الأحد 05-05-2024 22:05:07 م : 26 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

القرآن وثقافة الحياة الأسمى (دراسة سننية) (الحلقة الأولى: المقصد الأسمى للحياة)

الإثنين 14 أغسطس-آب 2023 الساعة 04 مساءً / الإصلاح نت-خاص | عبد العزيز العسالي

 

قبس من الذكر الحكيم:

قال تعالى:
1- "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" (الأنفال).

2- "اهبطوا منها جميعا فإمّا يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى" (طه).

3- "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" (النحل).

4- "إن الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون" (النحل).

5- "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألّا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون" (فصّلت).

تسلسل النصوص الآنفة:

النص الأول حمل دلالة مكثفة في غاية الإيجاز، حسمت النقاش أن من يريد أسمى معاني الحياة فعليه الاستجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم.

ونجد أن النص الثاني قدم ضمانة مفادها أن من اتبع هدى الله فلن يضل ولا يشقى، كما أن النص الثالث قد فسّر مصطلح "الهدى" أنه الإيمان بالله والعمل الصالح، بل وأضاف أن السير على هدى الله هو "الحياة الطيبة" في الدنيا وجزيل الأجر الذي يفوق حُسن أعمالهم الصالحة.

النص الرابع كشف عن مخرجات الحياة الطيبة أنها تتجلى عند الوفاة: "تتوفاهم الملائكة طيبين".. فحياتهم كلها طيبة مطمئنة: "يا أيتها النفس المطمئنة • ارجعي إلى ربك راضية مرضية".. النص الخامس وضع كل الدلالات السابقة في مصطلح جديد مكثف هو الاستقامة.. "ثم استقاموا".. المقصود بالاستقامة الجانب العملي - استقامة السلوك.. المفهوم المعاصر للسلوك هو "الثقافة" بلا نزاع، وعليه نكون قد وصلنا إلى ثلاث خلاصات هي:

الخلاصة الأولى: أن الاستقامة هي المعنى الأسمى للحياة.

الخلاصة الثانية: بما أن استقامة السلوك قد استوعبت مفهوم الثقافة، فهذا يعني مقاصد القرآن - توحيدا، وقيما، وأخلاقا، وسننا، جميعها مصدر بناء الثقافة، ولكن أي ثقافة؟ إنها الثقافة الموجهة الناقدة، الواعية لعبر التاريخ، ومقاصد القيم، ومآلات السنن الإلهية الحاكمة للاجتماع.

الخلاصة الثالثة: نكون قد اقتربنا في هذه الحلقة نحو معالم نظرية الثقافة الإسلامية مستمدين العون من الله في أعمال قادمة نستكمل بها مكونات نظرية الثقافة الإسلامية.

مكونات فقه معنى الحياة:

لست مبالغا إن قلت إن هذا الموضوع في نظري بمثابة قارّة.. نعم، قارة بكل معنى الكلمة، ذلك أن بناء فقه معنى الحياة من زاوية ثقافية أنه في حدود علمي" أرض بكر"، ولهذا السبب كتبت الكثير الكثير، ثم وجدت أن التوسع لن يساعد القارئ، ذلك أن هدفي هو فتح نافذة للقارئ لكي يتمكن من الورود إلى خرائط القرآن ودوائر وأبعاد مقاصده، وعليه تم تقسيم الموضوع إلى المحاور التالية:

المحور الأول، مركزية التوحيد هي الينبوع الأسمى لمعنى الحياة:

الناظر في تعليلات القرآن يجد أن الغاية من خلق الإنسان هي إفراد الله بالعبادة - توحيد الله لا سواه، فهذه الغاية السامية نصوص القرآن زاخرة بها، فالقارئ يقف على مطلع أول سورة في المصحف (الفاتحة)، ويجد ذلك في آخر سورة (الناس).

سائر الرسل جاؤوا إلى أقوامهم بدعوة التوحيد:"يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره".. كل ذلك تفسير للغاية المحورية من الخلق، قال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".. وبما أن مركزية التوحيد هي الغاية الأولى، فإن عمارة الأرض -وفق منهج الله- هي الغاية الثانية، ولأن الإنسان هو ملتقى التكليف عبادة وعمارة، فكانت كرامة الإنسان هي الغاية الثالثة، والغاية الرابعة هي تزكية الإنسان - تعليمه الفقه الأسمى للحياة المتمثل في القراءة باسم الله: "اقرأ باسم ربك الذي خلق".

مطلوب منك أيها الإنسان قراءتين - اقرأ الكتاب المسطور واقرأ الكتاب المنظور - سنن الله في الكون، ذلك أن قراءة سنن الله هي ضوابط معرفية تساعد على تنزيل النص بما لا يتصادم مع سنن الله، فالوحي شرع الله والكون قائم على سنن الله الثابتة المضطردة التي اقتضتها حكمة الله وقضاؤه الكوني، الأمر الذي يعني أنه لا تناقض بين شرع الله وسنن الله.

وبما أن سنن الله في النفس والاجتماع والآفاق تتجدد زمانا ومكانا، فإن فقه المعنى الأسمى للحياة يجب أن يواكب سنن الله لكي يتمكن من وضع تدابير تنسجم مع المتغيرات وتحقق مصلحة الإنسانية، وبهذا يتحقق المعنى الأسمى للحياة وتتحقق الاستجابة لله وللرسول: "إذا دعاكم لما يحييكم".. حياة طيبة للفرد والمجموع.

المحور الثاني، الخلل المنهجي:

ذكرنا أعلاه أن الفقه الأسمى للحياة يقوم على قراءة الكتاب المسطور والكون المنظور. وعليه، يمكننا القول إن أمة الإسلام في إهمالها قراءة الكون المسطور يعني أنها تعيش خللا منهجيا، الأمر الذي جعلها تعيش في أعماق وهاد التخلف المزري. إذن، فما هي معالم الخلل المنهجي؟

يمكننا ذكر أبرز معالم الخلل المنهجي فيما يلي:

- غياب رؤية واقع أمة الإسلام - فقه نقاط القوة، ونقاط الضعف.

- غياب رؤية الواقع العالمي - فقه إستراتيجياته ووسائله.

باختصار، الخلل المنهجي لدى النخبة الإسلامية عموما أنتج جهلا بأصنام طواغيت العصر.. الأصنام الطاغوتية المعاصرة هي موضوع المحور التالي.

المحور الثالث، الأصنام الطاغوتية المعاصرة:

على مستوى الواقع الإسلامي تتمثل الطواغيت المعاصرة في صنم طاغوت الفرد، وصنم طاغوت التاريخ الأسود، فها نحن نجرجر التاريخ بعد 1400عام - تسحق كرامة الإنسان وتستباح أعراض المواطنين وأموالهم ويتم تهجيرهم من منازلهم، بل وتتم ملاحقتهم إلى مخيمات نزوحهم بصواريخ محرمة دوليا، واعتقال وممارسة التعذيب بأنواعه واختطاف النساء وحصار الملايين داخل المدن وتدمير مقدرات أوطان والعبث بها، كل ذلك تحت دعاوى فارغة بالحق الإلهي، وتكريس السلالية العنصرية، ومصادرة الإجماع الشعبي، إلى غير ذلك من الإفساد المهلك للحرث والنسل.

وهناك صنم طاغوت الاستهلاك، فهذا الصنم أصبح مقدسا بصورة أو بأخرى لأجل المفاخرة، يليه صنم طاغوت التكديس.

فالصنميات الطاغوتية الآنفة هي وليد طبيعي لغياب الثقافة الموجهة والتعليم الفاشل والتدين المنحصر في زاوية الشعائر التعبدية وإغفال تعاليم الإسلام الهادفة إلى بناء الأمة، والسبب هو الجهل المطبق والثقافة الضامرة إزاء مفهوم الكفر بالطاغوت، فهذا المصطلح المكمل للتوحيد فلا تقبل كلمة التوحيد من دونه، والقرآن المكي والمدني مليء بالنصوص حول الكفر بالطاغوت، ناهيك عن طواغيت الجهوية والمناطقية والحزبية وطاغوت إشكالية الأنانية. والمقصود بإشكالية أنها عويصة الحل لأنها تلحق بطاغوت الفردية المستبدة الضاربة الأطناب في أعماق مسارب اللاوعي الثقافي لدى النخبة والمجتمع.

أما الطواغيت العالمية فيمكننا إجمالها بطاغوت الرأسمالية المتغولة وطاغوت حيازة الربح السريع والأكثر مردودا، وطاغوت الإنتاج لأجل الاستهلاك بعدما كان الإنتاج لأجل الاكتفاء، وكذاك طاغوت احتكار المعلومة وتقديم أسوأ أنواع التعليم للمبتعثين إلى الدول الكبرى، وهذا بشهادة كبار العلمانيين الذين كانوا ولا زالوا يمثلون داخل بلاد المسلمين ملحقيات للاستشراق والعلمانية الملحدة.

كذلك صنم طاغوت تلويث القيم وإفسادها - الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة.. هذه قيم إنسانية جميلة لكنها تحولت إلى تكريس "الشذوذ" جراء الحقد على إنسانية الإنسان.. إفساد يفرض على المجتمعات وطاغوت الإعلام يروج لكل الأصنام الطاغوتية الآنفة وغيرها.

الخلاصة، الخلل المنهجي بالواقع الإسلامي المعيش والواقع العالمي يستدعي نهضة فكرية وبناء نخبة فكرية يتصدرها شخصية الفيلسوف الفقيه المنطلق من مصادرنا المعرفية المعصومة وقيمنا الفكرية والثقافية والمنفتح على العالم من حوله، الصانع للفكر والثقافة الموجهة ورسم وتخطيط أولويات مشروع بناء الأمة.

أكتفي بهذا القدر على أمل اللقاء بعونه سبحانه مع الحلقة الثانية.

كلمات دالّة

#اليمن