الأحد 28-04-2024 20:26:08 م : 19 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

قيمنا الحضارية.. من فاعلية التوحيد إلى غيبوبة التدين الحضاري .. الحلقة الرابعة: أمهات القيم الحضارية

الإثنين 20 مايو 2019 الساعة 10 مساءً / الاصلاح نت-خاص/عبد العزيز العسالي

 

عرفنا في الحلقات السابقة أن قيم التدين الحضاري الجماعي هي لوازم عقيدة التوحيد وتتمثل في أبعاد إنسانية فكرية وثقافية وتربوية، وكل ما يخدم مصلحة الإنسان ماديا ومعنويا.

وأشرنا سريعا في الحلقة الأولى إلى أن أبعاد عقيدة التوحيد يستفيد منها المسلم في دنياه وأخراه ويستفيد منها غير المسلم في دنياه، وهذا الكلام ليس من بنات أفكارنا، وإنما هو موجود في القرآن والسنة وحاضر في موروثنا الفكري بصور مختلفة، لكن أفضل من بلور هذه القيم هو الفقيه المجتهد العز بن عبد السلام، رحمه الله، والذي قرر هذا المعنى وجعله عنوانا لكتاب سماه "قواعد الأحكام مصالح الأنام".

ومن خلال النظر في مقاصد عقيدة التوحيد ولوازمها وأبعادها الحضارية، وانطلاقا من مقاصد وكليات الشرع الإسلامي، واستلهاما لكلام الفقيه العز بن عبد السلام وغيره من فقهاء المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، وانطلاقا من أفق ثقافة العصر، فإننا في هذه الحلقة سنعمل على استعراض "أمهات قيم التدين الحضاري الجماعي"، متجنبين الإطالة متوخين الإيجاز في إيراد الأدلة الشرعية حول كل قيمة، يجاز إلى حد الإخلال، وأعلم أن القارئ سيعذرنا.

تعاونا مع القارئ حصرنا أمهات القيم في عدد محدد، علما بأن كل قيمة سينضوي تحتها عدد من القيم الحضارية.

وسيكون المنطلق هو "مركزية التوحيد"، ذلك أن القيم الحضارية الجماعية هي لوازم ذهنية وأبعاد إنسانية وحضارية لعقيدة التوحيد.


أمهات القيم الحضارية:

1ــ تحرير الأرواح: هذه القيمة الحضارية الإنسانية الجماعية هي اللازم المنطقي الأول لكلمة التوحيد، ذلك أن الإقرار بوحدانية الله عز وجل يعني التحرر من كل سلطة سوى سلطان الله.

هذا التحرر يبدأ من تحرير الروح إرادة واختيارا من قبل الإنسان العاقل المدرك، كي يرسم طريقه في حياته الدنيوية والأخروية بحرية تامة، هذا من جهة، ثم يأتي تحرير الجسد ثانيا، والأدلة كثيرة في القرآن منها:
ــ "لست عليهم بمسيطر".
ــ "وما أنت عليهم بجبار".
ــ "لا إكراه في الدين...".
ــ "أنلزمكموها وأنتم لها كارهون".
ــ "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه...".

ينضوي تحت هذه القيمة عدد من القيم الحضارية أهمها الحرية وهي قبل الشريعة، كونها الذراع الحامل لكافة الحقوق، وهي معراج كل الحضارات والنهوض الاجتماعي... إلخ. كما أن الحرية تعني تحرير العقول من الخرافة والظنون والهوى والشعوذة، وترسيخ كرامة الإنسان، وحرية المجتمع عموما (مسلمون وغير مسلمين)، وحرية التفكير، وحرية التعبير، وحرية تحديد طريقة العيش، وحرية الانتماء ورفض الظلم، والأخذ على يد الظالم، والتمثيل السياسي.

ـ البرلمان.. هدم الوثنية السياسية، مدافعة الفساد والإفساد، المبادئ فوق الأشخاص، احترام هوية وثقافة ومعتقد المجتمع، بل وحمايته، الشجاعة، وكل وسيلة ثبت نجاحها في حماية أو فاعلية هذه القيمة تعتبر واجبة شرعا وعقلا.

2ــ المساواة: قيمة المساواة هي الوجه الآخر للحرية، فالحرية والمساواة وجهان لعملة واحدة، وهما أصل لكل القيم الحضارية.

الدليل الشرعي لهذه القيمة الحضارية في قوله تعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون".

القرآن يحذر من سلوكيات بني إسرائيل الذين اتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله، ومفهوم الدليلين هو أن الكبرياء والعظمة لله وأن المساواة تشمل كل ما هو تحت عرش الله عقيدة وسلوكا.

ينضوي تحت هذه القيمة المحورية:
- إذابة الطبقية والتراتبية الاجتماعية.
ــ المواطنة المتساوية.
ــ التزام النظام والقانون.
ــ حب الوطن والدفاع عنه (وثيقة المدينة نموذج حي للسلوك العملي النبوي المجسد لمقاصد تصرفات الرسول انطلاقا من مركزية التوحيد).

3ــ الشورى: هذه القيمة المحورية هي إحدى سبل نجاة المجتمع، ذلك أن الله منح الأمة هذا الحق كونها صاحبة المصلحة أولا وأخيرا.

الدليل الشرعي لهذه القيمة المحورية:
ــ "وأمرهم شورى بينهم".
ــ "وشاورهم في الأمر".
ــ الرسول صلى الله عليه وسلم شاور في كل حياته، شاور المجموع في قضايا، وشاور أهل الاختصاص في قضايا، وهذا الأخير له شواهد عدة أبرزها مشاورة السعدين بشأن ثلث تمر المدينة يوم الأحزاب، فرفض السعدان كونهما شيخا الأوس والخزرج والقصة مشهورة، ونزل عند رأي أم سلمة يوم الحديبية.

النصان الشرعيان حول الشورى تضمنا الدلالات التالية:

أ- أن الشورى نزلت في العهد المكي قبل التشريعات التعبدية والمعاملات والأسرة وغيرها.

ب- تشبّع المسلمون بهذه الثقافة مبكرين، كبعد من أبعاد مركزية التوحيد، وتم تطبيقها في العهدين المكي والمدني.

ج- مفهوم هذا التشريع المكي المبكر للشورى يعطينا استدلالا منطقيا تشريعيا يقضي بأن القيمة الحضارية لمبدأ الشورى لا تدخل تحت الأحكام الفقهيه الجزئية، وإنما هي مقصد قرآني تشريعي متصل بسنن الاجتماع السياسي كشرط لاستقامة الحياة المجتمعية حكما وعدلا وإنسانا وحضارة.

وبالتالي فإن مخالفتها لا يترتب عليها عقوبة أخروية، وإنما عقوبتها دنيوية عاجلة (حروب الربيع العربي نموذجا).

ينضوي تحت هذه القيمة:
ــ المجتمع هو مالك الشرعية السياسية شرط ضروري.
ــ وجود دستور ينظم العلاقة بين الحاكم والشعب (وثيقة المدينة نموذجا).
ــ الولاء للأمة واحترام إرادتها!
ــ حق الأمة في اختيار النظام السياسي والإداري والقانوني الذي تحتكم إليه.
ــ استحداث الوسائل والنظم واللوائح الكابحة لتغول السلطات والمقلّمة أظافر الاستبداد المتغول، وتحمي حريات الأمة وكرامتها وحقوقها.

4ــ العدل: الله أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجل هذا الهدف، المقصد الشرعي لكل الديانات السماوية. قال تعالى: "ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط".

ينضوي تحت هذه القيمة:
ــ تفتيت الثروة، وأعني عدالة التوزيع بما يكفل العيش الكريم للإنسان.

وبما أن العدل قيمة حضارية، فإن صوره ووسائل ترسيخه متجددة بحسب مصالح الناس زمانا ومكانا وبحسب تغير الأعراف الثقافية والفكرية... إلخ، الأمر الذي يعني وجوب ابتكار وسائل وآليات تضمن سلامة سير العدالة، وسيكون حكم هذه الوسائل تبعا للمقاصد (للوسائل حكم الغايات)، فإذا كان العدل مقصدا شرعيا سننيا اجتماعيا فإن استقلالية القضاء واجب مقصدي.

ــ التأمين الصحي والاجتماعي والتجاري وغير ذلك من الوسائل الخادمة للعدل والعيش الكريم.

ــ العدل حامي الحريات والمساواة والكرامة والحقوق، وحامي الشرعية السياسية، أي حق الأمة في الاختيار، وبدون العدل فكل ما سبق ذكره من القيم تعتبر مهدومة ومهترئة ومهدرة ووجودها كعدمها.

بكلمة، كل وسيلة تحمي مصلحة الإنسان سواء تحت هذه القيمة أو غيرها من القيم السابقة واللاحقة يعتبر حكمها حكم القيمة ذاتها.

5ــ التعاون: الدليل الشرعي في قوله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى...". والأدلة أكثر بكثير.

ينضوي تحت هذه القيمة المحورية:
ــ ابتكار الوسائل التي ترسخ هذا المبدأ، ومنها العمل المنظم (حب النظام)، وقيام المجتمع المدني (تحقيق التفاعل المتوازن بين الحكومة والمجتمع لا طغيان لأحدهما على الآخر).
ــ التعايش، قبول بالآخر، روح الفريق الواحد.
ــ الشعور بالمسؤولية، المبادرات، تنظيم المعارضة، حماية البيئة، رقابة شعبية، وسطية واعتدال، مال الله. هذه كلها قيم تضمنتها تعاليم الإسلام.

6ــ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأدلته كثيرة في القرآن والسنة، ويكفي أن الله أثنى على أمة محمد بأنها خير أمة أخرجت للناس، هذه الخيرية ليست للتفاخر وإنما هذا المدح والثناء لأنها تطبق هذه القيمة الحضارية.

ــ هذه القيمة المحورية تعتبر صمام أمان المجتمع، وينضوي تحتها قيم عدة أبرزها وأهمها:
ــ الرقابة الشعبية.
ــ دلالة هذه القيمة تعني أنها ثقافة مجتمعية سلوكية.
ــ تعني أننا سنكون قد ملكنا الخيط الأقوى في تنمية المجتع ثقافيا وسياسيا... إلخ.

7ــ تقدير العلم والعناية به: غير خاف على القارئ احتفاء دين الإسلام بشتى أنواع العلم، حيث احتل العلم المكانة الأولى قبل العمل، "فاعلم أنه لا إله الله واستغفر لذنبك..." إلخ الآية.

ينضوي تحت هذه القيمة:
ــ العناية بالتخصص، بناء العقل الناقد، العناية بالبحث العلمي، رفض العواطف في مجال العلم، عدم اتباع الهوى، المنهحية العلمية، كون العلم منهجا وليس موضوعا.
ــ فقه الأولويات، تعديل مفهوم التزكية إلى مفهوم واجب الوقت، تهديف الأعمال، ربط الأعمال بمآلاتها المقاصدية، رفض العبثية، رفض الخرافة والتسطيح العقلي والعلمي، رفض ثقافة الاستهلاك، وهذه من أسوأ الأدواء التي ابتليت بها أمتنا.
ــ التعامل مع السنن الكونية، تفعيل الوقف الخيري.

8ــ الاستخلاف: استخلاف الله للإنسان، يمثّل الشق الأول من حكمة خلق الله للإنسان، "أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه...".

هذا الإنسان الذي أنشأه الله واستخلفه في الأرض لعمارتها، وقيام الحضارة أولا، والاستغفار والتوبة ثانيا كما نصت الآية.

ينضوي تحت هذه القيمة:
- أن الأمة مستخلفة بنص القرآن وأنها هي الأصل.
ــ السعي الجاد نحو تنمية ثقافة الاستخلاف لدى الفرد والمجموع.
ــ تنمية ثقافة الاستخلاف في الوعي الجمعي واجب شرعي.

تنمية ثقافة الاستخلاف أنواع كثيرة منها:
ــ تنمية الوعي بشتى صوره علميا وثقافيا واقتصاديا وتربويا واجتماعيا وسياسيا... إلخ.
ــ التنمية المستدامة: نموذج تصرفات يوسف عليه السلام في التنمية المستدامة وسياسة الفاروق في الأرض المفتوحة، والنصوص على هذا كثيرة التي تحدثت عن تفتيت الثروة: "... كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم...". هذا النص قاعدة كلية ناظمة للمال والتنمية المستدامة وعدالة التوزيع.

9ــ الرحمة، الأمانة، الأخلاق: هذه القيم الثلاث أدلتها زاخرة في القرآن وصحيح السنة، ولا يتسع المقام لذكرها، لكني أقول: الرسالة المحمدية هي رحمة، والقرآن هدى ورحمة، والرسول صلى الله عليه وسلم رؤوف رحيم.

ينضوي تحت هذه القيمة قيم حضارية ومبادئ منها:
ــ التكافل والعطف والحب والمودة والإخاء والمبادرات وقوة النسيج المجتمعي، وكل تصرف من شأنه أن يرسخ هذه القيم فله حكم القيم ذاتها، كيف لا والقاعدة الأصولية تقول: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".

ــ الأمانة: هذه القيمة هي إكسير الأعمال كلها، والمقصود بالإكسير أي هي الملح، قيمة ملازمة للفرد والمجموع تتمثل في الرقابة الذاتية، وهي سلطان مهيمن كفيل بتسيير أي عمل نحو النجاح والمجتمع نحو النجاح.

ــ الأمانة تعني الأمن وتعني الالتزام وتعني روح الفريق وتعني ضمان سلامة التصرفات الدينية والدنيوية والفردية والجماعية لدى الحاكم والمجتمع.

- الأخلاق: غير خاف على القارئ مكانة الأخلاق في تعاليم الإسلام قرآنا وسنة، فالأخلاق هي السلوك الظاهري الايماني، وهي ثمرة لاستقامة الضمير الإيماني المتمثل في الأمانة.

10ــ الجمال: الإسلام دين الجمال، فكم هي الآيات التي لفتت الفكر والعقل إلى التفكر في جمال الكون وصنع الله الذي أتقن كل شيء، "وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات...". والآيات كثيرة.

وليس أدل في هذا المقام على العناية بالجمال وحمايته من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في من قطع شجرة يستظل بها الناس -سيما في الصحراءـ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "قاطع السدر -أي في الصحراء- صوّب الله رأسه في النار". كثيرة هي الآيات والأحاديث حول قيمة الجمال حضاريا وإنسانيا.

ولكني أقول باختصار: هذه القيمة لها سلطان مضطرد في الارتقاء بالمجتمع وتنظيم الإدارة وفن التسويق، وهي دلالة على صدق وإخلاص المجتمع لقيمه وهويته الحضارية، وترسيخ طرق النهوض، كما هي قوة للفرد والمجتمع.

للأسف بعض هذه القيم الحضارية الناظمة للتدين الجماعي حصل لها تقزيم خطير، فعلي سبيل المثال:
ــ تم حصر عقيدة التوحيد في بعد واحد هو تحريم عبادة الأصنام وكفى.
- تم إخلاء الجو للوثنيات السياسية والطبقية تنخر في جسد القيم الحضارة الإسلامية حتى تخلفنا تخلفا مريعا.
ــ تقزمت قيمة الشورى وحوصرت في أضيق نطاق حيث زحزحت من ميدان مقاصد القرآن في الاجتماع السياسي إلى مجال لا علاقة لها به لا من قريب ولا من من بعيد بل ولا وجود له في سلم الأحكام التكليفية الخمسة، فقيل الشورى مُعْلِمة، كلمة مُعْلِمة لا وجود لها بين الأحكام التكليفية؟ هل واجب أم مندوب أم مباح؟ والسبب يعود إلى تقليد سلطة البدايات، فقتل الفكر وقتلت معه القيم الحضارية.

ــ الجمال: هذه القيمة قتلها التزهد المصطنع والدخيل على ثقافتنا وقيمنا الحضارية، وأصبح الهوس والجنون والثياب المتسخة دليل ولاية وقرب من الله واستحقاق الجنة.

تلكم هي "أمهات القيم الحضارية"، قيم التدين الجماعي في الإسلام، وقد انضوى تحتها عدد كبير من القيم الحضارية الأخرى، وحسبي -كما قلت سابقا- إني فتحت شاقوصا والمجال مفتوح نقدا وإثراء.

هل اتضح جواب السؤال القائل: ماذا نريد من عقيدتنا؟ وهل خرجنا من شعب الإيمان أم فتحنا أفقا أقوى وأضمن فاعلية؟

ـ بقي لنا الحديث حول علاقة القيم الحضارية بالسنن الكونية؟ هذا هو موضوع الحلقة القادمة بعونه سبحانه.

كلمات دالّة

#التدين_الحضاري