الأربعاء 09-10-2024 00:23:10 ص : 6 - ربيع الثاني - 1446 هـ
آخر الاخبار

مقاصد التزكية.. سِلْمٌ شامل وحياة طيبة

الأربعاء 27 مارس - آذار 2024 الساعة 11 مساءً / الإصلاح نت-خاص | عبدالعزيز العسالي

  


التزكية في الإسلام تنوير وتحرير.. ونظرا لسعة الموضوع، فقد عملنا جاهدين على صياغة مقاصد التزكية في مفاهيم كلية واضحة الدلالة والأهداف، متوخّين الإيجاز قدر المستطاع، وذلك تحت المحاور التالية.

مكانة التزكية وأهميتها:

بعد تأمل في مقاصد الوحي وجدنا:

1- أن التزكية احتلت المكانة الثانية بين المقاصد الكلية العليا وهي: التوحيد، التزكية، كرامة الإنسان، عمارة الأرض.

2- أن التزكية متصلة بعقيدة التوحيد - ركني الإيمان بالله واليوم الآخر.. والقرآن زاخر بالنصوص الدالة على الاتصال الوثيق بين التزكية وعقيدة الإيمان.. نكتفي بالنص التالي: "ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في السراء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون".

هذا النص تضمن أكبر عدد من مصادر التزكية وكلها متصلة بعقيدة الإيمان: "ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر"... إلخ.

3- أن القرآن قد نص صراحة أن الاتصال بين الإيمان والتزكية هو مراد الله العليم الحكيم بما يصلح موازين وقيم حياة الفرد والمجموع دنيا وأخرى، قال تعالى: "والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم"... إلخ الآيات (الرعد).

4- أن القرآن قد نص وقرر أن الفصل بين التزكية وعقيدة الإيمان هو سمة المفسدين في الأرض، وعلى الفور رتب عليه عقوبة اللعن في الدنيا والعقوبة الأخروية، قال تعالى: "والذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار" (الرعد).

5- أن التزكية هي الوظيفة الثانية التي أرسل الله بها الرسل عليهم السلام، قال تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم"... إلخ، والنصوص كثيرة.

6- أن مقاصد التزكية احتلت الوظيفة الرابعة من وظائف الرسل عليهم السلام أنها تعليم الحكمة، أي الأهداف والغايات التي جاءت مقاصد الوحي لتحقيقها في حياة المجتمعات.

المحور الثاني، مصادر التزكية:

1- الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: "الذين آمنوا وعملوا الصالحات"... هذان المصدران الكليان للتزكية.

الجدير ذكره أن اقتران الإيمان وعمل الصالحات قد ورد ذكرهما في 60 نصا، بل إن ما يلفت النظر حقا هي الآية 123 من سورة النساء إذ تقدم فيها ذكر عمل الصالحات، لكن على الفور فقد نص على الإيمان الأمر الذي يقرر عدم الانفصال أبدا بين الإيمان والعمل، قال تعالى: "ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه".

2- الشعائر التعبدية، والصيام في مقدمتها، فقد تضمن التزكية، ومقصد التقوى والشكر في آن واحد.

3- القراءتان: الأولى هي قراءة الكتاب المسطور قراءة تدبّر، ذلك أن القرآن قد نص في عدة نصوص أن المقصود من نزول القرآن هو التدبر، قال تعالى: "كتاب أنزلناه إليك مبارك ليتدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب".

القراءة الثانية هي قراءة الكون المنظور.. ولن أكون مبالغا إن قلت إن هذا النوع غائب بنسبة 99%، وأكبر برهان على غياب قراءة الكون المنظور هو الجمود الفقهي والذي نلمسه في حياتنا الثقافية - ضياعا للمنهج وإرهابا فكريا يطال الدعاة إلى المنهج.. غياب المنهج غابت معه الثقافة السننية الناقدة.

4- النظر في خلق الإنسان، وفي التصميم المذهل للكون، قال تعالى: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون"، وقال تعالى: "الذين يتفكرون في خلق السمٰوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار"، وقال: "وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار • أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار" (ص: 27، 28).

المحور الثالث، مقاصد التزكية:

سبق القول إن التزكية احتلت المكانة الثانية بين المقاصد الكلية العليا، هذا من جهة، ومن جهة ثانية أن كلية التزكية متصلة بعمران الأرض ابتداء من إرساء قيم وموازين الحياة وحراستها وترسيخ الوعي بمقاصد التزكية وأثرها الإيجابي على استقرار المجتمع، ذلك أن فقه مقاصد التزكية وتحقيقها يعد من أعظم السنن الحاكمة للحياة.

1- فقه مقاصد التزكية: إن أداء الشعائر التعبدية بلا معرفة المقاصد وتلاوة القرآن بلا تدبر يجعل التدين - التزكية مجرد حركات آلية تنتهي إلى العدمية - انتقام الأفكار.. وتلك سنة الله، فحاشا الله أن يشرع الدين عبثا، أو يخلق الإنسان عبثا، أو يخلق الكون باطلا.

2- الشكر لله = الشكر العملي: إن مقصد الشكر يتحقق من خلال فقه مقاصد التزكية، والناظر في سياق النصوص الآمرة بالشكر يتجلى له هذا المعنى بوضوح أن الشكر لله هو العمل - عمارة الأرض - إنسانيا وحضاريا، كما يتجلى معنى المفهوم القائل: "اقتضاء العلم العمل".. وانظروا هذا النص: "اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور".. واقرأ معي: "يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات".

فهذه الأعمال وغيرها شكر عملي، وكذلك الصيام شكر عملي، والصلاة، والحج، والزكاة، والإنفاق، وصلة الرحم، وتوظيف المال في نشر العلم، والمشافي، والصناعات، واستخراج خيرات الأرض وتوظيفها التوظيف الأمثل، وإقامة الاقتصاد، والسعي لاستقلالية الأمة من التبعية... إلخ.

3- تحرير العقل والروح والفكر: فالمجتمع المتشبع بوعي مقاصد التزكية يتحرر من كل أنواع الخوف إلا من الله، ثم يتخوف من تقصيره في التعاطي مع السنن كونها جزء لا يتجزأ من عقيدة التوحيد.. ومن نافلة القول إن تحقيق هذا المقصد يعتبر أعظم برهان على وعي المجتمع بمقاصد التزكية.

ومن لوازم تحرير العقل والفكر؛ التحرر من الخرافة والظن والجهل والهوى والآبائية، يقابل ذلك التسليم للشرع والمنهج العلمي والتخصص والقيم والمبادئ والشجاعة في الحق.

4- تكوين وبناء شبكة العلاقات الاجتماعية: وهذا يسمى رأس المال الاجتماعي، وهو حصري على المجتمع المسلم الواعي بمقاصد التزكية.

الجدير ذكره أن نصوص القرآن كثيرة جدا حول تكوين هذا المقصد.. أنصح بالعودة إلى الآية 36 من سورة النساء كمثال فقط، وسيجد القارئ أن النص أمر بالإحسان إلى كل شرائح المجتمع، والإحسان متصل بعقيدة التوحيد، قال تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا".. ثم سرد كل شرائح المجتمع آمرا أن يشملها الإحسان - عقديا لا تفضلا.

5- التزام القيم الخلقية وضبط بوصلتها: ذلك أن القيم الخلقية وفقه مقاصدها لدى المجتمع يجعل من القيم آليات ووسائل تحمي المجتمع.. مصالح، وشبكة علاقات، وقوة وحدة المجتمع.

6- التعاون على البر، والتكافل الاجتماعي، والأخوة، والإنفاق.. وقد وردت النصوص آمرة بهذه القيم الخلقية السننية، وفوق ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم علمنا منهج التطبيق بعد الهجرة.. وأنصح القارئ بالعودة إلى أقرب كتاب هو "خلق المسلم" للغزالي، ففيه قرابة 1100 حديث حول القيم الخلقية وأثرها في بناء المجتمع وحماية نسيجه.

7- احترام إنسانية الإنسان أيا كان، بل حماية إنسانيته وكرامته وحريته وحقوقه انطلاقا من تكريم الله لبني آدم مطلقا.

8- القيام بالقسط بين أعضاء المجتمع تجاه بعض، قال تعالى في حق غير المسلمين: "أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين".. كل ذلك وما سيأتي هو سنن وآليات تحمي نسيج المجتمع ونظامه العام والمصالح العامة والقواسم المشتركة.

9- التواضع: أولا، التواضع ملتقى الفضائل. وثانيا، قيمة التواضع تعطي المجتمع وعيا وفقها يحميه من الطبقية المستعلية والتي تقود إلى الانحطاط القيمي المتمثل في البند التالي.

10- تقديس الأشخاص: هذه دلالة على انتقام الأفكار، ذلك أن غياب المبادئ ينتج عنه تقديس الأشخاص، والنتيجة سقوط الأمة في هوة الانحطاط إنسانيا وحضاريا.. تقديس الأشخاص = انزلاق المجتمعات إلى الدمار بكل ما تحمله الكلمة.. الواقع خير برهان.

11- عدم الركون إلى الظلمة، بل ومحاصرة منابع الظلم والطغيان والاستبداد ودكدكة جذوره وتحرير عقل ووجدان المجتمع من أي ثقافة تكرس الطاغوتية أيا كان مصدرها حتى يستقيم فكر وثقافة المجتمع وترسيخ قيم الانتماء للأمة والوطن ومرجعيته الدستورية والقانونية وتعزيز قيم المواطنة المتساوية.

12- الأخذ بالسنن الإلهية في النفس والاجتماع: هذا المقصد متصل بعقيدة التوحيد، ذلك أن الله هو الذي خلق هذه السنن وسخرها لنا وأمرنا أن نؤمن بها نتعلمها ونعمل بها، هذا من جهة.

ومن جهة ثانية أنه لا فرق بين معصية الله - عبادة وتشريعا وبين معصية الله في ترك السنن.

ومن جهة ثالثة، أن غياب فقه السنن السابقة وغيرها قذف بالأمة إلى هوة التخلف السحيق.

وأعظم درس في هذا المقام هو موقف المقاومة في فلسطين، فقد أخذت المقاومة بالسنن كلها بما في ذلك الجهاد الإلكتروني، والنتيجة تحقيق ما عجزت عنه الدول الإسلامية مجتمعة خلال 100 عام.

13- التفاؤل والثقة بالله: التفاؤل والثقة بالله والتجدد كل ذلك مصدره فقه سنن الله وفقه مقاصد التزكية وأبعادها ووعي قانون حركة التاريخ في القرآن وسنن الاجتماع، وهذا ما حصل لدى المقاومة في غزة، فقد جعلت شعارها "دع الألم خلفك وانطلق إلى الأمام".

14- استبصار وعزيمة:
- الاستبصار منهج قرآني أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين".. البصيرة هي استبصار وتخطيط، وهي سنة كونية اجتماعية ينال صاحبها سنة التأييد الإلهي، وهي من مقاصد التزكية المستندة إلى الكلية العليا - التوحيد السببي.

- العزيمة: سنة العزيمة والإصرار على السير، ذلك أن الاستبصار القادم من عقيدة ومن سنن الله يستطيع الإنسان أو المجتمع رؤية الهدف بوضوح، فتتولد لديه روح الانطلاق بإصرار نحو الهدف، وبفضل الحوار والتشاور يستطيع استشراف المستقبل.. تلكم هي باختصار أهم وأبرز مقاصد التزكية.

المحور الرابع، آثار غياب فقه مقاصد التزكية:

1- المعالجات الخاطئة، وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان ولا ينتطح حوله عنزان، والسبب هو غياب الوعي بمقاصد الوحي عموما ومقاصد التزكية وسنن الاجتماع خصوصا.

2- تصرفات مرعبة: وهي تصرفات منتشرة في مجتمعاتنا، وإذا بحثنا عن أسبابها ودوافعها وخلفياتها سنجد أن غياب الوعي بمقاصد التزكية يأتي في مقدمة الأسباب.

كلمات دالّة

#اليمن