الإثنين 06-05-2024 00:16:49 ص : 27 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

بناء الإرادة.. العزيمة والاستبصار (الحلقة 2-3)

الثلاثاء 15 ديسمبر-كانون الأول 2020 الساعة 09 مساءً / الاصلاح نت-خاص-عبد العزيز العسالي

 

 

"العزيمة والاستبصار محور الإرادة والتغيير" (ابن خلدون).

هذه القاعدة الخلدونية تعكس رؤية ناضجة ناتجة عن غربلة نخلت تاريخ الناجحين- فرديا وجماعيا.. لقد درس ابن خلدون أسباب النجاح والفشل،

وأزعم أن ابن خلدون قد حالفه التوفيق إلى حد كبير في صياغة هذا المفهوم صياغة أشبه بالقاعدة الفقهية "الأمور بمقاصدها"، ولا غرابة فابن خلدون فقيه وقاضٍ لامع ومؤرخ بصير، الأمر الذي مكنه من هذه الصياغة الرصينة -عمقا وشمولا في كلمتي العزيمة والاستبصار.

 

فما المقصود بالعزيمة؟

- العزيمة: الركن الأول في نظرية ابن خلدون، والمقصود أنها ثمرة الإرادة والدراسة المستوعبة للسنن والمعوقات والبدائل، حتى يتجلى الهدف بارزا أمام النظر العقلي السنني.

بصيغة أخرى: العزيمة تنبثق من ذهن تشرّب بوعي وإحاطة المقومات الذهنية لبناء الإرادة والسنن العلمية والعملية المتمثلة في الركن الثاني من النظرية الخلدونية وهي الاستبصار.

والمقصود بالاستبصار الجانب السلوكي العملي المستند إلى النظر المنهجي والتجريبي المتوخي وجوه الحكمة وعلاقات التأثير والتأثّر ذات الصلة بالهدف.. استبصارا مرِناً.. ينطلق من التساؤل: لماذا؟

كما أن الاستبصار يعني إعادة الاعتبار للعقل كون العقل هو السنّة الكونية الوجيهه التي منحها الله للإنسان المستخلف لعمارة الأرض.. فالعقل هو القادر على فهم السنن وتوظيفها واستلهام تجارب الماضي وفهم الحاضر، ورسم سناريوهات المستقبل، والعمل الجاد والمثابر في بناء الاتجاهات القيمية - عقديا وفكريا وثقافيا واقتصاديا بل والتنبؤ بالمآلات.

من جهة أخرى نلاحظ الفقيه ابن خلدون قد استند إلى مقاصد القرآن في الآيات التالية: "حتى يغيّروا ما بأنفسهم".

"قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني".

"فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا". أي استقم في نظرك العقلي والتعاطي مع قانون التسخير الكوني.

 "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لاتنصرون".

هذه النصوص حرف ودلالتها وظلالها تلفت العقلاء إلى إعمال العقل المكوّن للعزيمة والاستبصار.

 

مقوّمات التغيير الناجح:

وإذا سلّمنا أن الإرادة متداخلة مع التغيير وغاية التغيير، فإن هذا التداخل يحتّم علينا أن نستجلي بوضوح أبرز المقومات المتداخلة بين الإرادة والتغيير، ليتسنى للقارئ سهولة الفهم وهضم الفكرة.. وهذه المقومات هي:

 

1- صلاح التفكير واتساق الرؤية:

سلامة الرؤية وتكاملها وتوازنها يسبقها شرط ضروي هو إصلاح الخارطة الفكرية -حدودها ومعالمها، انطلاقا من منظومة القيم الكونية، وبضرب الأمثلة تتضح الصورة.

النجاح التكتيكي والفشل الإستراتيجي:

لو أن شخصا اشترى سيارة عادية من نوع تويوتا - جابان أو هيلوكس.. ثم عمل على تطوير المحرك ومسرّع الحركة، ووسع صندوقه.. ووضع لها إطارات كبيرة تتناسب وحجم الحمولة.. فهذا نجاح تكتيكي باهر.. لكن هذا الشخص انطلق بسيارته تلك في طريق وعر.. ومنزلق.. فانزلقت في تلك الطريق وتحطمت وقتلته ومن معه وتبعثرت البضائع والممتلكات.. فهل من المنطق العقلي القول بأن ذلك الرجل ناجح إستراتيجيا؟

تعالوا نسقط المثال على الواقع:

أ- نموذج صدام حسين أوجد النجاح التكتيكي- العلم، فعمل على تطوير الطائرة الميج وتطوير صواريخ سكود إلى نوع بعيد المدى.. كما تطور علم الطب وبعض العلوم الأخرى.. لكنه جعل الديكتاتورية وعقلية الإقصاء سيدة الموقف.. فالشعب غير حاضر في ذهنية الفاعل السياسي، فتفجرت المشاكل الإقليمية بدءًا من حرب الخليج الأولى، مرورا بغزو الكويت وانتهاء بحصار شعب العراق،فخلق بيئة طاردة للعقلاء والعلماء وانتهى المشهد بتدمير شعب العلم وضياع مقدرات أمّة ودولة بحجم العراق.

ب- عفاش اقتنص فرصة انهيار السوفييت، فانطلق صوب إعادة الوحدة اليمنية وقبلها استخراج البترول والغاز -خطوات تكتيكية رسمتها خارطة الفيد في ذهنيته.

بالمقابل.. وليستأثر بالكعكة، أنتج دولة فاشلة من خلال حكم القرية والعصبوية والشللية ودعم المليشيات - القاعدة والدولة الإسلامية والمليشيا الحوثية، ودعم الصراعات القبلية، وضرب المقومات الإيجابية للقبيلة، وأهمل تنمية المجتمع، فتجلى الواقع عن أجواء خانقة.. وانتهى النجاح التكتيكي بتسليم الجيش ومقدرات الأمة للمليشيا الانقلابية وتوجيهها لقتل الشعب.

 

ج- القراءة المشوهة للنص:

غياب اتساق الرؤية والتصورات المفاهيمية الخاطئة، والسبب يبدأ من الخطأ في طريقة تكوين التفكير.. تخلّق عنه صورة مشوهة انعكست في قراءة تفتيتية تجزيئية للنص الديني والتاريخي والفلسفي- أي في ظل غياب تام للمنهج، مكتفيا بغلاف ألفاظ.. وشقشقة العبارات البراقة.. والتي هي أقرب إلى الكهنوتية والإرهاب الفكري في إطلاق التهم ضد المخالف.. وفذلكات تلفيقية غريبة تساعد على تدمير وهدم القيم الكونية الكبرى ومقاصد الشرع وكلياته ومبادئه.

 

د- مظاهر الرؤية المشوّهة:

- وصية الغدير.

- البطنين والقول بقرشية الحكم. 

- أحقية الاثنى عشرية بالحكم.

- تحريم الزكاة على الهاشمية السياسية مقابل امتيازها بنهب 20% من مقدرات الأمة.

وهناك أمثلة ليس هذا محلها. 

باختصار: الفشل الإستراتيجي في قراءة النص انتهى بتفتيت القيم الكونية الكبرى المتمثلة في كرامة الإنسان وحقوقه، وهدم كلية العدل والمساواة، ودفن الوسطية وكلية الرحمة، فحضر التطرف والعنف والإرهاب ونسف البيوت وزراعة العبوات.. وغابت القيم الوطنية والمواطنة المتساوية... إلخ.

 

2- وضوح الهدف:

وضوح الهدف هو من مكونات ركن الاستبصار.. وبدون وضوح الهدف فلا تغيير ولا نجاح.

 

3- كتلة مؤمنة بالفكرة:

ضرورة إصلاح المحيط، وغرس الإرادة والعزيمة في عقل ووجدان الكتلة بصورة متدرجة وتقديم قصص النجاح لصناع التغيير، وإشراك الكتلة ومشاورتها في بلورة الأهداف ووسائل تنفيذ مهمة التغيير.

 

4- ترسيخ العيش للمبادئ لا للأشخاص، ولا شك أن واقع الوطن اليمني ضحية الدوران حول الأشخاص.

 

5- المصابرة.. ومغالبة السنن الكونية داخليا وخارجيا.. ذلك أن عوامل الإخفاق متعددة الجوانب.

 

6- فهم الواقع وعدم القفز عليه، ذلك أنه يجب على المسلم العاقل المتبصر دراسة درجات كل العوامل كي يواجهها بالوجه التعبدي الأمثل والمناسب، وغير هذا فهو الهدر والضياع للجهود وغيرها.

 

7- إشراك التخصصات العلمية:

هذا من أهم عوامل الاستبصار.. والقرآن أطلق على ذوي التخصص مصطلح أولي الأمر.. "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم".

 

8- التربية بالحدث أو بصناعة الحدث:

الحياة موّارة بالأحداث ماضيا وحاضرا ومستقبلا حتى يرث الله الأرض.. والقرآن حافل بالقصص المذيلة بالعبر.. "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب".. وبعد قصة رفض فرعون وهلاكه قال: "إن في ذلك لعبرة لمن يخشى".. وقال: "فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا".. وقال عن فرعون بعد ما استخف عقول الملأ حوله: "فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين".

وعليه، فالتربية بالحدث إما أن تكون بالقصة كما ذكرنا.. وإما بحدث حروب أو كوارث أو أوبئة... إلخ، فالمجتمعات الأوروبية المعاصرة استغلت أحداث الحروب والكوارث والأوبئة وبدأت بالتساؤل: لماذا؟

وكانت دقة السؤال تعني دقة الجواب المنهجي السنني العقلاني الموضوعي - فلسفة وسياسة وتربية واجتماعا واقتصادا وصناعة حتى ترسخت الثقافة العلمية فنهضت أوروبا.

نأتي إلى اصطناع الحدث.. هذا النوع من تربية الإرادة والتغيير كثيرا ما يستخدم في تكوين الجيش والأمن.. وقد امتد هذا النوع من بناء الإرادة والتغيير والنجاح إلى ميدان الطب التطبيقي وميدان الصناعة وقيادة الطيران والمعدات الصناعية، حيث أصبح التدريب المهاراتي هو العمود الفقري في سرعة إنتاج السلع، ذلك لو أن كل الشركات تنتظر الخريجين ذوي التخصص الدقيق سيفوتها الكثير من السيطرة على السوق.. وقس على قولي تكن فقيها.

وقد حملت لنا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه جمع عددا من الرجال الذين لم يسبق لهم المشاركة في المعارك.. فعقد لهم لواء وامّر عليهم قائدا محنكا وأعطاه كتابا مختوما وأمرهم بالانطلاق مع قائدهم إلى مكان كذا على مسافة بعيدة جدا وبعد وصولهم المكان أمر القائد أن يفض الكتاب ويقرؤه على الجند.. وفي سطور الكتاب ما يوحي بأنهم على مقربة من العدو المتربص.. وهنا كان صلى الله عليه وسلم قد وضع الجند أمام الأمر الواقع فتحفزت هممهم وظلوا متأهبين ومبتكرين خططا للدفاع ويتدارسونها مع القائد، فتجسدت فيهم قيم الجندية والثقة بالذات وروح الفريق وهذه من أهم سنن النجاح.. إنها تربية عملية تحفيزية باصطناع الحدث.

 

9- النظر في المآلات:

هذه هي أهم وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تعليم الحكمة.. ومنها النظر في النتائج.. وقصة الحديبية أعظم ملهم في بناء الإرادة، فهو صلى الله عليه وسلم لم ينظر في اعتراض ممثل قريش على محو "بسم الله".. ولا على محو جملة رسول الله..

بل وافق.. بل ووافق على إعادة من يهرب بإسلامه من ظلم مشركي مكة إلى المدينة.

فالرسول صلى الله عليه وسلم ينظر للهدف الإستراتيجي الذي تحقق.. والمتمثل في وجود قوة جيش الرسول صلى الله عليه وسلم الضارب في الجزيرة بعد ما كانت القوة الوحيدة هي قريش.. إضافة أن عشر سنين من الهدنة كفيلة بتقوية جانب الرسول صلى الله عليه وسلم وانتشار دعوته.

إن أعظم فوائد النظر في المآلات يتمثل في كبح العواطف ورفض الاحتفاء اللحظي الإعلامي ومقاومة إغراءات أهواء النفس، ورخاوتها، وهذا طريق العظماء صناع التغيير.. ومن ثم إحلال النظر العقلي المنهجي العلمي السنني الموضوعي.. وهنا يأتي التغيير وبلوغ الأهداف بوعي.

كلمات دالّة

#اليمن