الأحد 05-05-2024 23:33:45 م : 26 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

منظومة القيم الإسلامية الكونية الكبرى بين المنظومية والتفتيت

الإثنين 24 أغسطس-آب 2020 الساعة 09 مساءً / الإصلاح نت – خاص / عبد العزيز العسالي


تنويه:

تعمد الكاتب فصل هذه الحلقة عما سبقها لهدف هو إثراء ثقافة القارئ بتوضيح منظومة القيم، وأمثلة تطبيقية واضحة.

إن الكتابة حول منظومة القيم الإسلامية الكونية الكبرى تحتاج إلى بحث تفصيلي منهجي وفكري وتطبيقي بما لا يقل عن 500 صفحة، غير أننا سنتحدث بإيجاز عما نراه أهم وأقرب نفعا للقارئ.

وعليه، فقد اخترنا أن يتصدر الموضوع أسلوب السؤال والجواب تسهيلا للوصول إلى المعلومة، فنقول:

أولا: منظومة القيم الإسلامية الكونية الكبرى

ما هو مفهوم هذه المنظومة؟ ما المقصود بها؟ هل لها وظيفة منهجية أو فكرية أو تربوية أو فقهية أو تشريعية أو ثقافية أو دعوية أو إجرائية؟

ثانيا: الجواب

1- مفهوم منظومة القيم الإسلامية الكونية الكبرى يعني:
- أن منظومة القيم... إلخ. هي من صميم الوحي المنزل.
- أن منظومة القيم هي ملة إبراهيم عليه السلام.
- أنها المقاصد المركزية للقرآن الكريم.. وتنضوي في إطارها المقاصد العامة للشريعه الإسلامية بمراتبها الضرورية والحاجية والتكميلية.

2- مفردة "منظومة" تحمل دلالة غنية مكثفة مفادها:
- أن القيم هي منظومة متكاملة.. بل بالأصح هي داوئر منظومية متداخلة بعضها ببعض.
- أن هذه المنظومة القيمية الإسلامية الكبرى هي قيم كونية عالمية.. مع التسليم باختلاف المرجعيات.

3- وظيفة منظومة القيم:
- أنها تنظم التفكير في مجال البحث العلمي المنهجي عمقا وإحاطة وإدراكا.. في جانب التنزيل الفقهي على الواقع.. وتحديد الأولويات..
والنظر في المآلات والنتائج - تربية أو تثقيفا أو تشريعا أو معالجة قضايا الأمة كما سنوضح لاحقا.
- أن عدم استحضار المنظومة القيمية المتكاملة عند التنظير الفكري والمنهجي أو التطبيق في واقع الحياة.. فإنه يؤدي إلى:
- هدم مقاصد القرآن والشريعة ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، بل ومقاصد رسالته كما سنوضح لاحقا.
- الوقوع في تعضية القرآن أي "الذين جعلوا القرآن عضين".. أي تجزئة لكلّيات القرآن وتفتيتا لمقاصده وتحويل القرآن جُزُراً معزولة متناثرة.
- أن المساس بواحدة من منظومة القيم أو كليّة من كلّيّاتها يعني إفسادا لمنظومة القيم كلها. مثلا، إهمال كرامة الإنسان يعني تدميرا لحقوقه.. كالحرية والمساواة وحقه في العدل وحماية الحرية والعقل والدين والنفس والعرض والمال... إلخ المنظومة.
- أن المساس بكلية واحدة يعتبر تصرفا يتنافى مع مراد الشارع العليم الخبير الحكيم.
- أن التعضية للقرآن ينتج عنها تدمير منهجي، وشلل فكري، وتناقض فقهي، وخطأ تربوي، وهشاشة ثقافية، وتحويل معارف الوحي المقدس الواضحة بمقاصدها إلى ألغاز معمّاة.
- أن هذا التلغيز للشريعة يتسبب في فقدان الثقة بالشريعة وصولا إلى فتح باب التشكيك في الشريعة الخاتمة الخالدة الكاملة- ليس من جهة خصوم الإسلام، وإنما يحصل التشكيك داخل الوسط الإسلامي، والواقع خير شاهد.

ثالثا: أمثلة التكامل والتداخل والاتساق القيمي:
1- التكامل والتداخل معناهما واضح.. لكن سأشير إلى "الاتساق" فأقول:
مفهوم الاتساق التوازن الدقيق في:
- محيط الدائرة.
- التداخل الشامل والمترابط بين القيمة الواحدة.. وبين سائر منظومة القيم.

2- الأمثلة:
انطلاقا من الحكمة القائلة: وبضدها تتميز الأشياء.. فإنني سأذكر مثالا على الاتساق السلبي المنطلق من رؤية وضعية بشرية، هذا المثال في غاية الوضوح.. لاعتبارين.. أولهما: أنه صادر عن أكبر فيلسوف غربي معاصر.

الثاني: أن القارئ سيلاحظ خطورة غياب الاتساق القيمي في التصور الإسلامي المعيش، لأن التصور الإسلامي قد أصيب بعطب قاتل.. مع فارق أشد خطورة وهو أن غياب الاتساق القيمي الإسلامي ونتائجه الكارثية ينسبه أصحابه إلى الله.. وحاشا العليم الحكيم.. فما هو المثال؟

الفيلسوف الألماني كانط:
- هذا الفيلسوف هو مؤسس منهج الفلسفة المعاصرة باتفاق فلاسفة الغرب.. واشتهر عنه القول بفعل الواجب.. أي أنه ألزم نفسه بفعل الواجب تجاه الإنسانية.. فقد التزم الواجب بقناعة ذاتية وأخلاقية نابعة من ذاته فماذا حصل؟

ذات مرة تقدم إليه جمع من الفلاسفة وغيرهم ووجهوا إليه سؤالا افتراضيا مفاده: نفترض أن عددا من الأطفال هربوا إلى غرفتك ودخلوا تحت السرير.. وبعد قليل سمعت شخصا يدق باب غرفتك بجنون ففتحت له.. فوجدته سفاحا مشهورا بيده سكين يسألك: أين الأطفال؟ فماذا أنت قائل له؟
أجاب كانط: سأقول له تحت السرير.
قالوا: كيف ذلك؟
أجاب: واجبي الأخلاقي يحتم علي أن أقول الصدق.. وأترك السفاح يبوء بجرمه.

التعليق:
هذا الفليسوف يرى أن تفكيره متسق متكامل الرؤية للقيم.. المهم هو أن عليه فعل الواجب ولا يهمه النتائج والمآلات.

النتيجة:
هذا الفيلسوف يقرر مفهوم نظرية الواجب عنده أنها نفع الناس.. وأن هذا النفع للناس بحد ذاته "قيمة أخلاقية" عالية.. فهل دعواه صحيحة أن قيمه "متسقة متوازنة"؟

الجواب: لا وألف لا.. لأن القيمة التي يفاخر بها تعاني تشوها مدمرا أو في أقل الأحوال تشوها -شلل- أشبه بشخص إحدى يديه سليمة متسقة مع جسده.. لكن يده الأخرى أشبه بالقلم الصغير أو الملعقة.. أو مشلولة أو معوجّة عاجزة تماما عن القيام بخدمة الجسد.

تلك هي نظرية القيم في الفلسفة المادية.. المهم هو انتفاع الناس بالقيمة لكن إذا نتج عن القيمة ضرر مدمر للإنسان كلية فلا ضير.

رابعا: اتساق القيم في التصور الإسلامي المعيش:

التصور الإسلامي المعاصر يعاني غياب اتساق القيم إلى حد هدم القيم الإسلامية الكونية الكبرى.

سبب غياب الاتساق القيمي:

لسنا هنا نطلق تهم التكفير والتفسيق تجاه عقلية التفتيت والتجزيء.. حاشا.. وإنما نوضح السبب الكامن وراء "غياب الاتساق القيمي" فنقول:
السبب الأبرز وراء ضياع منظومة القيم في التصور الأسلامي.. والذي نتج عنه غياب الاتساق القيمي الشامل هو:
- ضعف التكوين الفقهي- تربية.. ومنهجا.. وتطبيقا.. وإليك أخي القارئ أمثلة من الواقع المعيش.. أمثلة تنبئ عن غيبوبة عقلية حضارية مكارثية.. لنأخذ مثالين فقط.. ويمكن القارئ قياس بقية الأمثلة.

1- غياب كرامة الإنسان:

العقلية التجزيئية تتمسح بالقيم كلها ومنها كرامة الإنسان.. ولكن متى وأين يكون هذا التمسح؟ يحصل هذا التمسح وباستعراض واستعلاء إذا ما سمعت عن النظريات الغربية حول كرامة الإنسان وحقوقه وتقدير العقل... إلخ.

2- هل للعقل إسهام في فهم النصوص وتنزيلها في دنيا الواقع؟
الجواب: أنت العلماني الزائغ.. فلو قلت: يا هؤلاء القرآن قد نص بوضوح قائلا: "فطرة الله التي فطر الناس عليها ذلك الدين القيم".. والعقل أحد هذه القيم.. وأن الله قد جعل العقل "معيارا للقيم".. قال تعالى: "أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون".. بل إن القرآن أمر بإعمال الفكر والتفكير وجعله فريضة شرعية في أكثر من 360 آية.

وإذا قيل إن أعظم منهج علمي شهد له العدو قبل الصديق، وإن هذا العلم علم أصول الفقه، ذلك أنه جمع بين العقل والنقل، أي إنهما وجهان لعملة واحدة.

يجد المتسائل أنه قد عرّض عقله وتفكيره لإعصار أسود من الإرهاب الفكري الغليظ.. إرهاب تحمله "لغة معلّبة صدئة" تطال عقيدة وفكر المتسائل.. وبصورة استعلائية.. ملصقة به أوسمة الزيغ والضلال.. وأقلها أن المتسائل منكر للسنة، وتشهر في وجهه سيفا صدئا خلاصته:
أنت منكر للإجماع.

3- بقية القيم الكونية- الحرية.. المساواة.. العدل.. القيام بالقسط.. الرحمة للعالمين.. الشورى.. وكل السنن الكونية الحاكمة للاجتماع.. فتمنع تغول السلطات.. وتقلّم أظافر الطغيان والاستبداد.. ومنها الدستور والقانون والرقابة الشعبية على أجهزة الحكم.. وحماية المال العام.. ومقدرات الأمة.. وحرية التعبير والتفكير.. وتحديد المدة الزمنية للحاكم.. وصندوق الاقتراع.. وضرورة الشورى التنفيذية، لأن إهمالها فتح باب كوارث على الأمة.. تسليم جيش اليمن للمليشيات نموذجا.

وكذا تجريم الاعتقال بدون أوامر قضائية.. وحرية الصحافة.. والتعددية.. والمجتمع المدني.. ومنع التعسف بكل صوره.. وغير ذلك من القيم الحامية للإنسان والاجتماع والعمران... إلخ. كل هذا لا مكان له لدى العقلية التجزيئية.. والحكم الفقهي لديها هو ذات الحكم تجاه القيمتين1و2 أعلاه؟

4- التشريع للعنصرية:
شعبنا يصطلي بنار كارثية مدمرة.. أهلكت الحرث والنسل طيلة سنوات ست.. وقد تذرعت مليشيا الانقلاب بفتاوى إجرامية عنصرية تتنافى مع منظومة القيم الإسلامية الكونية ومع القيم الوضعية.. فتاوى تستند بدعاوها الضالة إلى نصوص البطنين العنصرية.. والخمس.. والغدير... إلخ. هراءات المليشيا.

القاصمة هي غياب اتساق منظومة القيم.. إن غياب اتساق منظومة القيم لدى العنصرية السلالية ليس غريبا عليها.. لأنها تريد السيطرة والنهب وسفك الدماء... إلخ.

لكن القاصمة هي أن يكون غياب اتساق منظومة القيم الكونية لدى العقلية التجزيئية داخل المذهب السني.. وكانت الكارثة أن هذه العقلية أيدت العنصرية السلالية بالقول إن روايات البطنين... إلخ. كلها صحيحة... حاشا العدل الحكيم الخبير على الله منزل الخالدة العادلة..

قل صدق الله: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كبيرا".

فيا ترى.. هل عقلية التفتيت الفاقدة لاتساق منظومة القيم.. وقفت على هذا النص؟ هل وقفت على منظومة القيم؟ ربما.. ولكن الخلل يعود إلى "ضعف التكوين" الذي غيب منظومة القيم الإسلامية الكونية الكبرى.

كلمات دالّة

#الاسلام