- أن هذا المنهج يمثّل غاية الأهمية في تكوين فقيه المستقبل والمعوّل عليه القيام بدور ريادي في صناعة النهوض الحضاري لأمة العرب والمسلمين. 
 
ج- أن الحضارة الإسلامية التي ظلت تعطي العالم طيلة عشرة قرون -بشهادة خصومها- بأنها حضارة قد انطلقت من المنهج المقاصدي الإسلامي، حيث كان الفقيه المسلم يصنع الأفكار الحضارية للمجتمع، والدليل الأبرز على دور الفقيه حضاريا هو ما سنستعرضه لاحقا.

د- بناء الشخصية الفقهية وتعزيزها فكريا وثقافيا ووجدانيا من خلال المدخلات الفكرية التي رسمها فقهاء الإسلام عبر التاريخ الإسلامي.
 
الخلاصة هي أن الحلقة الثالثة وهذه الحلقة تمثلان العمود الفقري للمنهج المقاصدي، نظرا لما تضمنتاه من مدخلات متينة من صميم موروثنا الإسلامي، وأنهما ستصنعان في تكوين أسس ومعالم الخارطة العقلية الفقهية الواثقة بعقيدتها وشريعتها دون أن يساورها شكوك أو وساوس بأنها تعيش استجابة أو انبطاحا للغزو الثقافي، وبالتالي ستنطلق في صناعة واقعها وصولا إلى استشراف المستقبل حضاريا. 

ثانيا: أهمية المنهج المقاصدي عند فقهاء الإسلام

كثيرا ما تأتي الإشكالية ليس من ذات المشكلة، وإنما من جانب العقلية التي تنظر إلى المشكلة، ذلك أن العقول البسيطة تناقش الأشخاص، والعقول المتوسطة تناقش الأشياء، والعقول الكبيرة تناقش المبادئ، الأمر الذي يعني أننا بحاجة ماسة وضرورية إلى نقلة منهجية يتم من خلالها تكوين وبناء جهاز مفاهيمي مقاصدي راسخ في العقل الفقهي، انطلاقا من القاعدة القرآنية "حتى يغيروا ما بأنفسهم"، وذلك من خلال المدخلات المنهجية التالية: 

1- الفقيه مطالب وجوبا أن يكون لديه أصول كلّيّة يرد إليها الجزئيات فيتكلم عنها بعدل وعلم، وما لم فإنه سيكون قد وقع في الكذب، نظرا لتعلقه بالجزئيات، ووقع في الجهل العظيم لأنه ترك المقاصد والكليات، فيتولد على الأمة فساد عظيم، ذلك أن ما كانت منفعته أكبر لا ينهي عنه الشارع بحال. (ابن تيمية، المجموع، 9، 203. الاقتضاء 362).

2- ذلك أن كل ما لا يتم المعاش إلا به فهو حرج، والحرج منتف شرعا. (ابن تيمية، القواعد النورانية، 165).

3- المقاصد هي الشرط المحوري لبلوغ الاجتهاد، وبقية الشروط تبع لها. (الشاطبي، الموافقات، ج 3، 116).

4- لو أن العلماء أجمعوا وخالفهم فقيها واحدا صاحب نظر مقاصدي فخلافه معتبر ولا ينعقد الإجماع، بخلاف فقهاء الفروع وإن كثر عددهم، وإن كثر استحضارهم للجزئيات والفروع، فلا عبرة بخلافهم. (القرافي، تنقيح الفصول، مقدمة كتاب الذخيرة، ج 1، 147، ج 3، 76).

5- فقهاء المقاصد يستحضرون المقاصد الكلية ماثلة أمام أعينهم شاخصة تقول لهم: الشريعة مبناها وأساسها مرتكز على الحِكم والمصالح في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصلحة كلها، وحكمة كلها، ويسر كلها، وكل تصرف خرج بها عن العدل إلى الجور، وعن الحكمة إلى العبث، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة فليس من الشريعة وإن أدخل فيها بالتأويل. (ابن القيم، الأعلام، 3، 130).

6- يلزم على الفقيه ترجيح ما تسنده المصلحة وقواعد المقاصد العامة، وهذا من أوسع قواعد الترجيح على الإطلاق. (عبد الله البوسني، نظرية الأصل والظاهر، 163).

7- تقديم ما تشهد به العوائد والأعراف، فمهما تجدد العرف فاحكم به. (القرافي، الفروق، 3، 33).

8- ليعلم الفقيه أن الكليات المقاصدية عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدره ويشرُف وتقوى حجته. (السابق).

9- التخصيص بالعرف والواقع المتجدد أمر لازم للفقيه والحاكم. (د. فتحي الدريني، المناهج الأصولية، 637، 638).

10- مواكبة حركة الحياة شرط ومنهج، وأصل من أصول الفقه المقاصدي. (الراشد، الاجتهاد، 2، 4).

11- على الفقيه أن يعيش واقعه ويحيط به علما بكل وسائل عيشه ورقيِّهِ وسلوكه الحضاري ليوائم/ليوازن بين القواعد العامة والواقع، كي يمسك على المجتمع كيانه، لأن الشريعة ليست مجرد قواعد نظرية تعمل في فراغ. (السابق).
 
12- الإحاطة بالقواعد: بها يعظم قدر الفقيه، ويظهر رونق الفقه ويُعرف، وتنضج مناهج الفتاوى وتُكشف، فيها تنافس العلماء، وتفاضل الفضلاء، وبرز القارح على الجذع، أي الجمل الفتي أفضل من الصغير، وحاز قصب السبق فيها من برع، ومن ظل يقيس بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت وضاعت نفسه، لأنه أهمل الكليات، وأصاخ إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تقض نفسُه من طلبٍ مناها، وإن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ الجزئيات لاندراجها تحت الكليات واتحد عنده ما تناقض عند غيره بل وتناسب، وأجاب الشاسع البعيد وتقارب، وحصل طلبه في قريب الأزمان، وانشرح صدره لما أشرق فيه من البيان، فبين المقامين شأوٌ بعيد، وبين المنزلتين تفاوت شديد. (القرافي، الفروق، ج1، ص، 2، 3).

13- الفقيه يجب أن يجمع بين بيانين، إجمال تتشوّف إليه النفس، وتفصيل تتضح فيه الأمثلة. (الزركشي، المنثور في القواعد، 1، 65، 66).

14- الرجوع إلى القواعد رجوع إلى أساس الفقه ومقامه الأعلى، والقواعد هي ركائز الاجتهاد وأسسه، والاشتغال بها ضرورة فقهية، وقال إمام الحرمين: حُقّ على طالب التحقيق، ومن يتشوّف إلى المقام الأعلى في التصور والتصديق أن يُحكِم قواعد الأحكام ليرجع إليها عند الغموص، وينهض بالاجتهاد أتم نهوض، أمّا الاستخراج وبذل المجهود والاقتصار على حفظ الفروع من غير معرفة أصولها، والجزئيات بدون فهم مآخذها، فلا يرضاه لنفسه ذو نفس أبيّة، ولاحاملُه من أهل الفقه بالكليّة، والوجه لكل متصدر (للأقلال) أي حمل الشريعة، فليجعل الإحاطة بالمقاصد سوقه الألذ فالرأي لذي الذهن الصحيح هو الاقتصار على حفظ القواعد وفهم المآخذ. (السيوطي، الأشباه والنظائر، 1، 92).

15- هذا الفن (المنهج المقاصدي) لا يدرك بالتمني ولا يُنال بسوف ولعلّ ولو أنّي، إلاّ من كشف عن ساعد الجِدّ وشمّر، واعتزل أهله وشدّ المئزر، وخالط البحار وخاض العجاج، ولازم الترداد في الأبواب في الليل الداجي، يدأب مطالعة وتكرار بكرة وأصيلا، ينصب نفسه لاقتحام المشاق. (السابق، 2، 3).

16- القواعد - المنهج المقاصدي أشبه بمواد الدستور مهيمنة لا تخضع للقانون الحزيي، وإنما القانون يخضع للدستور، وفقيه المقاصد أشبه بشخص على قمة جبل بيده نظارة/ناظور مكبر ينظر من خلاله إلى الناس القادمين والخارحين من وإلى المدينة، ويدرك كل واحد من أين انطلق وأين انتهى. (مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي، 1، 74. القواعد الفقهيه، 34).

17- مراعاة المآلات والظروف والمتغيرات، والموازنة بين المصالح والمفاسد والإحاطة بها ضرورة للمجتهد. (ابن القيم، الطرق الحكمية 2، 5).

18- قد يأتي على الفقيه ما يجعله يترك النص الصحيح لاعتبار آخر. (ابن تيمية، نقلا عن طريق الوصول، الشيخ السعدي، 96).

قلت والاعتبار هنا هو المنهج المقاصدي، لأن تنزيل النص الجزئي في واقع تغير فيه وجه المصلحة، سيكون التطبيق مصادم لمقاصد الشرع أي مصالح الناس.