الخميس 09-05-2024 02:49:57 ص : 1 - ذو القعدة - 1445 هـ
آخر الاخبار

ثقافة الإقلاع الحضاري .. مدخلات ثقافة الإقلاع (الحلقة الثالثة)

السبت 22 ديسمبر-كانون الأول 2018 الساعة 06 مساءً / الإصلاح نت - خاص/ عبد العزيز العسالي

 

مدخل

قد يعترض القارئ إزاء تغيير عنوان هذه الحلقة، كونه مخالف لماذكرناه في نهاية الحلقة الثانية، وبكل تقدير أقول للقارئ العزيز: هناك سببان وراء تغيير العنوان، السبب الأول: العنوان العام لهذه الحلقات هو "ثقافة الإقلاع الحضاري"، الأمر الذي يعني أن هدفنا تثقيفي قبل كل شيء.

والسبب الثاني وهو الأهم: إننا نريد الدخول إلى السياسة من باب الثقافة وليس العكس، ذلك أن مفكرين كبارا يرون أن أبرز عوامل إخفاق الثقافة العربية قرابة قرن كامل يعود إلى أن النخبة العربية في الحكم والمعارضه دخلت إلى الثقافة من باب السياسة فضاعت الثقافة وطغت السياسة، فكان الفشل.

وعليه، فالذي يهمنا هو تكوين العقلية السننية في الوعي المجتمعي حتى تترسخ لدى المجتمع ملكة الإدراك لأولويات الحياة، وصولا إلى ثقافة الإقلاع، ذلك أنه لا يمكن فهم أولويات النهوض بدون فقه وإدراك علاقات التأثير السنني المسخَّر والذي بثه الله في الكون والنفس والاجتماع، هذا من جهة.

 

ومن جهة ثانية، توصلنا في الحلقة الأولى إلى نتيجة مفادها:
- ارتباك العقل العربي المسلم بسبب الإرهاب الفكري تارة وبسبب التخدير الديني تارة أخرى.

- قلنا إن العلاج يتمثل في "إعادة الاعتبار للعقل العربي".

- قلنا إن الخطوة الأولى لإعادة العقل العربي تتمثل في إعادة العقل إلى أصول ثقافته القادمة من مقاصد الوحي المقدس، ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم.

- وقلنا إن إعادة الاعتبار للعقل من خلال مقاصد القرآن كفيل بإزاحة الغيوم المتراكمة عبر القرون، والتي حالت دون الرؤية السليمة فارتبك العقل العربي.

- تحدثنا في الحلقة الثانية عن مكانة العقل في القرآن العظيم، باقتضاب شديد، تنويها بمكانة العقل في القرآن وكيف أن القرآن اعتمد الدلالة العقلية في أهم مجالات التدين (مجال التوحيد).

 

وعليه يمكننا القول:
أ- أن الحلقة الثانية بمثابة المنطلق الأول للعقل السنني.
ب- أن ما تم استعراضه من نصوص في الحلقة الثانية على محدوديته، فإنه قد مثَّل تياراً يستنير به العقل، لينطلق باحثا عن المزيد من النصوص حتى يعي العقل ذاته من خلال القرآن وصولا إلى استعادة الثقة بذاته.
بكلمة، لتكن الحلقة الأولى المكوِّن الأول للعقلية السننية المنشودة.

 

شرط مبدئي

تعددت مفردات فلاسفة الفكر وعلماء الاجتماع حول توصيف العقل العربي، فوصفوه بالعقل المستقيل، ووصفوه بالعقل المستريح، والعقل الكسلان، والعقل الماضوي، والعقل التاريخاني، والعقل التقليدي، والعقل التسليمي، والسطحي... إلخ. والسبب وراء هذه الأوصاف يعود إلى وصف محوري هو:
أنه تقليدي سواء للتراث أو للوافد.

وعليه، إذا أردنا الوصول إلى العقل السنني، فعلينا تحرير العقل العربي من التقليد الأعمى للموروث والوافد، وتحرير العقل من ثقافة التسليم للمفاهيم والمصطلحات التي هي إنتاج بشري في الموروث والوافد.

هذا شرط مبدئي اتفق عليه المفكرون، مؤكدين أن تحقيق هذا الشرط هو الخطوة الذهنية التربوية الأولى في طريق ثقافة الإقلاع الحضاري.

ويشدد المفكرون على خطورة أخذ الروشتة الجاهزة عن الآخر بأنها السبب الوحيد وراء الإخفاق العربي طيلة قرن كامل في شتى المجالات.

إن انبثاق المفاهيم والمصطلحات الفلسفية الأولى من صميم الثقافة والهوية الوطنية هو الشرط الأساسي للنهوض.

يوضح رجال الفكر وعلماء الاجتماع عموما أن المفاهيم والمصطلحات هي وليدة بيئتها، أعني أنها تحمل كل الخصائص الوراثية لتلك البيئة مشحونةً بمضامين واقعها وظروفها وسياقها التاريخي والثقافي والاقتصادي والسياسي، محملان بإرث الصراع وتطوراته الاجتماعيه، وإن إسقاط المفاهيم والمصطلحات خارج بيئتها كمن يقول لمريض استعمل محتويات وصفة المريض الفلاني.

وبما أن علماء الاجتماع والمفكرين عموما متفقون على خطورة التعاطي مع وصفات الغير، فإن الشرط المبدئي الواجب على المجتمع العربي التزامه وصولا إلى ثقافة الإقلاع، وتفاديا لمزيد من الإخفاقات المحبطة، أن ينطلق من مفاهيمه القادمة من أصول ثقافته ومصدرها المعصوم.

  

بين التنمية والاستخلاف

وبناء على ما قاله فلاسفة الفكر والاجتماع يمكننا القول: إنه وبعد دراسة مستفيضة وجدنا أن "مفرد تنمية" هي عربية بلا شك، لكنها من حيث الصياغة البيئية فإنها جاءت من بيئة مغايرة للبيئة العربية، والبديل الأفضل والأمثل والأقوى هو "الاستخلاف"، كونه يحمل قدسية ودلالة ذات أبعادٍ تعبُّدِيّة، وبالتالي فهو أكثر فاعلية تربويا وثقافيا وإجراءً وإنتاجا.

ومن هنا وتنفيذا لإنجاح الشرط وتفاديا للإخفاق ودفعا بالفاعلية رأينا أن يكون أول مدخلات ثقافة الإقلاع الحضاري المنشود هو "إعادة الاعتبار للعقل" من خلال مكانته في القرآن. وأن ثاني مدخلات ثقافة الإقلاع هو الأخذ بمفهوم "الاستخلاف"، فما هو الاستخلاف؟

- تعددت نصوص القرآن حول مفهوم الاستخلاف بدءًا من لحظة العرض الإلهي المقدس على الملائكة: "إني جاعل في الأرض خليفة".

- تكرر هذا المفهوم مصحوبا بمفهوم أكثر وضوحا في سياق دلالة العمران والنهوض: "هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"، (هود 61).

- تكرر مفهوم خلائف أربع مرات: الأ نعام 165، يونس 14، 73، فاطر 39. مفرد خليفة في سورة البقرة 30،
وفي سورة ص 26.

 

من خلال النصوص الآنفة نستنتج:
أ- بلغ عدد النصوص ثمانية كما سنوضح لاحقا.
ب- قال فقهاء المقاصد: إذا نص القرآن على شيء أربع مرات فما فوق فإن القرآن يقرر مقصدا قرآنيا.
ج- النصوص الستة الآنفة دلت على عمارة الأرض، والنص في سورة ص دل على الحكم والملك والسياسة.
د- النص التالي: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض"، إلى قوله: "وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا..." إلخ، (النور 55)، هذا النص صريح في الاستخلاف والتمكين والعمران والأمن ودلالته قطعية.
هـ- هناك نصوص أخرى مكملة لدلالة التمكين نصا ومعنى، ومنها: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة"... إلخ.

 

وعليه نقرر ما يلي:
1- مفهوم الاستخلاف مفهوم قرآني مقدس، وسياقاته زاخرة بالدلالات ذات الصلة بالمفاهيم المعاصرة (التنمية الاجتماعية، التنمية السياسية، الوعي المجتمعي، علم الاجتماع أو علم الإناسة والعمران).
2- لسنا بحاجة في هذا المقام لمفاهيم وافدة طالما ولدينا المفهوم الأفضل.

  

مكونات الاستخلاف

هناك مجموعة قيم ومبادئ ومفاهيم إذا التزمها المجتمع يكون قد وضع قدمه على الطريق الصحيح نحو الاستخلاف والتمكين، وصولا إلى ثقافة الإقلاع الحضاري فالنهوض الحضاري.

هذه القيم والمبادئ والمفاهيم هي موضوع الحلقة الرابعة بعونه سبحانه.