الثلاثاء 30-04-2024 08:38:16 ص : 21 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

ضحايا منسيون.. كيف تسببت المليشيات الحوثية في انتشار الأمراض النفسية والاكتئاب؟

الإثنين 23 مارس - آذار 2020 الساعة 10 مساءً / الاصلاح نت-خاص-أسامه الليث
  

  

بعد انقلاب الحوثيين لم تعد صنعاء تلك المدينة التي عرفها الناس سابقا، بل أصبحت قرية صغيرة تتهاوى مثل الورق اليابس، ولم يعد سكانها أولئك الذين كانوا يمرون بمرحلة استقرار نسبي، تغيرت ملامحهم وكذا الأحياء التي يسكنونها. تضاعفت معاناتهم وتفاقمت عليهم الأعباء المعيشية، حتى بدا كل شيء يفقد معناه.

تقرأ في وجوه سكانها التعب بعد أن صادرت المليشيات منهم كل فرص الحياة، وصادرت معها رواتبهم التي يعتاش أغلبهم منها، فحولتهم إلى باحثين عن لقمة العيش التي لا يجدونها.

خمس سنوات عجاف مرت على اليمنيين، خلفت أنواع المآسي والآلام والدمار والأمراض النفسية، وألقت بهم في غياهب فقر وكوارث لا أول لها ولا آخر، تظهر ويزداد حجمها مع مرور الأيام.

لا تبكِ على من مات وابكِ على من فقد عقله:

انقلاب المليشيات أنتج واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، حسب توصيفات أممية سابقة، وتعرض العامل النفسي لكثير من اليمنيين لانتكاسة كبيرة نتيجة الظروف المعيشية الصعبة وارتفاع معدلات الفقر وانعدام الرواتب وفرص العمل، حيث تؤكد إحصائيات محلية وجود أكثر من 5 ملايين يمني مصاب حاليا باضطرابات نفسية، يتوزعون -وفق معلومات رسمية- في المدن الأكثر كثافة سكانية والأشد فقراً، كالعاصمة صنعاء ومحافظات تعز والحديدة وإب وذمار الخاضعة جميعها لسيطرة الحوثيين.

 أم عبد الرحمن تروي لنا قصة ابنها الذي فقد عقله منذ عام، بعد أن أقصته المليشيات الحوثية من عمله وصادرت كل حقوقه واستبداله بشخص آخر مؤهله العلمي الوحيد الانتماء للمليشيات، تهمته اختلافه البسيط معهم ومعارضته لسياساتهم التدميرية.

تواصل أم عبد الرحمن حديثها قائلة: "لا تبكِ على من مات وابكِ على من فقد عقله.. لقد دمرت المليشيات أسرة ابني بالكامل، فبعد إصابته بالجنون طلبت زوجته الطلاق وتشرد أبناؤه السبعة، اثنان منهم أخذتهما المليشيات إلى الجبهات ولم يعودا إلا جثث، والبقية البعض منهم يسكن معي، والبعض الآخر مع أمهم".

من جانبه، يرى أحد الأطباء النفسيين الذي التقينا به، أنه "لم يكن ضحايا الانقلاب الحوثي من المدنيين قتلى أو جرحى فقط، بل كان لانقلابهم ضحايا آخرون لم يتعرف المجتمع على معاناتهم، وهم في ازدياد، حيث نسجل يوميا ما بين 20 إلى 40 حالة جديدة من غير المرضى الموجودين لدينا بالمصحة، الذين يتلقون العلاج النفسي بشكل مستمر".

ويرى الطبيب أن الانقلاب الحوثي وما ترتب عليه يعد سبباً رئيسياً في ازدياد مرضى الحالات النفسية في اليمن، فأكثر العوامل التي أثرت على المرضى نفسياً والذين يتوافدون يومياً إلى المصحة تمثلت في عدم قدرتهم على توفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة المعيشية لأسرهم، يتلوه فقدانهم لرواتبهم وأعمالهم وعدم الحصول على فرص عمل أخرى بديلة، ثم في المرتبة الثالثة عدم قدرة البعض من الشباب على الزواج وتحقيق الاستقرار، بالإضافة إلى أسباب أخرى، كالخوف وعدم الأمن والاستقرار ومشكلات وخلافات أسرية.

5 ملايين و455 ألفاً و347 شخصاً متضررين نفسيا:

أثر الانقلاب الحوثي بتداعياته المختلفة على المواطنين بشكل عام، وظهر البعض منهم غير قادر على تحمل تبعات الانقلاب وويلاته، الأمر الذي أدى -وفق مراقبين- إلى إصابة كثير منهم بأمراض نفسية تكاد تكون مزمنة.

ففي إحصائية رسمية سابقة صدرت عام 2011، وقبل اقتحام الحوثيين صنعاء في 2014، أفادت بوجود نحو 1.5 مليون مريض نفسي في اليمن، بينهم 500 ألف مريض ذهني، في حين كشفت دراسة محلية حديثة أعدتها مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري عن أن عدد المتضررين نفسياً بسبب الحرب التي أشعلتها المليشيات يقدر بـ5 ملايين و455 ألفاً و347 شخصاً من الجنسين ومن مختلف الفئات العمرية.

وتؤكد الدراسة أن 195 شخصاً من كل ألف يمني يعأنون من ضغوط واضطرابات نفسية حادة، وحذرت من أن هذه النسبة تفوق المعدلات الطبيعية بأضعاف، وتنذر بكارثة مجتمعية.

وتقول المؤسسة في دراستها إن كثيراً من السكان يعانون على الأرجح من التبعات النفسية والاجتماعية، ويرجع السبب الرئيسي في ازدياد أعداد المرضى النفسيين إلى دخول اليمن في دوامة الحرب باعتبارها المتغير الوحيد الذي طرأ على البلاد، مما أدى إلى نزوح أكثر من 3 ملايين شخص من منازلهم، أي ما يقارب 11% من مجموع السكان، إضافة إلى تدهور الحالة المعيشية للسكان بعد انقطاع الرواتب وانعدام فرص العمل وارتفاع نسب البطالة ومعدلات الفقر إلى 80%.

وحذر المراقبون من استمرار ارتفاع نسب المرضى النفسيين في اليمن ومن مغبة تجاهل المرضى الحاليين الذين تزداد أعدادهم بشكل يومي، وأكدوا أن عدم الوقوف بجدية تجاه هذه الظاهر الخطيرة قد يُحدث انتكاسة كبيرة لكيان المجتمع اليمني، ما يزيد من ارتفاع نسبة الجريمة وحالات الانتحار وغيرها من التصرفات السلبية والخاطئة في اليمن.

ادفع عمري لأعرف مكان ابني:

المليشيات لم تسيطر على مؤسسات الدولة ومواردها، ولم تقطع الرواتب فقط، بل حولت الأحياء والسكان البسطاء إلى مشروع موت مقابل إشباع الأفواه الجائعة.

تقول أم صلاح: "من يوم دخول الحوثيين صنعاء ونحن في حالة لا يعلمها إلا الله، كنا مستورين نوعا ما ونحن نستلم رواتبنا، وبعد انقطاعها أصبحت حياتنا في ظلام.. المشاكل تزداد بيني وبين زوجي، ولم يعد يتحمل أي حديث بخصوص الأولاد أو وضعهم المعيشي ومواصلتهم للدراسة، التي حرموا منها لعدم قدرتنا على توفير مصاريفها، بل أصبحوا يعملون في تنظيف السيارات من أجل توفير لقمة العيش لنا".

وتضيف: "زادت الضغوط النفسية مع مرور الأيام، ولم أعد قادرة على تحمل المزيد منها، بالذات بعد أن سلم زوجي ابني البكر للحوثيين، ليذهبوا به إلى الجبهة مقابل سلة غذائية كل شهر حسب ما وعدوا، والتي لم يصل لنا واحدة منها".

وتتابع أم صلاح: "أصبحت حياتي ترقبا وخوفا على ابني الذي انقطعت أخباره عنا منذ سنة، وأصبت جراء ذلك بكثير من الأمراض لعل أشدها السرطان الذي ينخر في جسدي، ومع ذلك لم يعد يهمني صحتي بقدر ما يهمني حياة ابني، بل ومستعدة أدفع عمري ثمنا لأعرف أين هو، وهل لا زال حيا أم ميتا؟.. أعلم أنها أمنيات لن تتحقق طالما ما زال المجرمون متواجدين بيننا".

88% نسبة الفقر في اليمن:

منذ انقلاب الحوثيين زادت معاناة المواطن اليمني وارتفعت معدلات البطالة، وزاد معدل الفقر، واجتاحت الأمراض أجساد اليمنيين مهددة حياة الكثيرين.

تفيد الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة بأن نحو 17 مليون شخص من أصل 27.5 مليونا هم سكان اليمن، يعانون من الجوع، كما أن نحو 7 ملايين منهم يصنفون في حالة خطرة.

كما يشير تقرير منظمة الصحة العالمية الأخير إلى أن ما يقارب 2.2 مليون طفل يعانون من سوء التغذية الحاد، و462 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم، وأنه من المحتمل أن يموت 50 ألف طفل يمني بسبب الجوع والأمراض بحلول نهاية العام الحالي في حال عدم اتخاذ التدابير اللازمة لمساعدتهم وعلاجهم وحمايتهم، في حين تعاني 1.1 مليون امرأة من سوء التغذية، و2.2 مليون امرأة أو فتاة في سن الإنجاب صحتهن معرضة للخطر بسبب سوء التغذية.

ويفيد التقرير أن عدد الذين فقدوا حياتهم نتيجة الحرب يقدر بنحو 75 ألف مواطن، بينما وصل عدد الجرحى إلى 48 ألفا، وبلغ عدد المفقودين 9070 شخصا.

وأدّت الحرب إلى تزايد نسبة البطالة بعد إغلاق آلاف الشركات والمصانع أبوابها، حيث فقد نحو 80% من الشباب العاملين وظائفهم. 

من ناحيته، أشار تقرير مؤشرات الاقتصاد اليمني الصادر عن مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي مؤخراً، إلى أن نسبة الفقر ارتفعت لتشمل نحو 88% من إجمالي عدد السكان.

إجبار الأهالي على تزويج القاصرات:

الاستغلال الفاضح من قبل المليشيات في مناطق سيطرتها للأسر الفقيرة، خصوصاً من يقتل عائلها في صفوفها، وصل إلى تزويج القاصرات أو تجنيدهن في إطار ما يسمى الزينبيات، مستغلة حالة الجهل والحاجة وغياب رب الأسرة.

إنهم يجبرون الصغيرات اللاتي لا تتجاوز أعمارهن 10 سنوات على الزواج من عناصر مليشياتهم بالقوة وتحت تهديد السلاح، هذا ما حدثنا به "أبو صالح"، وتابع قائلا: "مؤخرا قام مشرف الحوثيين بإجبار أسرة فقيرة في إحدى قرى محافظة إب على تزويج ابنتهم البالغة من العمر عشر سنوات من أحد أفراد المليشيات، رغم رفض والد الطفلة ومناشدته أبناء منطقته بإنقاذ ابنته، إلا أن ذلك لم يلق أي استجابة من الناس خوفا من بطش المليشيات".

وأضاف "أبو صالح": "لم تكتف المليشيات بإجبار القاصرات من العائلات الفقيرة على الزواج، بل أجبرتهن أيضا على التجنيد في صفوف خلايا الزينبيات مقابل منحهم مبلغ ضئيل للأسر الفقيرة التي تعاني الجوع والحاجة".

58 حالة انتحار:

تصاعدت حالات الانتحار في اليمن على نحو لافت خلال الفترة الأخيرة، نتيجة ضغوط نفسية وظروف معيشية قاسية يعيشها السكان، وأفرزتها المليشيات منذ انقلابها. 

وبينما يفتقر اليمن لإحصائيات حديثة حول هذه الظاهرة، فإن مسؤولاً سابقاً بوزارة الداخلية الانقلابية أكد لنا أنهم كانوا يستقبلون قبل انقلاب المليشيات من 20 إلى 40 حالة انتحار سنويّاً، وتوقع ارتفاع الأرقام أضعافاً مضاعفة في ظل حكومة الانقلابيين التي تسببت بواحدة من أكبر الكوارث الإنسأنية على مستوى العالم.

وبحسب المسؤول الأمني، فقد ارتفع معدل الجريمة في صنعاء ومناطق سيطرة الحوثيين خلال الأربعة الأعوام الماضية إلى نحو 68%، حيث سجلت أكثر من 39 ألف جريمة العام الماضي، ونحو 350 جريمة منذ مطلع العام الحالي، جميعها في المناطق التي تسيطر عليها المليشيات.

وبدورهم، يؤكد خبراء آخرون في الصحة النفسية بصنعاء ارتفاع معدلات الانتحار بالعاصمة صنعاء فقط بنسبة 40.5% خلال عامي 2018 و2019، في حين أكدت تقارير إعلامية أخرى تسجيل نحو 58 حالة انتحار خلال عام 2019، وكان أغلب ضحاياها أناساً فقدوا رواتبهم ومصادر رزقهم وأعمالهم.

ابتزاز الأسر الفقيرة بطرق لا يتخيلها عقل:

تدفع المرأة اليمنية فاتورة باهظة جراء الانقلاب الحوثي وممارساته في تجويع الشعب، وتكاد تكون هذه الآثار المدمرة مضاعفة على المرأة النازحة على وجه الخصوص، حيث شردت المليشيات 4.3 ملايين شخص من منازلهم، نصفهم من النساء، 27% منهم دون سن 18 عاماً، وفقا لصندوق الأمم المتحدة للسكان في آخر إحصائية له، وأن ستة ملايين من النساء والفتيات اليمنيات في سن الإنجاب (15 إلى 49 سنة) بحاجة إلى الدعم، مما يجعلهن أكثر عرضة للعنف وسوء المعاملة، كما تفقد الفتيات النازحات إمكانية الوصول إلى المدارس. 

تحدثنا أروى، وهي واحدة من سبع فتيات، نزحت من الحديدة هي وأسرتها، عن وضعهم بعد استقرارهم في العاصمة قائلة: "لم نكن نتوقع أننا سنمر بهذه الظروف التي نمر بها حاليا، لقد زادت الضغوط على والدي وأصبح يمضي كثيرا من الليالي خارج البيت يبحث عن عمل، لكنه يعود في كل مرة وهو في حالة نفسية متردية، مما حول علاقته بأمي إلى جحيم أثر علينا جميعا، فأمي تعاني من السكر وأبي يعاني من السكر والضغط مما ضاعف من المعاناة حتى وصل الحال بأبي أن قام بطرد أمي من البيت، ثم ألحقها بثلاث طلقات دمرت حياتنا نحن البنات".

وتضيف: "توقفنا عن الدراسة وبحثت لي عن عمل (فراشة) في أحد المكاتب براتب لا يكاد يكفي لإطعامنا". تصمت، ولم تعد قادرة على مواصلة الحديث بعد أن امتلأت عيناها بالدموع.

أحد ساكني المنطقة التي تسكن فيها أسرة أروى تحدث إلينا عن حال معظم الأسر المتواجدة في حي السنينة قائلا: "هناك من الأسر من يزيد أفرادها عن سبعة ومنهم أيضا تسعة وأكثر من ذلك، وهذا ساهم أكثر في عدم القدرة على تحمل تكاليف مستوى المعيشة والعلاج ونفقات التعليم مما أدى إلى خروج الكثير من الفتيات للبحث عن عمل، والكثير منهن يبذلن جهدهن ووقتهن ويدلفن مجالات حياة لم يكن يعرفنها لتوصل أسرهن إلى بر الأمان، إلا أن المليشيات لم تتركهن يعشن بسلام، وقامت بابتزاز الكثير منهن بطرق وأساليب عدة قد لا يتخيلها عقل".

وأضاف: "من ضمن تلك الفتيات خريجة جامعة تسكن في الحي الذي أسكن فيه، لم تتمكن من إيجاد وظيفة تساعد بها أسرتها النازحة التي تعاني من الفقر المدقع، فقامت إحدى الزينبيات باستغلال وضع أسرتها وعرضت عليها وظيفة، أخبرتها أنها ستجني من ورائها الذهب، حسب حديث والدتها. ومرت الشهور وهي تذهب إلى عملها العصر وترجع لبيتها مع بزوغ الفجر، وفي تلك الليلة التي لا يمكن أن أنساها، وبعد رجوعها بدقائق من عملها سمعنا طلق رصاص وصراخ، ليتبين لنا بأن أخاها قام بقتلها، معلنا بأن أخته كانت تعمل في الدعارة، وأن هذا هو العمل الذي عرضته عليها الزينبية (الحوثية)".