الثلاثاء 30-04-2024 03:56:04 ص : 21 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

النظرية السياسية في الإسلام.. أسس، قيم، غايات، ضمانات (دراسة مقاصدية) (الحلقة الأولى: المقدمة، الأسس)

الأربعاء 14 يونيو-حزيران 2023 الساعة 07 مساءً / الإصلاح نت – خاص / عبد العزيز العسالي
 


المقدمة:

مفهوم النظرية السياسية

مفهوم النظرية السياسية اتسع إلى حد كبير عند المتخصصين في السياسة وعند فلاسفة الاجتماع وغيرهم. غير أننا سنقتصر على مفهوم النظرية السياسية لدى ثلاث دول معاصرة وهي: أمريكا، بريطانيا، فرنسا.

فإذا سألت متخصصا في واحدة من هذه الدول: ما هي النظرية السياسية في دولتكم؟ سيكون جواب الأمريكي: نظريتنا السياسية هي "الدستور"، وجواب البريطاني: نظريتنا السياسية هي "مجلس العموم"، وجواب الفرنسي: نظريتنا السياسية هي" الشعب".

نلاحظ أن النظرية السياسية في أمريكا قد تمثلت عند الأمريكي في كلمة واحدة هي "الدستور"، وعند الفرنسي أيضا في كلمة واحدة هي "الشعب"، وعند البريطاني في كلمتين هما "مجلس العموم".
الملاحظ هنا أن مصطلح نظرية إمّا كلمة واحدة أو كلمتان، وهو الأفضل في المناهج الفلسفية.

مصادر النظرية السياسية في الإسلام:

1- القرآن المجيد.
2- مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم - سيرته العملية العطرة.

الهدف من تحديد المصادر

- الإثبات أننا لم ولن نخرج عن المصادر المعصومة - كتابا وسنة.
- نسف دعوى الحق الإلهي في الحكم لدى السلالية العنصرية الانقلابية.
-الإثبات المنهجي الصارم أن مصادرنا التشريعية المعصومة لا تختلف، ولا تتناقض، وإنما تدحض الدعاوى الوقحة المفترية على الله بالدليل الصريح القاطع: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" (النساء، 82).
- الإثبات المنهجي أن النظرية السياسية في الإسلام تكتنز فيها قيم إنسانية وحضارية تتقاصر دونها سائر النظريات.

غايات النظرية السياسية

إذا نظرنا إلى مقاصد القرآن المجيد نجد ما يلي:

- أن القرآن قد ربط كل تشريعاته - الكلية والجزئية بمقاصد وغايات.

- أن غايات القرآن هي تكريم الإنسان، وبناء الإنسان، وحماية الإنسان، لكي يتمكن الإنسان من القيام بغايتي: عبادة الله، وعمران الأرض لإسعاد الإنسان - الفرد والمجموع، إرساء للعدل وتحقيقا لمصلحة الإنسان في الدارين.

- الدولة وسيلة لتحقيق غاية: النظرية السياسية الإسلامية رسمت حدود وظيفة الدولة بأنها وسيلة لتحقيق غاية وذلك على النحو التالي:

1- قيام الدولة ضرورة دنيوية اجتماعية، لا علاقة لها بالحق الإلهي لا من قريب ولا من بعيد.

2- الدولة يختارها المجتمع وكيلة عنه للقيام بخدمته.

3- للوكيل الحق في تحديد المدة الزمنية للوكالة وفقا للأفق الثقافي الذي يعيشه المجتمع زمانا، ومكانا، تحقيقا لصور العدل في العرف المتجدد وتنفيذا لتعاليم القرآن القائل: "وأمر بالعرف".. وبما أن وظيفة الدولة ونظام الحكم هي خدمة الإنسان، فإن النظرية السياسية هي قواعد مكتوبة تتضمن آليات ذهنية وعملية تنظم العلاقة بين أجهزة الدولة والمجتمع، انطلاقا من قيم المجتمع.

4- النظرية السياسية الإسلامية هي وسيلة لتحقيق المنهج المقاصدي الذي جاء لإرساء كرامة الإنسان وحماية حريته - دينا، ونفسا، وعرضا، وعقلا، ومالا.

5- أي دعوى تمس كرامة الإنسان... إلخ، فإنها مصادمة للمنهج المقاصدي، وبالتالي فهي غير مقبولة انطلاقا من القاعدة المقاصدية المتفق عليها عند جمهور فقهاء الأصول، وهذا نصها: "كل تصرف تقاصر عن أداء المقصود فهو باطل".

نعم، كل تصرف لا يحقق المقصد القطعي فهو باطل. إذن، فما القول بمن جاء بدعاوى، فعلا أو وقولا، تؤدي إلى هدم المقصد الشرعي القطعي؟

سيتم تقديم المزيد من مميزات وخصائص النظرية السياسية في الحلقات القادمة.

ننتقل إلى النظرية السياسية، وقد قسمتها إلى المجالات التالية:

أولا، الأسس الفكرية:

النظرية السياسية الإسلامية هي منظومه متكاملة من النظريات كلها تنبثق عن الأساس الفكري المتمثل في عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر. وإليكم التفصيل على النحو التالي:

مقاصد الخلق:

1- دلت نصوص القرآن الصريحة القاطعة أن مقاصد الخلق تتمثل في:
- عبادة الله وتوحيده.
- كرامة الإنسان.
- تزكية الإنسان.
- عمارة الأرض.

2- يجوز إطلاق مصطلح الغايات أو مصطلح الكليات العليا على مقاصد الخلق الآنفة الذكر.

3- أدلة مقاصد الخلق: قال تعالى:
- "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" (الذاريات).

- "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" (الإسراء).

- "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم..." (الجمعة).

- "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة...".

- "أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" (يونس).

4- نصوص القرآن جلها تدور في ميدان تكريم الإنسان، والعناية ببنائه - تزكية، وتوجيها، ومصلحة، وحماية.

ثانيا، الأسس الثقافية - الكفر بالطاغوت:

1- الكفر بالطاغوت هو الوجه الآخر لعقيدة التوحيد.

2- لا تستقيم عقيدة التوحيد، بل ولا يستقيم إخلاص العبودية لله عز وجل إلّا بالكفر بالطاغوت.

3- لم ولن تستقيم عقيدة توحيد الله إلّا بهدم الصنمية الثقافية من الفكر والنفوس والعقول والوجدان والضمير والسلوك الثقافي العملي.

4- الكفر بالطاغوت محور التحرر الثقافي.

5- الكفر بالطاغوت الطريق الأمثل إلى التزكية الدينية الصحيحة، كيف لا، والله يقول لنا: "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها".

6- التزكية شملت الإنسان - فكريا، وجدانيا، وعقليا، ولسانا، وضميرا، وعينا، ويدا، وقدما، بل وخواطر. تأمل معي في النصوص التالية:

- "إن كل نفس لما عليها حافظ".

- "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".

- "ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد".

- "وإن عليكم لحافظين • كراما كاتبين".

- "إنه يعلم السر وأخفى".

إذن، فالكفر بالطاغوت هو أول القيم الثقافية، ذلك أن عقيدة التوحيد هي منبع كرامة الإنسان.

إذن، فالكفر بالطاغوت حلقة الوصل الوثقى بين التوحيد وبين التحرر الثقافي من كل الطواغيت بدءا من شهوات النفس وأهوائها وانتهاء بالطواغيت الأرضية المتربصة بالإنسان والساعية إلى استحماره بأي صورة من صور الاستحمار.

7- الكفر بالطاغوت يعني غرس ثقافة الممانعة لدى الإنسان عموما، مسلم وغير مسلم، حتى لا تطاله يد الطاغوت تحت أي شعار.

8- الكفر بالطاغوت يعني الرفض الديني المطلق لـ"شريحة" الملأ التي تحكمت برقاب المجتمعات عبر تاريخ الرسالات السماوية، فلا تكاد تجد رسولا إلّا وتجد "الملأ" شلة الطاغوت والطغيان المترفين واقفة في وجه العدل والقيام بالقسط الهادف إلى تحرير المجتمعات.

9- الكفر بالطاغوت يعني رفض الظلم والطغيان والاستبداد وحكم المفسدين ورفض التسلط بأنواعه ومصدره - الفرد، أو القبيلة، أو العشيرة، أو الحزب، أو السلالية، أو العنصرية، أو الجماعة الحزبية، أو البرلمان الذي يختطف حق الأمة في مناقشة القرارات التنفيذية الإستراتيجية المصيرية.

الكفر بالطاغوت يعني رفض الكهنوتية ورفض كل ما يذل النفوس أو يمس عزتها أو يوطئ الأكناف للقبول بالظلم والاستبداد تحت أي دعوى وإن تلبست لباس الدين، ذلك أنها دعوات تصادم عقيدة التوحيد.
الكفر بالطاغوت يعني رفض الفوضى والتسيب والخراب والإفساد وكراهية النظام، وإيجاد الإنسان الملتزم بالنظام والإعمار والكاره للفوضى والتخريب والفساد والإفساد.

الكفر بالطاغوت يعني محاصرة الطغيان والاستبداد بكل الآليات والوسائل الذهنية والعملية النافعة كانت موروثة أو جديدة تنفيذا لتوجيهات القرآن: "وأمر بالعرف".. أي العرف الفطري الذي تتقبله العقول والضمائر الحية التي تأبى الضيم كما وصفهم القرآن المجيد أنهم "أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض".

الخلاصة:*
الكفر بالطاغوت هو الوجه الآخر لعقيدة التوحيد وهو الكفيل ببناء الإنسان فردا ومجموعا، تنفيذا للتزكية الثقافية ومقاصدها ذات الأهداف الواضحة غاية الوضوح.

تلكم هي إلماحة سريعة حول أسس النظرية السياسية في الإسلام، وهناك أسس أخرى سنتحدث عنها في الحلقات القادمة.

نلتقي بعون الله..
.........................

* تعمدنا تأخير الإفصاح عن مصطلح النظرية السياسية لاعتبارات فكرية وفنية.

كلمات دالّة

#اليمن