الأحد 05-05-2024 17:31:59 م : 26 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

قوانين حركة التاريخ في القرآن الكريم (الحلقة 1-4) قوانين حركة التاريخ.. أدلّتها، مفهومها، أمثلة عليها

الأربعاء 19 أكتوبر-تشرين الأول 2022 الساعة 11 مساءً / الإصلاح نت - خاص | عبد العزيز العسالي
 

تمهيد:

القرآن العظيم وحي الله المقدس المعصوم الخالد، الهادي إلى الطريق الأقوم، الهادي إلى الرشد، حيث رسم منهجا معرفيا من خلال نصوصه الهادية للإنسان تجلت في أسلوب خطابي متعدد الزوايا لكنه متكامل الدلالة، تهفو إليه الروح، يتقبله السمع، وينجذب إليه العقل، يهز الكيان الإنساني، لأنه "كرّم الإنسان" في جمال الصورة، وأعظم تكريم هو العقل إرادة واختيارا، ثم حدد له أن الغاية من الخلق هي عبادة الله، وعمارة للأرض وفق منهج الله المنزل من الخالق الحكيم العليم، حتى لا يتيه ويتخبط.

وقد تجلت معالم المنهج المعرفي في نصوص القرآن الكريم، هادية للعقل وملهمة للفكر فيما يتعلق ببناء الإنسان والعمران.. نصوص تجلت فيها كليات منهجية مجملة من جهة، ونصوص كثيرة في غاية التفصيل من جهة ثانية، ونصوص آمرة تضمنت وجوب الالتزام بتعاليم المنهج والتخلق لافتة للعقل تجاه النتائج والمآلات المتمثلة في مصلحة الإنسان دنيا وآخرة.

وانطلاقا من العنوان أعلاه، سعينا جاهدين من خلال هذه الحلقات، والتي ستكون بمثابة بوصلة يستهدي بها القارئ على "تدبر القرآن" عموما، والتدبر الأمثل لـ"قوانين حركة التاريخ" خصوصا.

وحرصا على تقديم الفائدة إلى القارئ العزيز، فقد بذل الكاتب قصارى جهده في الكشف والتقريب لـ"قوانين حركة التاريخ في القرآن" وصياغتها في محورين هما: المحور المفهومي، والمحور المصطلحي.

أولا، المحور المفهومي:

1- قال علماء البلاغة وفقهاء الأصول إن المفهوم يستخلصه العقل الأصولي من خلال طريقتين:
- الطريقة الأولى منهج الاشتقاق من عبارة النص.
- الطريقة الثانية منهج الاستلهام من سياق النص، أي تركيب عبارات النص، ذلك أن تركيب عبارات النص ينتج عنها دلالة مختلفة قادمة من تركيب المفردات تركيبا منسجما متآلفا، وهذا التركيب المنسجم المتآلف يسمى السياق، ومن السياق تتولد "المفاهيم".

2- ضرب المثال يزيل الإشكال:
- قانون التداول.. قال تعالى: "وتلك الأيام نداولها بين الناس".

إذن، قانون التداول تم اشتقاقه من الفعل "نداولها"، ولهذا قلنا إن أول قوانين حركة التاريخ هو قانون التداول.

2- قانون التدافع.. قال تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض".

هنا نجد مفهوم قانون التدافع مشتق من الفعل "دَفْعُ الله"، وهذا هو القانون الثاني من قوانين حركة التاريخ.

- قانون التناقص.. قال تعالى: "أولم يروا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب".

واضح أن قانون التناقص تم اشتقاقه من الفعل "ننقصها"، وهذا هو القانون الثالث من قوانين حركة التاريخ.

- قانون التغاير.. قال تعالى: "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم".

واضح أن مفهوم قانون التغاير مستلهم من تركيب عبارات السياق، وقد أعطانا السياق دلالة التغاير من جهة، ثم إن التغاير هو أحد معاني الاختلاف من جهة ثانية، والعكس صحيح. وعليه، التغاير هو القانون الرابع من قوانين حركة التاريخ.

ثانيا، المحور المصطلحي:

1- إذا نظرنا بتأمّل في مفردات القرآن العظيم سنجد أن هنالك مفردات تحمل دلالات في غاية الوضوح، الأمر الذي اتفق علماء الأصول على تسميته بـ"مصطلحات القرآن".

2- أمثلة على المصطلح: مصارع الغابرين في القصص القرآني تميّزت بحضور لافت للنظر، حيث أخذت حيزا واسعا - قرابة ثلث القرآن.

3- مقاصد القصص القرآني: بما أن الله قال في القرآن: "وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة من أمرهم".. نجد أنه سبحانه قد اختار مصطلحا خاصا بمقاصد قصص القرآن، اكتنزت فيه دلالات إيمانية، فكرية، عقلية، وإن شئت قل: وعظا وجدانيا عقليا يسوق العقل والتفكير نحو "مصطلح الاعتبار".

قال تعالى:
- "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب".
- "فأخذه الله نكال الآخرة والأولى • إن في ذلك لعبرة لمن يخشى".
- "يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار".

4- مصطلح التذكير ومفهوم الوعي: "لنجعلها لكم تذكرة وتعيَها أذُن واعية".

نص السياق القرآني الآنف على مصطلح صريح هو "التذكير"، كما أنه نص على مفهوم "الوعي"، وهذا يسمى "التراكم الدلالي"، وهو تراكم كثيف يجعل مقاصد القصص القرآني شاخصة حاضرة في الذهن، كونه جمع بين قوتين - دلالة المصطلح "تذكرة" وقوة مفهوم الوعي المشتق من الفعل المضارع "وتعيها" المتعلق بوسيلة "الأُذن"، وهي الوسيلة الأوسع التي يعبر من خلالها القصص، فإذا وعى السمع وعيا جيدا يتولد عنه التذكر العقلي (البصيرة) وصولا إلى مصطلح "الاعتبار".

الجدير ذكره أن الاعتبار يكون غاية، ويكون وسيلة موصلة إلى أول قوانين حركة التاريخ وهو التداول.

الخلاصة:
- إن الثقافة الإسلامية تقول لنا إن قوانين حركة التاريخ بيد الله الذي يقول للشيء كن فيكون.
- الثقافة الإسلامية تجمع بين النظر الحسي - السنن المادية المضطردة، واستحضار القوى الغيبية ذات الفعل المؤثر في تلك السنن.
- الثقافة الإسلامية تجعل العقل المسلم أكثر وعيا، وفهما، وعلما، وتفكيرا، بخلاف الثقافة التي تحاصر النظر العقلي في مجال المادة، ومع ذلك يدعي العقل المادي أنه امتلك قوانين التسخير وأصبحت ملكُه وحيازتُه يتحكم فيها، متبجحا بأنه قهر الطبيعة بل أصبح سيدا لها.

غير أن القلب يموت كمدا وحسرة جراء الشلل الفكري الذي دمّر التفكير المسلم، حتى لجّ في هوةٍ مظلمة وأصبح العاقل يقرأ حال غالبية المسلمين فلا يرى سوى أنه أمام "كائناتٍ دينية" لا غير.

ثالثا، نماذج للثقافة المادية:

1- غباء المستبدين الطغاة: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون".

ترزح عقلية المستبدين تحت وطأة جبال من غباء منقطع النظير، وفي ذات الوقت يدعي المستبد أنه الأذكى وأن سنة الله التي نزلت بفلان كونه غبي أما هو فلن تصل إليه.

القرآن يكشف غباء الطغاة: "كلّا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون".

إنه الرّان.. إنها الغشاوة المتراكمة حتى تتحول "طبعًا" على القلب.

2- غرور الطغيان الإمبراطوري: سقطت كل الإمبراطوريات عبر التاريخ البشري، وإليك أمثلة موجزة:
- هتلر يوم صعد حاكما لألمانيا ودعم التصنيع، مدعيا أن العرقية "الآريّة" الألمانية مختلفة عن سائر البشر وأعلن قائلا بتبجح: سنقيم حضارة لـ300 عام قادمة.

إنها عقلية رازحة تحت وطأة النظرة المادية التي وصلت إلى عبادة العلم.. لا شك أن القارئ يعلم المدة الزمنية التي عاشتها ما سماها أصحابها "الحضارة الهتلرية".

- الطاغية الفاشست موسيليني: عاش منكوس العقل رازحا تحت غرور الطغيان المفسد معلنا التحدي من نافذة القصر أنه بقوة صناعته سيغرز شعار مملكته في أعماق الفضاء، وبعد سنوات قليلة وجد أنه مطارَدٌ من صبيان شعبه وانتهى أمره مشنوقا مصلوبا.

- إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.. إنها بريطانيا يا عقلاء، طالها قانون التداول الرباني: "وتلك الأيام نداولها بين الناس".

أعد النظر أخي القارئ في مفردة "الناس" عموما، لا فرق بين مسلم وغيره.. إنها سنة الله.

إمبراطورية الروم التي امتدت غربا وشرقا لكنها تلاشت.. أين إمبراطورية الأمويين؟ أين إمبراطورية العباسيين الذين خاطب أحدهم السحاب قائلا: سيري حيث شئت وامطري حيث شئت فإن خراجك راجع إليّ؟ أين إمبراطورية العثمانيين؟ أين إمبراطورية الاتحاد السوفيتي التي كانت تتحدى برؤوسها النووية الكفيلة بحرق الكرة الأرضية خمس مرات؟

يا ترى هل خطر ببال أحد قادة السوفييت أنه ستأتي لحظات يعيش فيها الضابط القابض على مفاتح الرؤوس النووية تحت وطأة جوع لا يرحم؟ هل خطر ببال رجالات المكتب السياسي العلمي أنه سيتم تدمير أكواما من تلك الأسلحة، البالغ سعرها مليارات الدولارات، مقابل الحصول على صناديق من الفول تغذية للجيش.

إن لم يكن هذا بؤس العقلية المادية فما هو البؤس؟ بؤس عقلي خلق قصورا نظريا مزريا تجاه المستقبل القريب، ناهيك عن عقود قادمة.

رابعا، أبعاد قانون التداول التاريخي:

1- أقوى نتائج قانون التداول تتجسد في سقوط الحضارات وانهيارها سياسيا وماديا... إلخ.

2- سقوط الحضارات وانهيارها هو نتيجة لمقدمات، وعوامل، وتلك العوامل والمقدمات كثير منها وردت في القرآن الكريم، وبعضها وعتها كتب التاريخ، وتحدث عنها فلاسفة الاجتماع.
في تلك العوامل والمقدمات: "ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد".

بكلمتين، قانون التداول سنة كونية إلهية، ونتيجته سقوط الحضارات، وسقوط الحضارات يسبقه عوامل كثيرة جدا.. هذه العوامل هي موضوع الحلقة الثانية.
نلتقي بعونه سبحانه..

كلمات دالّة

#اليمن