الأربعاء 08-05-2024 13:43:59 م : 30 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

نحو عقيدة منتجة (1-2)

الأربعاء 15 إبريل-نيسان 2020 الساعة 09 مساءً / الإصلاح نت - خاص / عبد العزيز العسالي
 


دخل العرب والمسلمون خط الإصلاح المجتمعي خلال القرن العشرين، ونحن هنا لسنا في مقام التقييم لمناهج التغيير وجوانب قصورها وعوامل الإخفاق، وإنما انطلقنا من زاوية نحسبها جديدة، زاوية جديرة بالتوقف عندها حقا، هي فلسفة التاريخ.

بطبيعة الحال هذا المجال واسع، وحرصا على الوصول إلى الهدف المنشود من هاتين الحلقتين وصولا إلى الفائدة.

بلورنا سؤالا نعتقد أنه سؤال اللحظة المثقلة بحمولات، وأي حمولات؟ فاتجهنا إلى لملمة أطراف الحمولات، وصولا إلى طرح السؤال والذي مفاده: هل بالإمكان استكشاف السنن الحاكمة للقرن الواحد والعشرين؟

غير أن إجابة السؤال تحولت إلى بوصلة مشيرة نحو مجال هام جدا، لاعتبارات عقدية وتديشن وفكر، باختصار هو مجال يمثل الشخصية المعنوية للأمة، إنه مجال "التراث" أي موروثنا الفكري، أعني ما أنتجه العقل المسلم خلال 1400 عام.

ولا شك أن الكلام طويل بل ومعقد ومتشابك، فاختصرناه في سؤال أيضا مفاده: كيف نقرأ التراث؟ ثم سؤال أكثر تحديدا مفاده: بما أن سؤال اللحظة هو حول معرفة السنن الحاكمة للقرن الـ21، فإن السنن ذات صلة متينة بـ"التصور الاعتقادي"، ذلك أن العقل العربي المسلم ارتهن للتراث المشحون بالصراعات الفكرية التاريخية قرونا عديدة، وبطبيعة الحال فالتراث وصلنا وهو معجون بمشكلاته الظرفية حينها.

غير أن العقل العربي الإسلامي لا زال غارقا وسط التراث، وبالذات في مجال عقيدة التوحيد، وبشكل أخص مجال السنن الكونية الحاكمة للاجتماع السياسي بسسب الحق الإلهي القرشي الهاشمي، وهنا انطفأت فاعلية السنن الكونية الحاكمة للاجتماع ثم انعكست على بقية السنن المتعلقة بجانب الحياة. 

والذي ساعد على إماتة النظر في مجال السنن الكونية، بل ودفنها، هو التصوف الفارسي الهرمسي الغنوصي الدخيل على الزهد الإسلامي النقي، هذا التصوف وجّه ضربة قاصمة إلى المجال السنني وخصوصا بعد القرن الخامس الهجري.

من جهة أخرى، كان العقل الفقهي قد دخل نفق التقليد بداية القرن الرابع، وأصبح التصوف الدخيل هو الدين، وأي فقيه لم يتشرب ذلك التصوف فلن يحصل على الإجازة الفقهية.

أصبح تصوف أبو حامد الغزالي (كتاب الإحياء) هو السائد لدى غالبية الفقهاء والوعاظ والخطباء والقضاة والمربين حتى اللحظة الراهنة. أما الغزالي الفقيه الأصولي والذي أقام أصول الفقه على البرهان العقلي "السنني" فهو غير معروف. 

وعليه، أولا، أعتذر للقارئ إزاء هذا الاستطراد، فالهدف هو تمكين القارئ من التقاط خيط الفكرة وصولا إلى الهدف المنشود في هاتين الحلقتين. 
 
ثانيا: العقيدة المنتجة 

لكي نصل إلى عقيدة منتجة للقيم العقدية فكريا وإنسانيا وحضاريا، فإنه أصبح من الضرورة بمكان إعادة النظر في الأسس المعرفية لعقيدة التوحيد، فما هي الأسس المعرفية لعقيدة التوحيد؟

يرى فيلسوف التاريخ الدكتور محمد الطلابي أن الأسس المعرفية لعقيدة التوحيد هي أربعة متمثلة في: 

1- إرادة الله الكُنّيّة، أي المأخوذة من قول الله "كُنْ".
2- إرادة الله الكونية، أي إرادة الله من السنن التي أودعها في الكون. 
3- إرادة الله الأُنسية، أي إرادة الله تجاه الإنسان. 
4- إرادة الله التدوينيّة، أي الوحي القرآني المدوّن. 
     
لم هذه السنن؟ يقرر الدكتور الطلابي قائلا إنه بدون هذه الأسس المعرفية لعقيدة التوحيد لا يمكننا معرفة السنن الحاكمة للقرن الـ21 ما لم نعيد بناء عقيدتنا على هذه الأسس.

 تفكيك الأسس: 

إذا أمعنّا النظر بدقة وعمق في هذه الأسس سنجد أنها في غاية المتانة والكثافة، ونحن بدورنا سنوضحها بإيجاز فنقول: 

1- احتدمت المعركة بين المعتزلة والأشاعرة حول المفهوم التالي: قال المعتزلة: الله خلق السنن وتركها للإنسان يتعاطى معها كيف يشاء؟ وبالتالي فسنة الماء أن يروي ويغرق، والسكين تقطع، والنار تحرق، والصوف يدفئ، والخبز أو الفاكهة يشبعان... إلخ. 

قال الأشاعرة: لا، لا يوجد سنن مطلقة، فالماء لم يغرق موسى والسكين لم تقطع رقبة إسماعيل والنار لم تحرق إبراهيم؟ وهذا الاحتجاج بالمعجزات هو في حقيقة الأمر يؤكد القاعدة المضطردة للسنن.

لم يكتف الأشاعرة بمكابرتهم الآنفة، وإنما أضافوا قائلين إن القول بأن نسبة الفعل للسنن هو شرك بالله لأن الفاعل هو الله، وأن الله يخلق في السكين القطع في كل لحظة، وهكذا يخلق الإحراق في النار دائما.

2- مدرسة الأشاعرة قامت واستمرت على أنقاض المعتزلة لاعتبارات سياسية وغيرها.

3- ترتب على إنكار السنن وفاعليتها إنكار سنن التاريخ، لأن الفاعل هو الله والقول بغير هذا يعني أن ما يحصل من أحداث هي صنع الله وفعله. باختصار، التاريخ عقيدة.

4- وماذا عن الطغيان والفجور والإفساد المهلك للحرث والنسل؟ الجواب هو فعل الله والإنسان يحسب عليه الكسب.

لم يستطع الأشاعرة التفريق هنا بين فعل الله وكسب العبد، فتحول الموقف إلى مثل فلسفي فكري، فيقال عن أي شيء غامض: هذا لغز أخفى من كسب الأشعري.

5- ومع ذلك فإننا لا زلنا حتى اللحظة نجد من يقول إن من يتحدث عن فاعلية السنن الكونية إن لم يكن مشركا فهو علماني مارق.
 
6- تجنبا للصراع الموروث والذي أورث العقل المسلم خبالا تجاه السنن وتجنبا للتمذهب، كان الخروج بقول ثالث في هذا المجال وجعله الأُسّ المعرفي الأول من أسس العقيدة والمتمثل في إرادة الله "الكُنّيّة"، والمقصود هنا أن سنة الله مضطردة خاضعة للتعاطي البشري بإرادة الله وأن الله إذا إراد إبطال مفعولها فلا راد لقوله "كن" ليس في اللحظة وإنما خارج اللحظة. 

وبهذا نكون قد خرجنا من معترك التراث أولا، وأسسنا معرفيا لقعيدة التوحيد ثانيا، واعتقدنا أن إرادة الله لا راد لهاثالثا. 

الأساس الثاني: إرادة الله التكوينية

باختصار، المقصود أن سنن الله الكونية اقتضتها إرادة الله أن تكون قابلة للتعاطي مع كل من تعامل معها بطريقة صحيحة بغض النظر عن إيمان المتعامل معها من عدمه، وبالتالي فالواجب عقديا التعاطي مع السنن فهي قضاء الله وقدره وهكذا قضت مشيئته وأمره، وبالتالي إذا اتضح هذا الأساس فإن العقل المسلم سينطلق دون تردد أو تلكؤ عقدي، فالكل أمر الله ومشيئته وقضاؤه الكوني. 

وسنن الله مبثوثة من الذرة إلى المجرة ومن البذرة إلى الثمرة ومن الفيروس إلى الحوت الأزرق، حسب الفيلسوف الهويريني. 

الأساس الثالث: إرادة الله الأْنسيّة

والمقصود هو أن الله خلق هذا الإنسان "آية"، حسب د. طه عبد الرحمن. وفي تعريف آخر للدكتور الطلابي: الإنسان آدمي، مكرم، عاقل، مختار، أخلاقي، اجتماعي، وفنان. 

ومعنى هذا أن الله خلق الإنسان كأقوى مخلوق في الكون لعمارة هذه الأرض، وحمل الأمانة باختيار، فهو يفوق الجن والملائكة، أوليس الله يقول: "إني أعلم ما لا تعلمون"، فالملائكة مسيرون ولا يحتاجون لبارجات ولا حاملات طائرات ولا اكتشاف العلاج، وكذلك الجن. 

خلاصة هذا الأساس يعني وجوب عقيدة احترام الإنسان وإطلاق قدراته وملكاته ليتعامل مع مفهوم التسخير الذي أراده الله لهذا الإنسان، ومنحه مشيئة وقدرة وإرادة، وكلفه بعمارة الأرض وفق منهج الله. 

الأساس الرابع: إرادة الله التدوينية

هذا الأساس يتضمن كل ما سبق من الأسس، واقتضت إرادة الله من تدوين الحفظ للوحي وعدم ضلال البشرية أو الانسلاخ عن تعاليم الوحي، وعلمنا أن القوانين والعقود جميعها يجب تدوينها سيما الدستور والقوانين حتى يترسخ احترام الإنسان وحقوقه ومصالحه، وكل هذا يكون باختيار الإنسان نفسه. 

الخلاصة، إن هذه الأسس لها أبعاد كثيرة وهامة وكلها جعلت الإنسان محور مقاصدها السماوية. تلكم هي العقيدة المنتجة بإيجاز بالغ؟

نلتقي مع الحلقة الثانية بعونه سبحانه ومحورها: السنن الحاكمة للقرن الـ21.

كلمات دالّة

#اليمن