الأحد 05-05-2024 21:56:50 م : 26 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

تعقيدات متناسلة.. لماذا انفصال جنوب اليمن أصعب من استمرار الوحدة؟

السبت 25 يوليو-تموز 2020 الساعة 04 صباحاً / الإصلاح نت - خاص / عبد السلام الغضباني

من حين لآخر، تتصدر قضية انفصال جنوب اليمن واجهة الأحداث، بفعل تصعيد مليشيات انقلابية ضد السلطة الشرعية، ومحاولتها بسط نفوذها على المحافظات الجنوبية والشرقية بقوة السلاح، والتمهيد لانفصال جنوب اليمن، رغم تنامي حالة الرفض الشعبي لذلك، خاصة أن الجهة التي تريد فرض وصايتها على جنوب اليمن وحكمه بقوة السلاح ليس لديها أي رصيد شعبي، بل فإن توجهاتها العنصرية القروية والمناطقية المتطرفة أثارت حفيظة مختلف الفئات في المحافظات الجنوبية، بما في ذلك بعض ممن كانوا يرفعون مطالب الانفصال.

وبقراءة الواقع السياسي والعسكري وأيضا الاجتماعي في شمال الوطن وجنوبه، وطبيعة التدخل الأجنبي في البلاد، وتوازنات القوة العسكرية التي تشكلت على هامش الحرب، أو كانت نتاجا لطول أمدها، بالإضافة إلى التعقيدات القانونية، كل ذلك يجعل من مسألة انفصال جنوب اليمن عن شماله غاية في التعقيد، لدرجة أن الانفصال أصبح أصعب من استمرار الوحدة، بدليل أن الانفصال لم يتحقق رغم أن الوحدة الوطنية في أضعف حالاتها، ومع ذلك ما زالت مستمرة، بينما مطالب الانفصال انكمشت في الأوساط الشعبية، وتحولت إلى مشروع قروي مناطقي عنصري منبوذ، أشبه بمشروع الحوثيين السلالي العنصري.

- المجتمع وثقافته السياسية

ترسخت في اليمن خلال العقود الأخيرة ثقافة سياسية كانت بمثابة الحصاد الأخير للنضال الوطني ضد الاحتلال الأجنبي والظلم والاستبداد المحلي. ورغم هشاشة المجتمع اليمني وهشاشة التحول الديمقراطي الذي جاء ملازما لقيام الوحدة الوطنية عام 1990، إلا أن القوى الحية والفاعلة في البلاد لا يمكنها أن تفرط بالمكتسبات التي تحققت بفضل نضال الأحرار ضد الاحتلال الأجنبي وضد المشاريع الطائفية والسلالية والقبلية والعائلية والقروية مهما كانت التحديات، كما أن المجتمع اليمني بكله لن يسلم مصيره لمستبدين سبق أن لفظ الآباء والأجداد أمثالهم.

أما التنمر الذي يبديه الانقلابيون وأصحاب المشاريع الصغيرة في شمال الوطن وجنوبه، فإن ذلك يعود لإدراكهم بأن الوضع الحالي للبلاد يمثل بالنسبة لهم فرصة تاريخية لا تعوض لمحاولة فرض مشاريعهم، وأنه لا مكان لهم في حال عودة الأوضاع إلى طبيعتها، بل فإنه في حال عودة الأوضاع إلى طبيعتها فإن مكانهم الطبيعي هو المحاكمات أمام محاكم محلية أو دولية بتهمة الانقلاب على السلطة الشرعية وارتكاب جرائم حرب بحق المدنيين، ولذا فإن أصحاب المشاريع الصغيرة يخشون من تحقق المشروع الوطني الكبير الذي سيلفظهم إلى مزبلة التاريخ، ولا بديل أمامهم إلا التنسيق فيما بينهم لعرقلة المشروع الوطني الكبير حتى لا يخسروا مصالحهم الشخصية ويلفظهم الشعب والتاريخ.

وبما أن الوحدة الوطنية والسلطة الشرعية والأحزاب السياسية المتحالفة معها تشكل جميعها الحصن الحصين لبقاء الدولة اليمنية وتحقيق مشروع اليمن الاتحادي الفيدرالي، فإن أصحاب المشاريع الصغيرة وبعض الدول الأجنبية الداعمة لهم يرون في الوحدة اليمنية العقبة الرئيسية لإقامة مشاريعهم الصغيرة. ونظرا لأن الانفصال عملية طويلة ومعقدة، فقد كان لا بد من هندسة الانفصال على مراحل حتى يتحقق، وبالتالي تجد القوى المحلية والأجنبية بغيتها في طمس الدولة اليمنية وهويتها القومية وتحويلها إلى مرتع للنفوذ الأجنبي والمليشيات المسلحة وساحة حرب إقليمية بالوكالة.

- مساعي هندسة الانفصال

بدأت خطة هندسة انفصال جنوب اليمن بتشكيل مليشيات مسلحة انقلابية على السلطة الشرعية ذات توجهات مناطقية وقروية، بالتزامن مع الاغتيالات السياسية التي طالت كل الشخصيات المؤثرة المساندة للوحدة الوطنية في مدينة عدن وغيرها، وشملت الاغتيالات قادة سياسيين وعسكريين وقادة مقاومة شعبية وعلماء دين ودعاة وشخصيات اجتماعية، وتم إنشاء سجون سرية لاعتقال وتعذيب أي مواطن يرفض الانفصال أو يبدي مساندته للسلطة الشرعية، وهكذا مورس الإرهاب بكل بشاعة ضد المخالفين في الرأي وضد كل الفئات الأخرى الرافضة لمشاريع تمزيق البلاد، حتى تخلو الساحة من أي صوت مؤثر مساند للوحدة، لتبدأ بعد ذلك خطة القضم التدريجي للمحافظات الجنوبية، والانفراد بها الواحدة تلو الأخرى، كما فعلت مليشيات الحوثي في خطتها للسيطرة على عدة محافظات.

غير أن ما حدث هو أن مهندسي الانفصال خدموا الوحدة الوطنية من حيث لا يشعرون، ذلك أنه بتصعيدهم لفئة اجتماعية منبوذة سياسيا وشعبيا ولا يتقبلها المجتمع اليمني في جنوب البلاد، بسبب همجيتها وتطرفها القروي والمناطقي، ومحاولة جعل تلك الفئة الوارث المهيمن على الدولة الجنوبية المأمولة، كل ذلك أثار حفيظة مختلف التيارات والقوى السياسية والاجتماعية في جنوب البلاد، بما فيها بعض الفئات التي كانت تطالب بانفصال جنوب اليمن سابقا وتراجعت عن ذلك لاحقا، خشية من سطوة واستبداد من يحاولون أن يورثوا الدولة الجنوبية وتسخيرها لمصالحهم الشخصية، خاصة بعد أن كشفت أحداث أغسطس الماضي حقيقة معدنهم، ورفعت الستار عن الزيف الذي كانوا يحاولون تسويقه للبسطاء.

ومن مظاهر مشروع هندسة الانفصال، المحاولات الحثيثة التي تبذلها بعض الأطراف لإنهاك السلطة الشرعية وإضعافها، وشيطنة الأحزاب السياسية المساندة لها، في محاولة يائسة لتحجيم حضورها الشعبي. وبتعبير أوضح، فإن مهندسي الانفصال يسعون إلى تفكيك وهدم البنى السياسية والاجتماعية والعسكرية التي تشكلت في اليمن بالتدريج منذ عدة عقود، وفي حال تحقق ذلك، فإن التمهيد لمشروع الانفصال سيكون قد قطع شوطا كبيرا بحسب اعتقاد مهندسيه، ولن يتبقى إلا إعلان الانفصال والبحث في التعقيدات القانونية لتحقيقه، فضلا عن محاولة تسوية الوضع في الداخل لتمرير المشروع الطائفي في اليمن بأساليب مختلفة، وهو ما يعني تسليم إيران دولة كاملة في شمال اليمن، ستتحول مستقبلا إلى دولة إيرانية عسكرية خالصة، وستسعى للعمل على تحقيق الطموح الإيراني بالسيطرة على الأراضي المقدسة ومنابع الثروة النفطية، وفي أسوأ الأحول ستظل تشكل تهديدا مزمنا للسعودية لإنهاكها من أجل أن تتراجع مكانتها السياسية والاقتصادية لصالح المشروع الإيراني التخريبي في المنطقة.

- تعقيدات متناسلة

المتأمل في مسيرة مطالب انفصال جنوب اليمن سيجد أنها مرت بتحولات كبيرة كنتيجة طبيعية للسيولة السياسية التي يتسم بها المشهد اليمني، فالحراك الانفصالي الذي بدأ منذ الربع الأول من العام 2007، كان في بدايته حقوقيا بحتا، تمثل بالمطالب التي رفعتها جمعيات المتقاعدين والمقاعدين الجنوبيين من عسكريين ومدنيين بسبب حرب صيف 1994، ثم سرعان ما تحول ذلك الحراك الحقوقي إلى حراك سياسي يطالب بانفصال جنوب اليمن، كرد فعل على أخطاء نظام علي صالح في التعامل مع الحراك منذ بدايته وعدم تلبية مطالب جمعيات المتقاعدين، ثم إن التطورات التالية جعلت مطالب الانفصال تتلاشى، خاصة بعد ظهور فصيل مسلح قروي عنصري يسعى لفرض نفسه بالقوة وإقصاء مختلف المكونات الجنوبية قبل أن ينجح في تحقيق أي خطوات انفصالية عملية.

وبما أن المشهد السياسي اليمني أشبه بالرمال المتحركة، وتتعدد فيه القوى الفاعلة والتوازنات على الأرض، خاصة بعد الانقلاب والحرب، وتدفق المال والسلاح إلى داخل البلاد، ولأن من تصدروا مطالب الانفصال ونصبوا أنفسهم حكاما لدولة الجنوب المأمولة هم فئة مكروهة وتسببوا بإحياء ثارات تاريخية كانعكاس لتطرفهم القروي والمناطقي، فإن ذلك أحيى ثارات تاريخية جنوبية جنوبية، مما جعل مطالب الانفصال تتلاشى، خاصة في ظل وجود مشروع وطني بديل يضمن التوزيع العادل للسلطة والثروة، المتمثل في نظام الحكم الفيدرالي، وطي صفحة المشاريع السلالية والعائلية والقبلية والقروية إلى الأبد.

يضاف إلى ذلك، أن هناك توجها عالميا رافضا للمحاولات الانفصالية في أي مكان في العالم وعدم الاعتراف بها، وهو ما لوحظ قبل سنوات في الموقف الدولي الرافض لانفصال إقليم كردستان في العراق وإقليم كتالونيا في إسبانيا، وكذلك عدم اعتراف المجتمع الدولي بجمهورية أرض الصومال التي أعلنت انفصالها عن الدولة الأم. أما أسباب الرفض فتعود للخشية من انتشار مطالب الانفصال إلى مختلف دول العالم وفقا لأسس طائفية أو عرقية أو دينية وغيرها، فإذا تحقق الانفصال في بلد ما، فإن مطالب الانفصال ستنتشر كالنار في الهشيم، وسيجد العالم نفسه أمام مأزق حقيقي، فثورات الربيع العربي علمت العالم أن أي حدث في مكان ما بالعالم كفيل بإحداث هزة في الكرة الأرضية بفضل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ولذا فإن ظهور مطالب انفصالية ونجاحها في بلد ما، فإن عدوى مطالب الانفصال ستنتشر في العالم، وستتمزق الكثير من الدول.

- الفيدرالية هي الحل

من المؤكد أن الوحدة اليمنية أصبحت اليوم في أسوأ مراحل ضعفها، وعدم تحقق الانفصال في هذه المدة الزمنية يعني أن التعقيدات القانونية والسياسية والاجتماعية التي تعيق الانفصال لا يمكن تجاوزها بسهولة، فتحقيق الانفصال صار أصعب من استمرار الوحدة رغم هشاشتها، كما أنه من الصعب أن تعود الوحدة الوطنية كما كانت، والمشروع الوحيد الذي سيكتب له النجاح هو نظام الأقاليم الفيدرالية، كونه الضامن لاستمرار الوحدة بدون "مركز مقدس"، والضامن للتوزيع العادل للسلطة والثروة، والضامن لعدم ظهور مشاريع سلالية أو عائلية أو قروية أو مناطقية تستأثر بكل شيء في البلاد. وإذا افترضنا أن مشروع الانفصال سيتحقق، فإذا ذلك سيكون بداية لأزمات جديدة، حيث ستظهر مطالب انفصالية في محافظات حضرموت وشبوة والمهرة وسقطرى رفضا لسلطة قروية ومناطقية، وستندلع حروب جديدة وتدخل إقليمي ودولي جديد، وستزداد الأزمة اليمنية تعقيدا أكثر، والمتضرر الرئيسي اليمن وجواره الإقليمي.

كلمات دالّة

#اليمن #عدن