الثلاثاء 30-04-2024 03:36:34 ص : 21 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

الحاكمية وتجلياتها في معطيات القرآن الكريم

الأحد 15 مايو 2022 الساعة 05 مساءً / الإصلاح نت - خاص | عبد العزيز العسالي
 

 


مدخل:
الصراع الفكري بين دعاة العلمانية ودعاة الحاكمية طيلة سبعة عقود ونصف تقريبا، اتسعت التصورات والاستدلالات، فاستندت العلمانية إلى الكهنوت الكنسي المتغول.

وبالمقابل استدعى الإسلاميون النصوص الدينية وأنها كلمة الله الفصل، ولا نقاش أبدا مع العلمانيين حول الحاكمية الإلهية التي شرعها الله في عليائه، فهو صاحب الخلق والأمر أي التشريع لا سواه.

باختصار، اتسعت أبعاد الموضوع جدا، ولكن تفاديا للإطالة وسعيا للوصول بالقارئ إلى الفائدة المنشودة في هذا الموضوع المحوري المركزي عقيدة وتشريعا وثقافة وهوية وحضارة، عملنا على لملمة الموضوع وتقديمه بإيجاز مدعوما بأدلة القرآن (كتاب الرسالة الخاتمة)، كون القرآن قدّم في مجال الحاكمية معطيات في غاية القوة والوضوح.

وتقريبا للفكرة نقول:

أولا، تحرير محل النزاع:

المقصود بمفهوم الحاكمية يعني التمسك بمرجعية الشريعة الإسلامية عقيدة وقيما وشريعة، ذلك أن الشريعة جاءت لتلبية مصالح الإنسان دنيا وآخرة.

وعليه، فهذا المفهوم هو الحاضر في الذهنية الإسلامية عبر التاريخ الإسلامي ولا يختلف عليه اثنان.

ثانيا، مرجعية الشريعة:

1- أدلة البعد المصدري الواحد:
دلت نصوص القرآن بوضوح وبما لا يدع مجالا للشك أن مصدر الخلق والتشريع واحد هو الله، لأنه العليم بما خلق، والعليم بما يصلح الإنسان وما يفسده دنيا وأخرى، والنصوص في هذا الصدد كثيرة منها:
- "ألا له الخلق والأمر".
- "إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه".
- "قل أأنتم أعلم أم الله".
- "لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا".
- "ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا".
- "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".
- "قل أمر ربي بالقسط".
- "إن الله يأمر بالعدل".

إذن، تلك طائفة من الأدلة التي جعلت حاكمية الشريعة بمعنى المرجعية.

2- دليل المنطق العقلي:
ولله المثل الأعلى.. إن الشركة التي تصنع آلة معينه تنزلها إلى السوق وبصحبتها كتالوج إرشادي يوضح كيفية التعامل مع تلك الآلة كي يتم استخدامها بالطريقة الصحيحة، وبدون ذلك الكتالوج والمهندس فالآلة ستكون عرضة للفساد، وهذا الاستدلال العقلي محل تسليم.

ثالثا، صور دلالات الحاكمية:
تعددت وتنوعت صور ودلالات الحاكمية في معطيات القرآن، وأخذت أبعادا مختلفة.

كاتب هذه السطور يرى أن بعض تلك الأبعاد، والتي سنوضحها لاحقا، قد حصل لبس في فهم الاستدلال بها، إضافة إلى السياق الثقافي المفعم بالصراع الأيديولوجي الوافد المشحون بمضامين وقيم نشأة الثقافة الوافدة، والتي استفزت المجتمع المسلم ممثلا بتيار الحاكمية، كما أنها أحدثت ردة فعل لدى دعاة الحاكمية تمثلت في تغذية ذلك اللبس، وقد يكون اللبس مقصودا والعكس، ولا غرابة فتلك طبيعة الصراع الفكري غالبا.

صور الحاكمية وأبعادها:

البعد الأول: المعجزات الحسية

هذا البعد صاحب غالبية الرسالات السماوية عبر التاريخ، ذلك أن الأمم كانت تطالب الرسل بإثبات مصداقيتهم أنهم رسل من عند الله.

وبطبيعة الحال، يتجه الرسل إلى الله الذي أرسلهم ليحكم بينهم وبين قومهم الجاحدين والمعاندين، ذلك أن الأنبياء لا يملكون التصرف، فالأمر والحكم لله الذي هو المالك المتصرف.

وعليه، نجد أن بُعد الحاكمية أخذ صورتين هما: المعجزات الحسية، والعقوبات والهلاك للمكذبين، هذا من جهة.

ومن جهة ثانية، تلك العقوبات كانت نتيجة لجحود تلك المجتمعات التي رأت حاكمية الله المتمثلة في آياته الإعجازية الحسية: غرق قوم نوح، ناقة صالح تغطي المدينة بالحليب ومع ذلك عقروها، قذف إبراهيم في النار.. هذه نماذج واضحة.
ذلكم هو البعد الأول للحاكمية.

البعد الثاني: آيات حسية متعددة

هذا البُعد تعددت صوره وأنواعه.. رسالة موسى نموذج بارز، منها: العصا.. اليد، يد موسى تخرج بيضاء من غير سوء.. الطوفان أي أمطار وأعاصير.. الجراد أي القمّل أو جراد لا ريش لها.. الضفادع أي السحاب تمطر ضفادع.. السِّنين أي شدة القحط.. الدم أي تحول مياه الآبار إلى دماء.. نقص في الثمار أي شدة جوع.. تلك صور للحاكمية تؤيد موسى عليه السلام.

البعد الثالث، حلول قضايا:

1- قصة ذبح البقرة: كان الهدف منها هو إحياء القتيل ليحدد من الذي قتله.

2- سقيا القوم: استبد العطش بقوم موسى فدعا الله فقال له: "اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا".. هذه الصورة رافقها تهديد بعقوبة - حاكمية إلهية تعاقب قوما غلف القلوب بسبب كفرهم.

3- رفع جبل الطور:
"وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم".. ومع ذلك قالوا: "سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل".

4- حاكمية التأديب بالصاعقة:
"وإذ قلتم يا موسى أرنا الله جهرة فأخذتكم الصاعقة".. وأعادهم الله إلى الحياة بدعاء موسى وهذا الدعاء أيضا هو صورة من صور الحاكمية.

5- انفلاق البحر وإهلاك فرعون: كانت هذه الحاكمية إنقاذا لموقف بني إسرائيل الذين لاحقهم الطغيان وكاد الطغاة يدركونهم (يحيطون بهم)، فقال موسى: "كلا إن معي ربي سيهدين".. فكلام موسى يدل أن أمر الله له بضرب البحر كان مفاجأة له بتلك الصورة الحاكمية الإلهية.

البعد الرابع:
1- حاكمية ينفذها الأنبياء:
"يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس ولا تتبع الهوى".


2- اختيار الملك للحكم:
"ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"... إلخ.

جاء الجواب من الله بلسان نبيهم: "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا".

3- آية ملك طالوت:
التابوت ينزل من السماء "فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى".

وهنا نحن أمام دلالات حاكمية لا مجال للتفصيل فيها، هذا من جهة، ومن جهة ثانية إذا تأملنا حكم داود وسليمان واختيار طالوت وحاكمية الله المتمثلة في التابوت، نجد أن الحاكمية الإلهية انتقلت بتحريك النظر العقلي بأدنى درجات النظر - الحكم بلسان النبي أولا واختيار طالوت ملكا بلا نبوة.

البعد الخامس: الخلق المباشر وإحياء الموتى

هذه صورة للحاكمية في عهد عيسى فهو يخلق من الطين طيرا وإحياء الموتى وعلاج الأمراض المستعصية - من ولد أعمى، وإبراء الأبرص.

إرهاصات لافتة للنظر:
1- انقطاع إرث النبوة:
معلوم أن وراثة النبوة كانت حاضرة بقوة عبر التاريخ البشري - إسماعيل وإسحاق يرثان النبوة من أبيهم إبراهيم، ويعقوب يرث إسحاق، ويوسف يرث يعقوب، وسليمان يرث داود... إلخ.

2- زكريا يطلب الولد:
طلب زكريا الولد وهو في سن لا مجال للإنجاب فيه فجاء ميلاد يحيى بن زكريا يحمل دلالة بارزة من زاويتين:
1- زاوية انقطاع إرث النبوة.
2- تأكيد ذلك الانقطاع بأن يحيى حصورا لن يتزوج ولن ينجب هكذا حاكمية ذات أبعاد لافتة، فسبحان الحكيم العليم.

3- ميلاد عيسى:
ميلاد عيسى من دون أب يؤكد انقطاع إرث النبوة وأن الأمة مهيأة لمستوى آخر من الحاكمية.

الحاكمية في الرسالة الخاتمة:
1- وظيفة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم تعليم الحكمة.
2- قضت المشيئة العليا بموت أولاد الرسول الخاتم -دليل حاسم- لا جدال فيه على انقطاع النبوة.

أبعاد ودلالات الحاكمية في الرسالة الخاتمة:
1- مرجعية الحاكمية الإلهية ولكن بفهم بشري.
2- خاتمية الرسالة يعني رفضا قاطعا لكهنوت الأحبار والقسيسين والرهبان.

3- خاتمية الرسالة تعني أن العقل البشري أصبح مهيأً للفهم والتعقل والتفكير والنظر.

4- خاتمية الرسالة تعني خلودها.

5- خلود الرسالة يعني التجدد.

6- التجدد يعني أن الإعجاز الأكبر في الرسالة الخاتمة هو منظومة القيم الكونية والتزكية الخلقية والسنن الكونية كلها هي المعجزات الخالدة للرسالة الخاتمة، إنها القيم الصالحة لكل زمان ومكان، وأن الإعجاز الحرفي والبلاغي هو خاص بأهل البيان العربي أو من تعلمه وأتقنه.

باختصار، انقطاع النبوة يعني امتلاك الأمة لأمر اختيار حكامها (شورى)، وأنه لا وصاية على العقل البشري، وأن التدبر في القرآن مفتوح للجميع، وأن على الأمة تحويل منظومة القيم إلى آليات تحصن الشعوب وتحمي كرامة الإنسان وحقوقه ورفاهه.. آليات تحاصر الطغيان أيا كان نوعه ومصدره وتحت أي مسمى.

كلمات دالّة

#اليمن