الإثنين 29-04-2024 19:50:30 م : 20 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

الوظيفة الاجتماعية للإسلام.. استقامة الفكر والسلوك المجتمعي (قراءة سننية) «الحلقة الرابعة: صناعة المستقبل وقيادته»

الأربعاء 01 نوفمبر-تشرين الثاني 2023 الساعة 06 مساءً / الإصلاح نت-خاص-عبد العزيز العسالي

 

 

القرآن وصناعة المستقبل:

من نافل القول إن الرسالات السماوية هدفها صناعة مستقبل الأمم، وهو عين الهدف لحركات الإصلاح والتغيير الوضعية مع فارق أن الحركات الوضعية تتعثر بخلاف "معارف الوحي" المعصوم.. وإليك أخي القارئ بعض النصوص التي اكتنزت دلالتها على مفهوم المستقبل - صناعة وامتلاكا لزمامه وقيادته.

قال تعالى: "لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون" (الأنبياء، 10).

"وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون" (الزخرف، 44).

"أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب" (العنكبوت،51).

 "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس" (البقرة، من الآية 143).

أبرز وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم تجاه الأمة تعليم الحكمة، قال تعالى: "ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (الجمعة، 2).

"وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض" (النور، من الآية 55).

"ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" (الأنبياء، 105).

 

ومن السنة النبوية:

"والله ليتمّنّ هذا الأمر حتى تسير الضعينة من صنعاء إلى حضرموت لا تخاف إلا الله أو الذئب على غنمها" (حديث صحيح، ورد بصيغ مختلفة).

النصوص كثيرة جدا، وفيما أوردناه دلالة إجمالية خلاصتها: مدى عناية التشريع الإسلامي المقدس باستقامة فكر وثقافة الاجتماع الضامنة لإقامة حياة ومستقبل أكثر سلاما وطمأنينة واستقرارا وتحقيق وعد الله في قيام الأمة الوسط استخلافا وتمكينا، وإرساء أسس راسخة تقوم عليها شخصية الأمة - شخصية يقظة حارسة لمصالحها الشاملة والمتجددة زمانا ومكانا.

غير أن موضوع الحلقة يحتاج مزيدا من البسط والإيضاح حول مجالات إعداد القرآن للإنسان والمجتمع الصانع للمستقبل، ولن نكون مبالغين إذا قلنا إن المقصد الغائي للقرآن هو إعداد الإنسان وإصلاحه.

وعليه، سنسلط الضوء على أهم مجالات إعداد الإنسان بإيجاز شديد وذلك في المحاور التالية.

 

المحور الأول، مجالات الإعداد:

سنسلط حديثنا عن المجالات العامة أهمها مدى الشمول والاستيعاب الذي تضمنه القرآن المجيد في سبيل إعداد الإنسان والمجتمع الصانعين للمستقبل.

1- بناء تصورات الإنسان تجاه الله، الإنسان، الكون، الحياة - بناء علميا، يقينيا يحرره من الوهم والظنون والخرافة والخوف والخضوع - قَلّ أو كثر فلا يكون إلا لله.

2- إعداد وبناء تفكير الإنسان وقناعاته بعيدا عن أي نوع من أنواع الإكراه الحسي والمعنوي.

3- إعداد إمكانات الإنسان وبناء قدراته باستثارة عقله وتفكيره من خلال الأسئلة - أفلا يعقلون؟ أفلا يتفكرون؟ أفلا ينظرون؟

4- إعداد الإنسان تجاه وعيه بذاته حيث قرر القرآن قدسية كرامة الإنسان بأدلة كثيرة أبرزها أن الغاية من خلقه هي الاستخلاف وعمران الأرض، وسجود الملائكة، العلم، الإرادة والاختيار، [انزاب] تشريع مقدس قرر قدسية كرامة الإنسان وقرر تشريعا اعتبر حقوق الإنسان "محور مقاصد الشريعة".

5- إعداد وبعث رغبات الإنسان - لم يقمعها - وإنما هذبها ووجهها نحو أهداف ومقاصد سامية.

6- تحريك فاعلية الإنسان والمجتمع وضبطها وأطّرها بقيمة الإحسان - التزام بالقيم الحادية إلى حياة أفضل.

7- رسم ملامح المستقبل من خلال قراءة التصرفات والتنبؤ بمآلاتها - نتائجها إيجابا وسلبا.

8- تحديد مفاتيح النجاح تحديدا واضحا لا لبس فيه ولا غموض ولا إكراه وتقرير حرية وإرادة الإنسان في مجال الشعائر التعبدية، لكن القيم والسنن الاجتماعية فالتزامها واجب وضروري على المسلم وغير المسلم، ذلك أن المساس بالقيم والسنن يعتبر فسادا في الأرض.

9- رسم وضبط موازين الاجتماع وتوجيهها الاتجاه الصحيح وقرر وعد الله بالعون والتيسير لم يلتزم هدايات القرآن واقتفى مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم التماسا للحكمة التشريعية، سيما مجال العلوم الإنسانية، قال تعالى: "والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم".. "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى".. "ولينصرن الله من ينصره".. "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي".

بالمقابل يقرر العقاب بوضوح، قال تعالى: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم".. "وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى".

10- ربط تنزيل النصوص بسنة الواقع الاجتماعي، بل قرر دور العقل في إدراك سنن الواقع والنظر في المآلات، قال تعالى: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني".. البصيرة هنا هي العقل الناظر إلى المستقبل، وسنة التدرج هذه قررها التشريع الإسلامي بوضوح، مكيا ومدنيا على السواء، وبقيت سارية المفعول حتى أواخر العهد المدني، قال صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله يا عمر أتريد أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه"؟.. "يا معاذ إنك ستلاقي في اليمن أهل كتاب فأخبرهم بأن الله افترض عليهم الشهادتين فإن أطاعوك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات..." إلخ أركان الإسلام.

11- إعداد عقل الإنسان بقيمة الاعتبار، مقاصد قصص القرآن: "فاعتبروا يا أولي الأبصار".. "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب".. "إن في ذلك لعبرة لمن يخشى".. وهكذا نجد مقاصد القصص القرآني جمعت البصيرة، واللب، والخشية - الإيمان - مزج متداخل بين العقل والتأمل البصير والخشية من الله، فالعقل والتفكير يرتضعان من قيم الإيمان وقيم الإيمان تستعين بالعقل والبصيرة في التماس الحكمة، وبديل العقل المؤمن هو الهوى.

الجدير ذكره أن إعداد وصناعة إنسان ومجتمع المستقبل يحتاج مجلدا كبيرا، غير أن سؤالا سيطر على ذهنيتي بقوة حتى بات شاخصا بوضوح وقد بدأ السؤال بمقدمة لافتة للنظر قائلا: ألا ترى أن كلامك أعلاه قد يثير فضول القارئ فيتساءل: لا ريب أن القرآن هو كما ذكرت وفوق ما ذكرت أنت ومن سبقك ومن سيأتي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لكن ماذا لو تساءل القارئ قائلا: نعم، ذاك هو القرآن.. إذن، ما هي الأسباب التي حالت بين القرآن وفاعليته في الاجتماع، فبم ستجيب؟ ماذا لو أن القارئ اعتبر سطورك أعلاه هروبا من قول الحقيقة أو عجزا عن تشخيص المرض، فاتركونا من المغالطة المغلفة بالوعظ واستغفال القارئ، فقد يكون للقارئ استعداد أفضل سيما إذا اقتنع بأسباب المشكلة أولا، وحصل على مفتاح فهم القرآن ثانيا.. الحقيقة أن السؤال الآنف تفرعت عنه أسئلة عدة ومختلفة درجة وأهمية، ولكن ما استحوذ على مخيلتي أقوى هو تذكيري بأبي الأحرار الشهيد الزبيري رحمه الله، إذ قال:

لا ينفع الجرحَ الخبيث ضمادُهُ

ما دام ذاك الضّمْد فوق فسادِ

إن التخفي على فساد جراحنا

أنكى لنا من خنجر الجلادِ

هنا، والحق يقال، إني اقتنعت بوجاهة تساؤل القارئ، وبالتالي قررت الإجابة على التساؤل فيما يلي.

 

المحور الثاني، أسباب غيبوبة العقل المسلم:

توقفت كثيرا حول بلورة وتحديد الأسباب المباشرة والعوامل المؤثرة أولا، ثم تبلور عنوان المحور ثانيا، البعض قد يرى أن العنوان مستفز، غير أني فضلت أن يظل كما هو كما فضلت أن أطرح عددا من الأسئلة، على أن الإجابة قد تكون متداخلة تفاديا للإطالة، فإلى الأسئلة:

أولا، ما هي الأسباب المباشرة التي زحلقت العقل المسلمة إلى غيبوبته الحضارية؟ ما نوع تلك الأسباب؟ هل هي أسباب عقدية؟ أم هي أسباب قيمية؟ ماذا عن أسباب التدين؟ أين تكمن خطورتها؟ هل هناك أسباب ثقافية؟ ما هي؟ أم أن الأسباب سننية؟ وكيف نفهم ذلك؟ أم يا ترى أن الأسباب منهجية؟

 

ثانيا، إجابة الأسئلة:

لا شك أن الأسئلة فتحت نوافذ عدة تستدعي تقديم إجابات وفق المنهج الأصولي، ولا شك أن هذا النوع من الإجابة فيها صعوبة وبالتالي لجأنا إلى تنويع الإجابة على النحو التالي:

1- السبب الأول: غياب المنهج المقاصدي.. ببساطة غياب منهج مقاصد القرآن عموما، وهذا هو السبب المحوري المركزي، وبقية الأسباب تتفرع عنه أو تعود إليه.

غياب المنهج المقاصدي أدى إلى دفن العقل المسلم في تلك الهوة: الغيبوبة الحضارية.

2- إجابة أخرى نرى أنها أسهل وأكثر وضوحا لكنها لا تخرج عن سابقتها، لكنها كشفت عن سببين هما: العقلية الفقهية، وحراس التخلف. يقول مالك بن نبي رحمه الله: لقد تأملت طويلا فما وجدت الاستعمار يؤذيني إلا عن طريق "مؤسسة دينية إسلامية وحاكم مستبد".. (كتاب "بين الرشاد والتيه"، مالك بن نبي، ص 198).

3- السبب عقدي.. خلط قاتل بين القدر وبين السنن الاجتماعية.. وهذا السبب هو الغالب على القاعدة العريضة - نخبة وعامة.

منشأ هذا السبب يعود إلى صراعات القرون القديمة والتي أخذت مصطلح "علم الكلام"، علما أن كبار الفقهاء قالوا إن علم الكلام بدعة وقد استخدمه فقهاء السنة قديما لإسكات خصومهم أهل البدع، لكن أهل السنة توارثوا علم الكلام في حلقات العلم، وبسبب التقليد الأعمى فقد توارثوا أسوأ ما في ذلك الصراع وهو الخلط بين القدر والسنن، وإليك مثال صغير لكنه صنع إحدى كوارثنا الكبرى.

يتردد في الثقافة الشائعة نص قرآني هو: "يؤتي الملك من يشاء".. يتردد هذا كثيرا بلسان العامة في مواجهة من يقول بعدم شرعية الحاكم المتغلب فتسمع الجواب: قدر الله، يؤتي الملك من يشاء، فهل هذا استدلال صحيح؟ الجواب: لا.. الملك الوارد ذكره هو "النبوة" وليس الحاكم السياسي، وهكذا ضاعت الشورى.. أصبحت الأمة تعبد الفرعون وتظن أنها تعبد الله إيمانا بالقدر.

ومن جهة ثانية، هذا التدين المغشوش حاضر بقوة عند الوعاظ وما أكثرهم، والأمة تحسبهم علماء وهم ليسوا سوى وعاظ لا يعرفون المنهج المقاصدي ولا غيره، وقس على ذلك.

4- غياب مقاصد التزكية، والمقصود هنا أن القيم الخلقية أصبح المسلم يمارسها حركة آلية لا يهمه مقاصدها وهي تحقيق سنن الاجتماع والتي يمكننا ذكرها إجمالا تحت سنة اجتماعية واحدة هي "تقوية شبكة العلاقات الاجتماعية"، فهذه السنة غائبة عند الخطباء والوعاظ، والمجتمع تابع، وعليه فلا غرابة أن تعود السلالية العنصرية تمزق هوية المجتمع وتعبث بمقدرات الوطن وتنقلب على الشرعية... إلخ فوضى التدمير والفساد والارهاب.

5- غياب مقاصد التاريخ وفي مقدمتها مقاصد قصص القرآن، إضافة إلى ذلك غياب مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة، وأصبح التاريخ وقصص القرآن والسيرة العطرة بمثابة قصص العجائز والعياذ بالله.

6- تحريم الفلسفة: الصراعات بين فقهاء السنة والفلاسفة في التاريخ الإسلامي القديم كانت تمس العقيدة وبالتالي صدرت الفتاوى في تحريم الفلسفة، وجاء المتأخرون فقلدوا تلكم الفتاوى فحرموا الفلسفة في ميدان الحياة الإنسانية - سياسة اقتصاد، تربية، إدارة، علم نفس، تاريخ، علم اجتماع، والنتيجة -كما قلنا- سقوط العقل المسلم في غيبوبة حضارية ولم تدركه الإفادة حتى اللحظة، كيف لا وكل المجتمعات غير الإسلامية نهضت حضاريا والعقل المسلم يعيش غيبوبة - تقليدا للماضي أو تقليدا للغرب.. وهنا نتذكر قصة الحمارين - أحدهما يحمل غرارة ملح وآخر يحمل كميات إسفنج، فصادف أن حامل الملح خاض في ترعة ماء غمرت غرارة الملح فذابت الملح فشعر الحمار بذهاب ثقل الملح فانطلق فقلده حامل الإسفنج والنتيجة تعثر الحمار وسقط وهلك.

7- الانفصال بين القيم والعقيدة: القرآن المجيد مليء بالنصوص الدالة على الارتباط بين القيم الكونية والقيم الخلقية والسنن الاجتماعية وبين ركني الإيمان بالله واليوم الآخر، فكيف جاء انفصال القيم عن الإيمان؟ الجواب: غياب مقاصد القرآن قاد إلى الفصل بين القيم الخلقية ومقاصد الشريعة وبالتالي توارث الوعاظ عموما أن الأخلاق أشياء كمالية - ليست ضرورية.

الأسوأ من ذلك هو القول إن ارتكاب كبائر الذنوب - القتل والسرقة وشرب الخمر والزنا والقذف وعقوق الوالدين والاعتداء على حقوق الغير وحرمان النساء من الميراث وظلم الآخرين وغير ذلك من الجرائم- فمن ارتكب كل ذلك أو بعضها فإيمانه موجود، نعم، إيمانه ينقص فقط.

8- التعصب المذهبي: هذا السبب حاضر بقوة في الذهنية العامة ولدى النخبة. مثال سريع: التعصب المذهبي قادم من غياب الاطلاع على أقوال الفقهاء والسبب هو أن الـ60 سنة الأخيرة انحصرت المعرفة الفقهية في بعد واحد هو البعد البدوي السطحي لدى غالبية الأكاديميين والوعاظ والقضاة والتربويين... إلخ

وهذا البعد ضعيف الصلة بالمنهج المقاصدي ومنهج أصول الفقه والنتيجة معروفة سلفا.

9- التمزق الثقافي: هذا السبب هو ثمرة كل الأسباب السابقة، والمقصود بالتمزق الثقافي أن التدين بشكل عام لا يخرج عن حركة آلية عديمة الجدوى، ومن هنا برز العجز القاتل عن صناعة القيم والأخلاق، وأصبحت القيم والأخلاق قشرة شكلية جوفاء، والنتيجة: النسيج المجتمعي تمزق وتشتت، فغاب الولاء للمبادئ وحضر تقديس الأشخاص، فعربدت السلالية العنصرية فضاعت هوية الأمة ومقدرات الوطن.

كلمات دالّة

#اليمن