الثلاثاء 07-05-2024 23:20:42 م : 28 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

فقه المقاصد العامة للشريعة الإسلامية.. خلاصات منهجية ونماذج تطبيقية

الإثنين 04 مايو 2020 الساعة 11 مساءً / الإصلاح نت - خاص / عبد العزيز العسالي

 

(الحلقة الثانية: الأسس.. الكليات)

 
أولا: الأسس

المقصود بالأسس هو الأساس المحوري الذي قامت عليه المقاصد ولأجله جاءت الشريعة الإسلامية.

ذكرنا في الحلقة الأولى أن الاتفاق قائم بين الفقهاء بأن الشريعة جاءت لمصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة. 

إذن، أُسُّ المقاصد هو "جلب المصالح ودفع المفاسد"، هذا الأساس له قواعد منظِّمة ومتممة وموضحة، ويطلق عليها فقهاء المقاصد "قواعد المقاصد" وهي نوعان: 

النوع الأول: وهو الأقل لكنه متصل بالأساس المحوري مباشرة، ويمكننا تكييفها بأنها دوائر متداخلة مع الأساس المحوري، وهي:  
- إيجاد المصالح أو تكميلها. 
- دفع المفاسد أو تقليلها. 
- إذا تزاحمت المصالح التمسنا أكملها. 
- إذا تزاحمت المفاسد دفعنا أخطرها. 
- إذا تزاحمت مصلحة ومفسدة نظرنا في المآلات، ثم الترجيح العملي للأقوى إما تقديم المصلحة الراجحة وإما دفع المفسدة الراجحة. 

النوع الثاني: هناك عدد كبير من قواعد المقاصد وهي بمثابة قوانين إجرائية تعطي العقل أفقا نظريا يتمحور تحت مصطلح فقه الموازنات، ونحن سنفصل الحديث عنها في حلقاتنا القادمة بعونه سبحانه. 

ثانيا: الكليات الشرعية

المقصود بالكليات الشرعية لها ثلاثة أبعاد:

البعد الأول: هو التعريف وهذا نصه: 
الكليات الشرعية هي "القواعد الناظمة التي ينضوي تحتها أغلب الأحكام الشرعية".

البعد الثاني: خصائص الكليات الشرعية، والمقصود به:
- أن الكليات الشرعية مهيمنة على النصوص الجزئية.
- أنها حاكمة أبدا.
- أنها لا تقبل النسخ. 
- أنها مرتكزة على عشرات الأدلة الصحيحة والصريحة. 
- وجوب فهم النص الجزئي في ضوء الكليات الشرعية. 
- الكليات الشرعية العمل بها مقدّم على النص الجزئي لأنها الأقوى كونها مكونة من عشرات الأدلة وما كان هذا حاله فهو الأقوى بطبيعة الحال، الفقهاء يسمونها الكليات الشرعية المقاصدية. 

الكليات الشرعية المقاصدية هي: 

1- كلية التوحيد: وهي كلية مركزية وتنبثق عنها سائر الكليات، ذلك أن التوحيد هو عقيدة جميع رسالات الأنبياء. قال تعالى: "وما أرسلنا قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" (الأنبياء: 25).

من نافلة القول إن العقيدة محلها الذهن والوجدان، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن عقيدة التوحيد تتضمن أبعادا إنسانية وحضارية، وهذه الأبعاد هي التجسيد العملي لعقيدة التوحيد ولا قيمة للعقيدة بدون التجسيد العملي إنسانيا وحضاريا.

2- كلية القيام بالقسط: 
قال تعالى: "ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" (الحديد).

إذا تأملنا لام التعليل في قوله: "ليقوم" يعطينا أن القيام بالقسط كلية مقصدية شرعية.. إن إقامة القسط والعدل هو غاية جميع الرسالات السماوية.

أعداء العدل: 

الجدير ذكره أن الأنبياء عبر العصور (عصر ما قبل الدولة وعصر ما بعد الدولة) اصطدموا بشريحة واحدة من الأعداء ذكرها القرآن قرابة 14 مرة، إنها شريحة "الملأ.. المترفين" قبل قيام الدولة، وبعد قيام الدولة انضم إلى الملأ الملوك الطغاة المفسدون (نمرود نموذجا مع الخليل عليه السلام، وفرعون نموذج ثان مع موسى عليه السلام)، وقد وصل فساد الطغيان المتصاهر مع الملأ المترفين حد إهلاك الحرث والنسل. الملأ الإيجابي الذي مدحه القرآن هم ملأ مملكة بلقيس "افتوني في أمري".
 
3- كلية الحرية:

هذه الكلية العظمى منضوية تحت نظرية الإكراه على الدين، فالإكراه على الدين مرفوض في القرآن في سياقات مختلفة ابتداء من عهد نوح
"أنلزمكموها وأنتم لها كارهون".
"لا إكراه في الدين".
"أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين".
"ما أنت عليهم بجبار".
"لست عليهم بمسيطر".
"إما شاكرا وإما كفورا".
"لمن شاء منكم أن يستقيم".
"لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر".
"لو نشاء لنزلنا عليهم آية فظلت أعناقهم لها خاضعين".

كثيرة هي النصوص التي ارتكزت عليها نظرية الإكراه، وبما أن هذه النصوص قد دلت صراحة على رفض الإكراه على الدين، وعلى "حرية الاختيار" للإنسان أن يرسم طريقه باختياره دون إكراه على اعتناق دين معين، فإنه من باب أولى أن الإنسان حر في بقية مجالات الحياة - سياسيا واقتصاديا واجتماعيا... إلخ. 

من ناحية أخرى نجد أن الله كرم الإنسان بحرية الاختيار تمييزا له عن سائر الحيوانات بل والملائكة فهي مُسخّرة بخلاف الإنسان فهو "حر الاختيار". بكلمة، الحرية فطرة الله - غريزة مركوزة في وجدان الإنسان ووعيه وتفكيره، ثم إن الله أنزل تشريعا مقدسا يحمي هذه الكلية المقصدية، وهذا يعني أن حرية الإنسان مقدسة بنص القرآن، وهذه القدسية لا توجد في القوانين الوضعية وإن تبجح واضعوها.

4- كلية المساواة: 

هذه الكلية هي الوجه الآخر للحرية فلا حرية بلا مساواة ولا مساواة بلا حرية.
الدليل على كلية المساواة:
- "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون".

ووجه الدلالة "كلمة سواء"، "ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله".

- توحيد الله تضمن بعدا إنسانيا وحضاريا هو المساواة، لأن العظمة والكبرياء لله، والمساواة لمن هم تحت عرش الرحمن، لقد التقت دلالة البعد الإنساني المنضوية تحت مركزية التوحيد مع دلالة النص الصريح "كلمة سواء"، "ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا"، "خلقناكم من ذكر وأنثى"، "كلكم لآدم".

وهنالك دلالات أخرى كلها تلتقي في تكوين كلية المساواة. وعليه فإن وجدنا نصا جزئيا يتنافى مع كلية الحرية أو المساواة فهو مردود، لأنه ولا شك قادم من مطبخ التسيد الإبليسي "أنا خير منه"، والفرعوني
" أنا ربكم الأعلى".

5- كلية الكرامة: 

"ولقد كرمنا بني آدم". هذا التكريم هو المِلاكُ للجامع لكليتي الحرية والمساواة وسائر الكليات، فالحرية والمساواة هما التجسيد العملي للكرامة الإنسانية، كما أنها تجسيد عملي لأبعاد "كلية التوحيد".

وعليه، فإن المساس بالكرامة أو الحرية أو المساواة يعتبر انتهاكا لمقدس ديني عقدي والمقدس الشرعي القانوني المتمثل في الكليات المقاصدية الضرورية التي جاءت الشريعة لحفظها وحمايتها وهي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال والحرية.

كما أننا إذا تأملنا في العقوبات الواردة في القرآن وصحيح السنة حول كبائر الذنوب سنجد أن الكبائر هي المساس بهذه الضرورات الست وكل ما يتصل بها كما سنوضح ذلك لاحقا. 

هذا التشريع العقابي الرادع تشريع مقدس بلا ريب وهذا أقوى الضمانات الرامية إلى قدسية هذه الضرورات الست وما يتصل بها، ووهي في ذات الوقت تشريع أخلاقي ديني عملي صادر عن التزام ذاتي.
نلتقي بعونه سبحانه مع آفاق المنهج المقاصدي.

كلمات دالّة

#اليمن