الإثنين 07-10-2024 14:06:51 م : 4 - ربيع الثاني - 1446 هـ
آخر الاخبار

نحو إعادة بناء ثقافة المجتمع (الحلقة 1) مظاهر الخلل في ثقافتنا

الثلاثاء 22 نوفمبر-تشرين الثاني 2022 الساعة 05 مساءً / الإصلاح نت - خاص | عبدالعزيز العسالي

 

أولا، مكانة الثقافة وعلاقاتها:
- لا يختلف عاقلان أن لكل أمة ثقافتها المرتكزة على أسس هويتها عقيدة وتاريخا... إلخ.

- المفهوم الآنف واضح الدلالة أن الثقافة تتمثل في السلوك والتصرف العملي اليومي الذي تمارسه المجتمعات في كل جوانب حياتها الدينية والفكرية والسياسية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية... إلخ.

- يقرر فلاسفة الاجتماع أن نهوض الأمم مرهون بوعيها الثقافي الناضج المتجدد الناقد، وأن تخلف الأمم يعود سببه إلى قصور وعيها الثقافي.

- معالجة قصور الوعي الثقافي يستلزم -ضرورةً- دراسة كل جوانب حياة الأمة على أسس منهجية علمية معرفية نستطيع من خلالها إدراك علاقات التأثير والتأثر في كل جوانب الحياة.

- يحتل المجال الديني المرتبة الأولى، ذلك أن للمعتقدات أثرها على السلوك.

ثانيا، قصورنا الذاتي:

لا ندعي أننا سنقوم باستقصاء بحثي شامل لجوانب حياتنا الثقافية، فهذا يحتاج إلى مراكز بحث متخصصة.

لكن هدفنا هو الإسهام وتقديم الممكن في حدود اهتماماتنا في جانب الفكر الإسلامي، انطلاقا من المفهوم القائل: "اعبد الله فيما أقامك فيه".

وبطبيعة الحال، وبحسب الحيز المتاح، نقول إن ما سنقدمه في هذا الصدد هو وجهة نظر قائمة على معطيات ومعالجات فيها شيء من التجديد والوضوح، بدءًا من استعراض أهم الأسباب الكامنة وراء قصورنا الذاتي، فإلى الأسباب:

1- مفهوم القصور الذاتي: القصور الذاتي مفهوم مستعار من فضاء علم الفيزياء قمنا باستعارته، نظرا لوضوح دلالته المتصلة بفضائنا الثقافي.

2- مفهوم القصور الذاتي يعني أن الأجسام لا تتحرك بذاتها وإنما تنتظر ما يحركها من الخارج، وبالمثال يزول الإشكال.

- معلوم أن السيارة لا تتحرك من دون أن يضع السائق قدمه على دواسة الوقود، فتنطلق وتزداد سرعتها بحسب قوة ضغط قدم السائق، ولكن إذا رفع السائق قدمه تتوقف بعد ثوان قليلة.

- السؤال الأخطر هو: ماذا لو رفع السائق قدمه في طريق صاعدة؟

- الكأس الفارغة إزاءك لا يمكن أن تمتلئ بالماء أو أي مشروب إذا لم تقم أنت بملئها، وقس على ذلك.

3- تطبيق الدلالة:
- إذا تأمّلنا حال النخبة في الفضاء الإسلامي عموما، سنجد دلالة القصور الذاتي حاضرة بقوة.
- يقرر د. برهان غليون أن جسد النخبة يحمل رأساً غير رأسه، كونه يقلد الغير، إمّا الوافد، وإمّا الموروث تقليدا أعمى غير واع.

ورحم الله الشاعر عبد الله البردوني إذ قال:
رأساً مقطوعا يبدو
برقاب أخرى مدعوم*

- ما يثير الغرابة هو أن فضاء النخبة -طيلة عقود- يعلوه صخب ولغط ليل نهار يقال إنه تعرية للتقليد.

يا نخبتنا هل هذا هو مبلغكم من العلم والفكر والثقافة؟ هل هذا سلاحكم العملي في الإصلاح الثقافي؟

ها أنتم تتحركون بحركة الغير، ثم تطلقون أطنان الشتائم ضد تقليد الغير، بل وتقولون هيهات للعقل المقلد أن يبدع؟ لأن التقليد يكبح العقل، ويرميه في وهدة القصور الذاتي.

- هناك من يتهمكم أنكم تجهلون -تماما- معنى القصور الذاتي، بل وتجهلون مفهوم التقليد، مستشهدا بالواقع المعيش، مؤكدا القول إن لم يكن موقفكم هو القصور الذاتي فما القصور الذاتي إذن؟

4- من القصور الذاتي إلى رجُلُ القَشِّ: هنالك مفهوم منهجي يرفض تفسير الظواهر الاجتماعية من زاوية السبب الواحد، لأنه غش فكري ومنهجي وثقافي، وانطلاقا من هذا المفهوم قمنا باستقراء الأسباب المستقلة والمتداخلة، فوجدنا سببا آخر له حاضرا بقوة كان ولا زال يتردد في فضائنا الثقافي تحت مفهوم "الغزو الفكري"، ونحن هنا لا ننكر هذا المفهوم، وإنما هدفنا هو الوصول إلى العلاج الصحيح.

وحرصا على تقديم أسباب قليلة ولكنها مكثفة ينضوي تحتها عدد من أسباب قصورنا الذاتي قمنا باستعارة المصطلح من ميدان المنطق، إنه مصطلح "رجُلِ القشِّ"، فقد وجدناه يلقي الضوء على سبب آخر كثيف الدلالة، سبب لا يقل عن القصور الذاتي، فإلى التوضيح.

مفهوم رجل القش يستخدمه أهل الجدل المنطقي، وربما استعاروه من تصرفات المزارعين الذين يلجؤون إلى حيلة وهمية تتمثل في نصب عود خشبي فأكثر مع بعض القش ثم يلبسونها بقطع من الثياب، والهدف هو إيهام الطير أو القردة التي تأكل المحاصيل أن هناك حارسا.

وجه الدلالة أن النخبة الإسلامية نصبت لنا عدوا وهميا (رجل قش) الغزو الفكري. وقد تركزت جهود كثيرة ومشكورة في مواجهة "رجل القش".. سِجال كثير، كبير، واسع، يحذر من الغزو الفكري ولكن "رجل القش" ها هي لا زالت أعواده منصوبة، بل ومتجددة، فهل قضينا على الغزو الفكري أم أننا إزاء وسائل أعنف وأخطر؟

إذن، تم تنصيب عدو رسخناه في عقل ووجدان المجتمع ولم نقدم العلاج الصحيح، فكلما ظهرت وسيلة إعلامية ارتفعت الأصوات وأطلقت فتاوى التحريم حتى تأتي وسيلة أخرى، فتصبح الأولى هينة إن لم تكن مباحة، وهكذا بدءًا من الراديو، ثم المسجلة، ثم إلى عصر الإنترنت الخلوي والفضائي... إلخ.

النتيجة خطيرة جدا وهي: فقدان الثقة بالخطاب، بحجة أنه يتحدث عن وهم أشبه بـ"رجل القش"، فالمجتمع يستحضر الأدلة قائلا ما كان بالأمس حرام أصبح مباحا، وهنا اهتزت بل وتلاشت هيبة الفتوى الفقهية.

ويزداد إقبال المجتمع تجاه الجديد لا سيما إذا تم استدعاء الفتوى من التراث في مواجهة مستجدات حياتنا، ولسان الحال والمقال: فتواك غير مقبولة لأنك استمديتها من موتى القرون.. أنت تخادع.. أنت تقدم وهما أشبه بـ"رجُلُ القشِّ"، فكيف تلزمني بكلام من لم يخطر على باله هذه الوسيلة؟ لقد استهلكت الجهود طيلة عقود، والنتيجة: لم نبنِ ثقافة، ولم تسقط أعواد رجل القش.

5- التكييف القرآني لحالتنا الثقافية: المفاهيم القرآنية الخالدة كفيلة بتقديم أفضل العلاج لمشاكلنا الثقافية، وهذا المثال يصف حالتنا الثقافية بل يسبغ عليها تكييفا متراكم الدلالات، إنه مفهوم "العَرَض الأدنى".

قال تعالى: "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه"، إلى قوله: "إن الله لا يضيع عمل المصلحين".. سنشير إلى الدلالة بإيجاز، لقد تضمن هذا النص دلالات متراكمة وكثيفة، أبرزها متصلة بحالتنا الثقافية وهي ثقافة القناعة بالعرض الأدنى، العرض الأدنى بدأت تجلياته من خلال "تدين انحصر في الشعائر التعبدية".. إنها ثقافة هدهدت العقل فنام بل دخل وهدة الركود ثم الهمود ثم الرقود، مطمئنة إلى مظاهر التدين الشعائري، ونسيان قيم الخلود المتمثلة في آليات صناعة شخصية الأمة بدءًا من حماية كرامة الفرد والمجموع.**

وعليه، أرجو أن مفهوم القصور الذاتي، ومفهوم رجل القش، وإلماحتنا حول العرض الأدنى قد اتضحت دلالتها للقارئ.

هنا يحضر سؤال يقول: ما العمل؟ هل هناك حل؟ والجواب: الحل التفصيلي، بعونه سبحانه، سيكون في الحلقة الرابعة، ولكن ذلك لا يمنعنا من إشارة سريعة نجملها في البند التالي.

6- مثقف معترف متجدد: بما أن فضاءنا الثقافي رازح بين القصور الذاتي، وأوهام رجل القش، وأن القصور الذاتي انضوى تحته العقلان الجاحد والجامد على السواء، فهذا يعني أن العقل الفقهي خصوصا قد دخل في غيبوبة حضارية وبالتالي ظل يطاعن الوافد (رجل القش) في سجالات لا تنتهي بل ولم تقدم حلا منهجيا علميا صحيحا، وعليه فإن الحل -من وجهة نظرنا- يتمثل في إخراج شخصية الفقيه المعاصر يحمل صفة "المثقف المعترف، المتجدد":
- معترف للسلف بجهودهم اعترافا مقرونا بالاحترام والتقدير بعيدا عن التقديس.
- متجدد قادر على اجتراح معالجات جديدة لقضايانا المستجدة، انطلاقا من المنهج المعرفي الواضح في مقاصد القرآن، ومنهج البيان النبوي العملي، ومنهج فقهاء المقاصد بدءًا من العصر الراشدي الخصب وتفعيلا لأفق العقل المهتدي بالنصوص والمقاصد والكليات والسنن وفقه الواقع فقها متسقا متكاملا واضحا يرسي ويمهد خريطة الأسس الحاضنة، ومقاصد القيم الكونية والخلقية، والسنن الحاكمة للاجتماع الصانعة للاتجاهات الإنسانية والحضارية الراسخة، وحسب فلاسفة الاجتماع.

وهذا الدور هو واجب المجتمع الذي يعاني المحنة الثقافية فيقوم بإخراج شخصية المعترف المتجدد، فهذه الشخصية ينتجها المجتمع من خلال مؤسساته المدنية لا غير، حتى يرسخ ثقافة ناقدة يمارسها المجتمع بصورة عادية كما هو حاله في قضايا الفلاحة والقضايا الاجتماعية البحتة.

بالمقابل، ينحصر دور الجامعات في بناء العلوم الإنسانية الصحيحة وفي مقدمتها تعميق مفهوم الثقافة الإسلامية ومقاصدها الكلية إنسانيا، تأصيلا شرعيا يمتزج فيه الاعتقاد، الكرامة، الحقوق، مقاصد التزكية، شبكة العلاقات، وسنن الاجتماع... إلخ. كما أن الجامعات مهمتها العناية بالبناء العلمي الصحيح في مجال العلوم الطبيعية.

نلتقي بعونه سبحانه مع مظاهر العرض الأدنى.

---------------------------------
هوامش:
* من قصيدة، قراءة في كف النهر الزمني.
**بعونه سبحانه سنخصص الحلقة الرابعة لقيم الخلود.

كلمات دالّة

#اليمن