أولا، الوحدانية لله والتعدد لما دونه:
قال تعالى: "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم" (محمد، 19).

وقال تعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلّا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" (الأنبياء، 25).

وقال تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك"... إلخ. (هود، 118-119).

ثانيا، دلالات القرآن:
- القرآن العظيم زاخر بالنصوص الصريحة، والدلالات والمفاهيم، والإشارات الدّالّة على التعددية في إطار الوحدة.

- السنة النبوية العملية تضمنت بيانا نبويا عمليا في ترسيخ مبدأ التعددية تنفيذا للوظيفة النبوية: "ويعلمهم الكتاب والحكمة".. وتشريعا نبويا عمليا يعطينا دلالات أبرزها:
- وجوب الإيمان بالسنن الكونية، كونها متصلة اتصالا وثيقا بركني الإيمان بالله واليوم الآخر.
- التعددية أمر الله.
- أمر الله يعني وجوب التعاطي مع السنن الكونية عموما ومنها سنة التعددية.
- السنة النبوية العملية تؤكد وجوب التعاطي مع السنن الكونية عموما ومنها سنة التعددية في إطار الوحدة.

سنعود إلى البيان النبوي العملي لاحقا.

ثالثا، نصوص القرآن.. الدلالات والمفاهيم:
1- قررت نصوص القرآن وحدانية الله سبحانه وتعالى: "فاعلم أنه لا إله إلا الله".. فهو الإله الواحد الذي تفرد بالوحدانية المطلقة له سبحانه وحده دون سواه.

2- قررت نصوص القرآن التعددية لكل ما هو تحت عرش الرحمن: "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم".. خلقهم للاختلاف، وذلك مقتضى حكمته لتقرير الابتلاء: "ليبلوكم أيكم أحسن عملا".

3- قررت نصوص القرآن التعددية في إطار الوحدة، وهذا سنوضحه في الفقرة التالية.

4- قررت نصوص القرآن أن المقصود بالتعددية هو تعددية التنوّع والتميّز والخصوصية.

رابعا، مقاصد التعددية:
1- التعارف: اقتضت حكمة الله في التعددية أمورا كثيرة منها التعارف، قال تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".. فالحكمة العظمى من التعددية هي "التعارف".

2- التعارف مبدأ عظيم وواسع جدا تتراكم فيه مفاهيم ودلالات وقيم وسنن كونية واجتماعية يجب على المؤمن بالإسلام وغير المؤمن أن يلتزم بها، أبرز هذه القيم وأهمها: التسامح، التعايش، القبول بالآخر.

3- نعمة التكامل:
- اقتضت حكمة الله أن يعيش الخلق في ظل التعددية، حيث أنزل لهم نصوصا هادية تبين لهم أهمية السنن الكونية وحكمتها ومقاصدها والمتمثلة في:
- تكامل المنفعة، لأن حكمة الله قسّمت القدرات والخصوصيات، فكل ميسر لما خُلِق له.. "ليتخذ بعضهم بعضا سخريا" (الزخرف، 32).

- لنا أن نتساءل: ماذا لو خلق الله البشر بعقلية واحدة - طبيب مثلا، أو فيلسوف، أو فيزيائي، أو مهندس... إلخ، فهل ستقوم حضارات؟ هل ستصل المجتمعات إلى ما هي عليه الآن من خدمات ورفاه؟

4- التعددية من آيات الله، قال تعالى: "ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم".

أخي القارئ، شيء من التأمّل.. "ومن آياته".. الآيات هي المعجزات الدالة على قدرة وعظمة الخالق وحكمته ورحمته، من جهة، كما أنها تعطينا دلالة خالدة أن القرآن وحي الله المعجز.

تلكم هي إشارات سريعة لا غير، والقرآن زاخر بالنصوص.

خامسا، شرعة ومنهاجا:
عرفنا أن التعددية في البشر والكون هي تجليات ونتائج لكلمات الله التامات - خلقا وتقديرا، فماذا عن التشريع؟

1- له الخلق والأمر، والمقصود بالأمر هو التشريع المتمثل في النصوص الهادية للإنسان المنسجمة مع التعددية والتنوع والخصوصية الزمانية والمكانية، قال تعالى: "لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجا".

2- قررت النصوص الهادية أن التنازع حاصل وأنه من لوازم التعددية، قال تعالى: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول".. وهنا نجد أنه سبحانه لم يحرم التنازع والتعدد الحاصل في إطار الوحدة المرجعية الكلية - الله، والرسول، العقل المهتدي بحكمة النصوص ومقاصدها.

وهكذا جاء تشريعه وخلقه في ذروة الكمال والتمام والصدق والعدل والرحمة، وصدق الله القائل: "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".. والقائل: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا".. والقائل: "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا".

سادسا، السنة العملية:
1- السنة العملية هي البيان التطبيقي الأمثل لنصوص القرآن الهادية.
2- السنة العملية هي الترجمة المثلى لوظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم التي نص عليها القرآن في نصوص كثيرة، وفي مقدمتها دعاء أبونا الخليل إبراهيم عليه السلام: "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم".. وقال تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة" (سورة الجمعة، 2).

الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أمته الحكمة ومنها فهم نعمة التعددية.

لقد جسدت السنة العملية الطريقة المنهجية العملية - تنزيلا على أرض الواقع نذكر منها ما يتصل بالمقام، فالعلم هو المنهج وليس المعلومات، والمعلم هو الذي يلهم التلميذ ويمكنه من آليات الفهم وهذا هو منهجه صلى الله عليه وسلم.

1- جسدت وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان عملي في غاية الوضوح.

2- جسدت السنة العملية تشريعا منهجيا أرسى قواعد التعددية والتنوع في إطار القيم والمبادئ المشتركة، شهد بذلك أشد الخصوم للرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم.

دستور المدينة نموذجا:

1- من نافلة القول إن بلدة "يثرب" قبل وصول الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة مهاجرين رضي الله عنهم كانت خليطا من بطون مختلفة: أوس، خزرج.. هاتان القبيلتان هما خليط من المسلمين والمشركين.. المهاجرون كانوا أمشاجا من بطون مختلفة، وفيهم مسلمون من غير العرب - بلال، صهيب، خباب، سلمان، عمار بن ياسر، زيد بن حارثة وولده أسامة وغيرهم.

2- التعددية اليهودية: الكتلة اليهودية رغم أنه يجمعها دين وشريعة واحدة - شريعة موسى، لكن بطون اليهود تنازعتها الأهواء فتفرقت وتعددت وكل بطن اختارت لها ثقافة وعرفا خاصا بها، وقبل ذلك تجد كل بطن منها قد تقوقعت في مساكنها داخل أسوار خاصة لها مدخل واحد، الأمر الذي يترجم دعوى التمييز والخصوصية - العرف الثقافي إلى حد التعصب الشديد.

نلاحظ ذلك من خلال نصوص الدستور النبوي الذي احترم التعددية داخل المجتمع المسلم والبطون اليهودية وراعاها وقررها، وهنا نجد القرآن قد فاجأنا من وقت مبكر بمفهوم ثقافي إنساني تعددي حضاري حيث أطلق اسما جديدا على يثرب فسماها "المدينة": "ما كان لأهل المدينة".. "لئن رجعنا إلى المدينة".. فلم هذه التسمية؟ وما هي مكونات مفهوم المدينة؟

ليس أمامنا سوى نصوص الدستور النبوي التي سنذكر بعضا منها في السطور التالية:

1- المهاجرون أمة من المسلمين هم على ربعتهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم.

2- الأوس أمة من المسلمين، على ربعتهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم.

3- الخزرج أمة من المسلمين، على ربعتهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم.

4- بنو عوف أمة من اليهود، على ربعتهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم.

5- بنو الحارث أمة من اليهود... إلخ.

6- بنو جشم أمة من اليهود... إلخ.

7- بلغت بطون اليهود 12 بطنا بنص دستور المدينة.

8- تقرير الأعراف: "وهم على ربعتهم".. هذه الجملة نص عليها الدستور حرفيا عقب ذكر كل بطن من البطون - مهاجرون، أوس، خزرج، يهود.

9- قرر الدستور اعترافه بأعراف كل بطن على حدة ومنها "التعاقل" - الديّات وغيرها.

10- لقد خلعت يثرب لباس ثقافة الجاهلية وأصبح لها اسم حضاري جديد هو "المدينة".. تسمية ذات دلالة قادمة من مكونات التعددية التي أرادها الخالق وارتضاها السكان.

11- قُدّاس النصارى بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.. وصل وفد من نصارى نجران إلى المدينة والتقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وظلوا في مسجده قرابة 17 يوما، وأقاموا قُدّاسهم يومي الأحد واتجهوا بصلواتهم صوب القدس، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يعترض عليهم قط.

- لم يسلم أحد من وفد نصارى نجران. وكان وفد النصارى منقسم إلى فريقين: فريق تثليث، وفريق نسطوري يقول ببشرية عيسى.
- نزل مقطع كامل من سورة آل عمران مطلعه: "إن الله اصطفى آدم"... إلخ قوله: "فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون". وهنا يتضح بكل جلاء طبيعة المنهج القرآني التعددي في قبول التنوع والاعتراف بالآخر المختلف وحقه في اختيار مايشاء وعدم إكراهه على ما لايريد.

الخلاصة، تشريعات الإسلام الخالد قررت نعمة التعددية في إطار الوحدة، وجسدها الرسول صلى الله عليه وسلم في دستور مشرق انتظمت فيه تعددية ثقافية في إطار المبادئ الإنسانية والقيم الكونية المشتركة.

سابعا، عصر الراشدين:
سنذكر بإيجاز شديد موقف الفاروق رضي الله عنه، وسيجد القارئ تجسيدا للروح الثقافية التعددية التي أرساها القرآن العظيم والسنة النبوية العملية.

نصارى نجران في عهد الفاروق رضي الله عنه أرادوا الخروج من نجران، تاركين أرضهم ودورهم، وانقسموا فريقين: فريق لحق بسوريا وفريق لحق بالبصرة.

- كتب الفاروق إلى عامليه أن يعوضوا الفريقين أرضا بحسب وثائقهم، وأن يدعموا كل واحد بمبلغ، وأن يسقطوا عنهم الخراج والجزية مدة عامين حتى يتمكنوا من تنمية وتكوين ثرواتهم، وتم تنفيذ ما قرره الفاروق.

وتعددت مواقف مشابهه من قبل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين.. تلكم لمحات بالغة الإيجاز عن نعمة التعددية في الإسلام.

نقمة التفتيت... كيف؟ ولماذا؟
استمر العطاء الإسلامي بتشريعاته المشرقة فآتى ثماره اليانعة، رغم ما اعتوره من التفتيت السلالي الفارسي باسم الهاشمية تارة والقرشية تارة والبطنين تارة، فكانت نقمة ومحنة أشد وأنكى، فكيف جاءت نقمة التفتيت؟ هذا هو موضوع الحلقة الثالثة.. نلتقي بعونه سبحانه.