الأحد 28-04-2024 22:20:33 م : 19 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

قيمنا الحضارية.. من فاعلية التوحيد إلى غيبوبة التدين (الحلقة الأولى: فاعلية العطاء الحضاري في القرون الأولى)

الإثنين 06 مايو 2019 الساعة 01 صباحاً / الإصلاح نت - أ. عبد العزيز العسالي

 

 

مدخل: صعوبة البدايات

أولا، تكمن صعوبة البدايات لاعتبارات، منها: أن يكون الموضوع جديدا، أو يكون الجديد هو توظيف المعلومة، وقد تكون الصعوبة في طول الموضوع أو تشعبه، وقد تختلف أسباب الصعوبات، ذلك أن لكل موضوع أسبابه الموضوعية وتعقيداته المنهجية.

وعليه، يمكننا القول إن صعوبة البداية في موضوع القيم الحضارية الإسلامية تعود إلى كل ما سبق، الأمر الذي يستدعي التفصيل، لكني على الرغم من معاناة الذهن المكدود والأفق المسدود، عكفت طويلا، وهدفي هو الاختصار الشديد، آملا من القارئ تقدير الموقف، وحسبه أني فتحت نافذة صغيرة على هذا الموضوع الحيوي عقديا وتشريعيا وتدينا وتربويا وثقافيا وحضاريا بشقيه السلوك العملي والمادي.

ثانيا، لست معنيا في هذا الصدد بإيراد تفاصيل وشواهد أثبت من خلالها عطاء الحضارة الإسلامية، ذلك أن عطاء الحضارة الإسلامية إنسانيا شهد به خصوم الإسلام، بل وشهد به عدد غير قليل من علمانيي الوطن العربي والإسلامي المنبهرين ببريق الحضارة الغربية.

باختصار، عدد كبير من المستشرقين والمنبهرين العرب والمسلمين

اتفقوا على أن الحضارة الإسلامية ظلت تعطي في الجانب النظري فلسفة القيم الحضارية طيلة 500 عام، وأن الحضارة الإسلامية ظلت تعطي في الجانب العملي طيلة ألف عام، وأن عطاء الحضارة الإسلامية كان متقدما في كل المجالات الإنسانية قياسا بالأوضاع التي كانت تعيشها أوروبا وغيرها خلال فترة القرون الوسطى، وأن الحضارة الإسلامية حضارة متوازنة متصالحة إنسانيا قياسا بالحضارة المادية المعاصرة.

وعليه، فإن الاعترافات المذكورة أعلاه وضعتنا أمام مقدمة منطقية مفادها أن عطاء الحضارة الإسلامية ظل طيلة 1000 عام، فلا شك ولاريب أن هنالك عاملا غير عادي ظل يغذي القيم الحضارية الإسلامية فظلت تعطي دون توقف.

كما أن هذه المقدمة المنطقية توصلنا من خلالها إلى ثلاثة أسئلة: الأول، ما هو العامل الذي غذى فاعلية عطاء الحضارة الإسلامية طيلة ألف عام دون توقف؟ والثاني، ما هو الخلل الذي أدى إلى توقف فاعلية قيم الحضارة الإسلامية؟ والثالث، هل بإمكان العقل المسلم أن يستأنف وبفاعلية مسيرة عطاء القيم الحضارية الإسلامية؟

في هذه الحلقة سنقدم إجابة على السؤال الأول، وسنؤجل الإجابة على السؤالين الثاني والثالث إلى الحلقات القادمة.

سنحاول الإجابة على السؤال الأول في ثلاثة محاور، هي: عوامل فاعلية العطاء الحضاري في القرون الأولى، والتطبيقات العملية، والنتائج.

المحور الأول، ما هو العامل الذي أدى إلى استمرار عطاء الحضارة الإسلامية بفاعلية؟

الجواب: العامل الذي أعطى الحضارة الإسلامية زخمها وتألقها وعطاءها المضطرد، بل كان هو روحها ومصدر حيويتها وفاعليتها هو "الإيمان". وبصيغة أخرى، العامل هو عقيدة الإيمان المتمثلة في أركان الإيمان الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة سندا ومعنى.

من المعلوم أن عقيدة الإيمان وردت في القرآن تحت مفهوم آخر هو "التوحيد". قال تعالى: {و ما أرسلنا قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (الأنبياء: 25). والآيات حول التوحيد كثيرة.

 

مركزية التوحيد

من خلال ما سبق نود القول إن العامل الذي زود الحضارة الإسلامية بفاعلية وحيوية لا تعرف الفتور هو "الإيمان".

غير أننا سنتعامل في السطور القادمة مع مفهوم التوحيد أو مركزية التوحيد، لأن دلالة مفهوم التوحيد لها أبعاد حضارية ذات صلة بأفق الثقافة المعاصرة: قيم ذهنية وسلوكية، فردية وجماعية، كما أن تطبيق مفهوم التوحيد سيستفيد منه غير المسلم أيا كان، كما سنوضح لاحقا.

مركزية التوحيد تحمل دلالات عدة ذات أبعاد مختلفة، أهم هذه الأبعاد وأبرزها "تحرير الروح"، فإذا تأملنا مفهوم التوحيد بوعي سنجد أننا أمام قضية القضايا المعاصرة وهي الحرية بمفهومها الواسع، وجدانا وتفكيرا وثقافة وتمدنا واجتماعا، ذلك أن توحيد الله مرتكز على مبدأ الفطرة، وهي الغريزة المركوزة في وجدان الإنسان وقواه العقلية.

نجد هذا المبدأ الإنساني متمثلا في نظرية الإكراه التي قررها رب العزة في قاعدة كلية خبرية مهيمنة لا تقبل النسخ ولا التخصيص ولا التقييد. قال تعالى: {لا إكراه في الدين}.

إذن، فالله يقرر في هذه القاعدة الكلية مخاطبا الإنسان: أنت مكرم. وأبرز دلالة على كرامتك أيها الإنسان العاقل المختار أن من حقك أن ترسم الطريق الذي يوصلك إلى الله باختيارك دونما إكراه. 

وعليه، إذا كان مفهوم الإيمان سيستفيد منه المسلم في الجانب العقدي الذهني، فإن مفهوم التوحيد سيستفيد منه المسلم دلالات أخرى ذات صلة بروحه وعقله وتفكيره وسلوكه في الخلاص الفردي والمجتمعي. 

كما سيستفيد منه غير المسلم على المستوى العقلي والجسدي تحررا على المستوى الفردي والمجتمعي أيضا، كما سنوضح تحت محور النتائج.

باختصار، مركزية التوحيد لها انعكاسات تطبيقية مشرقة أبرزها وأهمها "الحرية"، وإذا سلمنا بهذا فإن بقية القيم الحضارية في كل الجوانب والمستويات تتصل بها قضية الحرية اتصالا منطقيا بمركزية التوحيد، تشمل حرية الروح والجسد والعقل والتفكير والتعبير والتملك والاستقلالية التامة.

 

مميزات مفهوم التوحيد

عقيدة التوحيد في الشريعة الخاتمة لها مميزات عدة:

1ــ العقلانية: قلنا إن اللازم الأول من لوازم التوحيد هو الحرية، أي تحرير الروح والجسد، هذه الحرية صادرة عن اختيار عاقل لا إكراه فيها. إذن، أول مميزات عقيدة التوحيد في الشريعة الخاتمة الخالدة هو تحرير العقل وتكريمه واعتماد خياراته، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نجد أن الشريعة الخاتمة اعتمدت العقل مصدرا من مصادر الاستدلال الموصل إلى معرفة الخالق العظيم، والقرآن مليء بآيات الفكر والتفكير حيث بلغت قرابة 360 آية.

2ــ تكريم الإنسان: من لوازم العقلانية تكريم الإنسان تكريما مطلقا بلا أدنى قيد. 

3ــ سننية: أعني هنا أن الشريعة الخاتمة لفتت العقل البشري إلى السنن مطالبة إياه بالتأمل والاعتبار، وقد فتح القرآن العظيم المجال للعقل ليتأمل دور سنن الله في الكون والنفس والاجتماع يتعامل معها كشروط لازمة بل لأنها قضاء الله وأمره، وأنها لا تحابي أحدا من البشر إلا من تعامل معها بإيجابية بغض النظر عن التزامه بالإسلام من عدمه.

4ــ شريعة إنسانية: تعني أنها جاءت لمصلحة الإنسان دنيا وأخرى.

 

الثمرة الأولى: التصالح بين الثنائيات

عرفنا أن عقيدة التوحيد نفخت روح الحرية والتحرر وترتب عليها كرامة الإنسان وإنسانيته، وإن هذا التحرير والتكريم يثمر مصالح عدة أهمها غرس الطمأنينة في عقل الإنسان وضميره ووجدانه.

فإذا استقرت الطمأنينة في ضمير الإنسان ووجدانه، أثمرت توازنا واتساقا بين وجدان الإنسان وسلوكه العملي من جهة، وبين كثير من قضايا الحياة من جهة ثانية.

هذا التوازن والاتساق أطلق عليه المفكرون مصطلح "حضارة التصالح"، أي تصالح بين عدد من الثنائيات التي لم تستطع الحضارة المعاصرة أن تزرعها في وجدان الإنسان، بل اتجهت إلى العكس، أي تفكيك الإنسان وتدميره وتمزيقه.

 

الثنائيات المتصالحة: استعراض سريع

بما أن الشريعة الخاتمة من لدن حكيم خبير بما خلق، فإننا نجدها قد حققت التصالح بين الوحي والوجود، الإيمان والعقل، الظاهر والباطن، الحضور والغياب، المادة والروح، القدر والاختيار، الضرورة والجمال، الطبيعة وما وراءها، المنفعة والقيمة، الفردية والجماعية، العدل والحرية، اليقين والتجربة، الوحدة والتنوع، الإشباع والتزهد، المتعة والانضباط، الدنيا والآخرة، الأرض والسماء، الفناء والخلود.

هذا التصالح بين الثنائيات تحدث عنه القرآن لفظا ومقاصدا تفصيلا، وأوجزته آيةٌ واحدة، {هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها...}.

ظل القرآن الكريم خلال العهد المكي، طيلة 13 عاما، وفي 90 سورة، يرسخ هذا التصالح، حتى تشبعت نفوس الرعيل الأول من المسلمين، وأصبح السلوك القيمي الحضاري طبيعة وسجية لدى المسلمين.

 

المحور الثاني: التطبيق العملي

وجاء العهد المدني فكان التطبيق العملي الذي جسده الرسول صلى الله عليه وسلم، أي نقلها من المبادئ الذهنية إلى واقع ثقافي عملي، فنال المجتمع المدني حريته التامة بمختلف مشاربه، مسلمون مهاجرون وأنصار أوس وخزرج، مشركون أوس وخزرج، منافقون أوس وخزرج، يهود بمختلف بطونهم، كل هولاء يعيشون في مساحة عقارية (جغرافية) واحدة.

 

أركان الدولة

هنا اجتمعت أركان الدولة أرضا ومجتمعا ودستورا وحرية ومساواة وتعايشا، تسودها مواطنة متساوية ويحرسها تشريع سماوي عادل، بتخطيط عقلاني وفق سنن الله، رسمته عقول بشرية، أوكل الله ورسوله إلى ذوي المصالح صياغة البنود بأن يرسموا أقدار حياتهم المجتمعية بأيديهم.

 

شبكة شروط قيام الحضارة

تبلور ذلك التطبيق العملي النبوي العقلاني السنني لأول مرة في الجزيرة العربية، حيث وعى الإنسان العربي ذاته أولا، ثم تفاعل مع سنن الله في النفس والاجتماع ثانيا، وهنا تبلورت شبكة الشروط التي ستبنى عليها الحضارة الإسلامية طيلة قرون، هذه الشروط هي:

1ــ التوحيد في مواجهة الشرك.

2ــ الوحدة في مواجهة التجزؤ.

3ــ الدولة في مواجهة القبيلة.

4ــ الأمة في مواجهة العشيرة.

5ــ التشريع السماوي في مواجهة العرف الأعوج.

6ــ المؤسسية في مواجهة التقاليد. 

7ــ الإصلاح والإعمار في مواجهة التخريب والإفساد.

8ــ المنهجية والعلم والتعامل مع السنن في مواجهة الظن والفوضى والهوى والخرافة.

 9ــ المعرفة في مواجهة الجهل والأمية.

10ــ المسلم المنضبط بمنظومة القيم المتجذرة في عمق العقيدة في مواجهة الجاهلي المتمرس على الفوضى والتسيب وتجاوز الضوابط وكراهية النظام.

 

المحور الثالث: النتائج

1ــ التحرر المجتمعي.

2ــ سرعة انتشار الدين الخاتم.

سيقال أي تحرر مجتمعي، وأي انتشار للدين، والمعارك والحروب ضد الرسالة؟

الجواب: كانت مفاهيم التوحيد قد غزت النفوس والأفئدة على المستوى العام، لكن بطبيعة الاجتماع هناك مصالح، وهناك مخاوف، وهناك العقل الجمعي القبلي المرتبطة مصلحته بالنظام الأبوي، وهناك الأمية الثقافية والحرفية.

تأمل معي هذا النص: {لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم...}، جهل ثقافي مطبق، وهنا سنفهم مغزى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الإيمان يمان..." إلخ، لأن اليمن كان يوجد فيها ديانتان، اليهودية والمسيحية، فشلكتا لدى اليمنيين وعيا نوعيا فجاؤوا مسلمين دون قتال.

باختصار، توفي الرسول صلى الله عليه وسلم والجزيرة كلها مكتملة إما دينا أو دينونة للنظام الإنساني العادل، ما عدا بني حنيفة، وهي اليوم منطقة الرياض، فكان أقلهم مسلمون، لكن مسيلمة كان متربصا بهم.

 

3ــ العهد الراشدي

انطلق المسلمون فاتحين وهم يحملون تلك المفاهيم التي تشبعوا بها من خلال عقيدة التوحيد وتلك الشروط الحضارية كانت حاضرة.

يلاحظ للمتأمل بمنهجية أن التاريخ لم يسجل استرقاقا وعبودية كما حصل في أواخر عصر الأمويين ولا فوضى الرقيق والجواري في العصر العباسي. 

وأبرز شاهد، احتفظ لنا التاريخ بمواقف للفاروق، رضي الله عنه، جسد فيها إنسانية الإنسان وحريته وكرامته بغض النظر عن اعتناقه للإسلام من عدمه**.

فقد حرر الأنباط، وهم قبائل كان لهم حضارة فانقرضت واستعبدهم الفرس وكلفوهم بشفط المستنقعات وتحويلها إلى مزارع مقابل شبع البطن فقط، فجاء الفاروق وحررهم وترك أرض العراق الزراعية بأيديهم مقابل خراج سنوي عادل، وكذلك قبائل الخزر والأرمن (أذربيجان حاليا)، وكذلك أغلب بلاد الأفغان وقبلها المدائن.

هكذا كان التوحيد هو المغذي والروح الفعالة وراء الفاعلية الحضارية الإسلامية، فانطلقت الأمة كلها، مسلم ومسيحي، يهودي ومجوسي، بوذي ووثني، رجل وامرأة، مشاركين في صناعة الحضارة الإسلامية.

 

الخلاصة

عقيدة الإيمان أو مركزية التوحيد هي الينبوع الذي أعطى الحضارة الإسلامية زخمها، فاستمر عطاؤها الفلسفي الأخلاقي 500 عام، وظل عطاؤها المادي إنسانيا قرابة 1000 عام. 

كيف وصل العقل المسلم إلى غيبوبة حضارية؟ هذا موضوع الحلقة الثانية بعونه سبحانه.

ـــــــــــــــــــــــ

** تاريخ العهد الراشدي إذا قرأناه في ضوء منهج التلازم الواقعي سنجد أن الرق كان يشترى ولا استرقاق في الحرب أبدا بعدما أدب الله رسوله بشأن أسرى بدر.

وهناك أصابع خفية تعمدت دفن العهد الراشدي وإحلال الثقافة الفارسية محله، فتم ترويض الثقافة الإسلامية وصبغها بصبغة فارسية في كل اتجاهات الحياة، ومنها انفجار موضوع الرق، ليس في الحرب فقط وإنما تسابقت الأسر على تربية الجنسين من أبنائها (خصيان في غرف الأميرات ووصيفات في مجالس الأمراء وزوجاتهم).