الإثنين 06-05-2024 22:49:05 م : 27 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

هيبة الدولة.. من الشرعية السياسية إلى التشكل الكاذب (مقاربة مقاصدية)

الإثنين 18 نوفمبر-تشرين الثاني 2019 الساعة 11 مساءً / الإصلاح نت – خاص/ عبد العزيز العسالي

 

 

"قد تكون هيبة الدولة مقصدا شرعيا".

الطاهر بن عاشور رحمه الله.

هذه الجملة القصيرة قالها ابن عاشور رحمه الله في سياق كلام طويل حول مقاصدية الوسائل.. مع تسليمنا أن كلامه إيجابي حول أهمية الدولة كوسيلة لتحقيق غاية الرسالات السماوية المتمثلة في: "ليقوم الناس بالقسط..".

وحتى لا يتم تحريف كلام هذا الفقيه عن مساره رأينا أنه من الأهمية بل الواجب الشرعي علينا إيضاح مفهوم "هيبة الدولة" على النحو التالي:

 

 أولا- تساؤلات:

ما المقصود بهيبة الدولة؟

هل الهيبة تعني التغول والتسلط والقمع؟ هل تعني أن الدولة تمارس أنواع الفجور والطغيان والإفساد داخل المجتمع، ونهب ثروات الأمة ومقدراتها دون رقيب.. والشعب عليه أن يبتلع الصمت حفاظا على هيبة الدولة؟

هل هيبة الدولة تعني وجود أجهزة أمنية أكثر من أجهزة التعليم، وأن تكون موازنة الأمن والجيش أكثر من موازنة التعليم؟ هل هيبة الدولة تعني التسلط الفردي أو شلة النفعيين وجوقة المطبلين المقدسين للحاكم فيصبح نصف إله.. أو إلهاً صغيرا؟ الجواب قطعا لا.

وحتى نقترب من معنى "هيبة الدولة" نرى إيضاحا سيكون من خلال الأسئلة التالية:

1- ما هي أسس هيبة الدولة؟

 2- ما هي مصادر هذه الهيبة؟

3 - ما الهدف من هيبة الدولة؟

4- ما هي مكونات هيبة الدولة؟

5 - ما هي مهددات هيبة الدولة؟

6 - ما نتائج ضياع هيبة الدولة؟

سنتحدث بإيجاز شديد جدا فنقول:

أولا- تعريف مفهوم هيبة الدولة:

في حدود علمي.. الموضوع جديدٌ فكرةً.. وجديدٌ تناولاً.. مع تسليمنا أن المعنى حاضر في ذهان الكثير لكن الصعوبة هي تحويل المعنى إلى مفاهيم وهذا ما سنقوم به بعون الله.

والبداية هي تفكيك مفهوم

"هيبة الدولة" وإعادة بلورته من زاوية مقاصد القرآن في الاجتماع السياسي.

 

التعريف:

بما أن الموضوع جديد فهذا يعني أنه لا يوجد تعريف اصطلاحي لمفهوم هيبة الدولة أي تعريفا جامعا مانعا.. وهنا سنتجه إلى صياغة تعريف إجرائي ليتسنى للقارئ العادي هضم المفهوم فهما ونطقا.. فنقول:

 

مفهوم هيبة الدولة:

هو مفهوم مركب من هُويّات ومبادئ ومرجعية، ومؤسسات وأجهزة تنفيذية، ونظم كلها صادرةٌ عن الأمة لحماية مصالحها أرضا وإنسانا..

 

ثانيا وثالثا- أساس هيبة الدولة ومصدرها:

الأُسُّ الأول لهيبة الدولة ومصدره الوحيد هو "الشرعية السياسية" التي رسمتها مقاصد القرآن العظيم في مجال فلسفة الاجتماع السياسي كون هذا المجال حيويا في تحقيق السلام المجتمعي.

 قال تعالى: "وأمرهم شورى بينهم".

فإذا قامت الدولة على أساس الشورى فإنها استمدت هيبتها من المصدر الحقيقي للهيبة وهو القاعدة الصلبة وتقوم عليها بقية المكونات، وهذا هو المقصود بالشرعية السياسية.     

 التأصيل المقاصدي للشورى:

للوقوف على مكانة الشورى يجب علينا النظر إلى مكانة الشورى من زاوية مقاصد القرآن مكانةً ونتائج.. أي أنه يجب أن ينطلق التأصيل للشورى من خلال "الجهاز المفاهيمي المقاصدي"، وليس من زاوية جزئيات الفقه المتصل بالشعائر التعبدية الخالصة، وهي زاوية الموروث الفقهي عبر التاريخ إلى مكانة الشورى فتقزم مبدأ الشورى عقيدةً وتنظيرا وممارسةً.

وبناء عليه.. يمكننا الوقوف على مكانة الشورى من خلال ما يلي:

أ- تسكين القرآن لمبدأ الشورى حيث جعلها بين السنن الحاكمة للاجتماع.

ب- عناية القرآن المبكرة بهذه السنة المجتمعية في العهد المكي، حيث أولاها اهتماما قبل تشريع تفاصيل الصلاة والصوم والزكاة والحج والأسرة والمعاملات بأنواعها تجارة وسلما وحربا.

ج- هذا المنهج المفاهيمي المقاصدي سيمكننا من الاهتمام بالقضايا بحسب اهتمام القرآن بها.

ألا يستدعينا هذا الاهتمام القرآني في العهد المكي أن نهتم بمقاصد القرآن بقدر اهتمام القرآن بها؟

النظر في المآلات:

النظر في المآلات أي النتائج مقصود شرعا.. إذن النتائج المترتبة على تفعيل الشورى وترسيخها كثيرة أهمها:

أ- أن الأمة هي المصدر الوحيد للشرعية السياسية.

ب- أن الشورى هي السنة الحاسمة للصراع المجتعي.

ذلك أن الأمم عبر التاريخ استبد بها الملأ المتنفذون تارة.. أو الفردية المتسلطة تارة.. أو كلاهما معا.

ج- أن الأمة هي أعلم بمصالحها.

د- طرق ووسائل انتخاب الدولة متروكة للأفق الثقافي الشعبي تطلعاٍ وطموحا.. وفقا لمتغيرات الحياة الدنيوية.

فقط الضابط الوحيد هو أن العقلاء يتفقون مع هذه الوسيلة التي تم اختيار الحاكم من خلالها هي وسيلة عادلة ليس فيها أي غش أو تزوير أو مصادرة لحرية الشعب.. ولاريب أن التجارب العالمية أثبتت سلامة وسيلة الاقتراع السري الحر المباشر.

 

لماذا هيبة الدولة؟

مفهوم "هيبة الدولة" المقصود منه تحقيق هدفين، هدف داخلي وهدف خارجي.

فالهدف الداخلي يتمثل في أمور أهمها:

- تحديد طريق الوصول إلى الحكم من خلال الشرعية السياسية، وهذا يعني قطع دابر الأطماع التي قد تسلك طرقا ملتوية في الوصول إلى الحكم خارج الشرعية السياسية.

- ترسيخ هيبة الأمة.. بأنها مصدر بقية المكونات المنتجة لهيبة الدولة.. هذه المكونات سنفصلها لاحقا.

- ترسيخ هيبة مؤسسات الحكم التشريعية والتنفيذية والقضائية، كون هذه المؤسسات تمثل الأمة مالكة الشرعية السياسية... إلخ.

- تعقيد القرارات الإستراتيجية داخل مؤسسة الحكم.. وهذا أهم إجراء عملي متصل بالشورى التنفيذية.. كما سنوضح لاحقا.

يتفرع عما سبق:

- رفض التسلط، أو التحايل على الشعب أو مخادعته.

- تحديد الفترة الزمنية للحاكم.. أي لا زواج أبدي على الكرسي.

- لا توريث..

- تحديد صلاحية الحاكم في إنفاق المال العام ناهيك عن نهب مقدرات الأمة.

- الحيلولة دون التشكل الكاذب أي الشكلية في مؤسسات الدولة، وإن شئت قل: الحبَلْ الكاذب الذي يقتل فاعلية المؤسسات.

 

هيبة الدولة خارجيا:

هذا الهدف متفرع عن الهدف الداخلي، ذلك أن الخصم الخارجي ينظر إلى المؤسسية التي قامت عليها الدولة فيتهيب.. وقد حملت الصحافة في سبعينيات القرن الماضي أن زعيما في اتفاقية مشهورة كان يقول له خصمه: نريد توقيع كذا فيوقع فورا.. فيندهش الخصم ويقول له: بصراحة أنا لا أستطيع أفعل مثلك، أنا مقيد بالشرعية ومؤسسات كياني.

 

رابعا- مكونات هيبة الدولة:

1- عرفنا آنفا مصدر الشرعية السياسية أنها الشورى، وأن هذا هو المكوّن الأول وهو

"الأُسّ المكين".

2- الشورى التنفيذية:

القرآن اعتبر الشورى التنفيذية مقصدا قرآنيا وأنه التجسيد العملي للشرعية السياسية. كيف لا والقرآن ألزم المعصوم صلى الله عليه وسلم: "وشاورهم في الأمر".

الرسول شاور في كل أعماله الإستراتيجية عدا يوم الحديبة لأنه كان هناك وحي.

نزل صلى الله عليه وسلم عند رأي الأغلبية يوم أحد.

بعد الانتكاسة في أحد ربما خطر في بال الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشورى هي السبب فنزل النص: "وشاورهم في الأمر".

أشاد القرآن بممارسة الشورى التنفيذية: "يا أيها الملأ افتوني في أمري.." إلخ.

هذا النص يعطينا دلالتين: الدلالة الأولى: وجوب الشورى التنفيذية في القرات الإستراتيجية، "افتوني في أمري.."، مواجهة خطر سيداهم دولتها.

الدلالة الثانية:

 الأخذ برأي المتخصص المتمرس، "فاسأل به خبيرا"، والتخصص المتمرس نجده ماثلا في ثقافة ملكة سبأ، "إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها".

أيضا حُنْكة التجربة، ".. وإني مرسلة إليهم بهدية..".

 3- وجوب الالتزام بالدستور والقانون: المكون الثالث لهيبة الدولة هو الوقوف بكل قوة في وجه من تسول له نفسه مخالفة الدستور والقانون.. بأي صورة كانت وتحت أي شعار ..وإحالته للمحاكمة باعتباره مجرما وداعية إفساد في البلاد.

4- إقامة العدل، حماية لحرية الأمة وكرامتها وترسيخ الوعي في عقل الأمة أن انتهاك حرية فرد.. أو تنازل الفرد عن حريته يعتبر جرما لا يقل عن جرم ترك الصلاة أو الصوم بل أكثر، لأن المساس بحرية الأمة وكرامتها نتائجه ماحقة، حروب ودماء ودمار شامل. فلو أن عفاش والقذافي والأسد وجدوا شعوبا حية تقول: لا.. هل كانوا سيتجرؤون على قتل الشعوب؟ وهل سيستولون على مقدرات الأمة وثرواتها؟

5- استقلال القضاء:

رفع يد الحاكم تماما عن السلطة القضائية ضرورة مقاصدية حماية لسير العدالة.. وهذا يستدعي ضرورةً تخويل السلطة القضائية بانتخاب نادٍ قضائي يتولى شؤون السلطة القضائية.

6- دولة المؤسسات.. ويأتي في مقدمتها مؤسستا الجيش والأمن.. يجب ضرورة ترسيخ عقيدة هاتين المؤسستين في ثلاثة مبادئ.. الولاء لله .. الولاء للأمة.. احترام إرادة الأمة.. وعند اختلاف البرلمان والحكومة يكون موقف مؤسستي الجيش والأمن مع الدستور.

7- التعددية والاختلاف في الرأي:

هذا المكون من أبرز مظاهر الشورى بشقيها: إقامة الدولة أي الشورى السياسية والشورى التنفيذية، ذلك أن مدلول مفهوم الشورى يعني وجود اختلاف وتعدد.. وهذا الاختلاف ينتهي بالاحتكام لذوي التخصص والتجارب والنظر في المآلات فلا تسلط ولا فردية.

8- العدل الشامل.. ويدخل فيه المساواة في توزيع الثروة لما يكفل للفرد العيش الكريم وللأقاليم التوازن في الخدمات، يأتي هذا العدل الشامل انطلاقا من المقصد القرآني الصريح: "كي لا يكون دولة بين الأغنياء".

ومنها المساواة في الحقوق والحريات العامة.. وتحقيق كرامة المواطن وحمايتها داخليا وخارجيا، وحماية ثروات الأمة ومقدراتها وتنمية الموارد... إلخ القضايا المتعارف عليها في هذا المضمار.

9- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

هذا أعظم صمام أمان للمجتمع سياسيا واجتماعيا.. كيف لا وقد وصف القرآن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالخيرية، كونها قائمة بهذا المبدأ العظيم ساسيا واجتماعيا، "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف.." إلخ.

10- الرقابة الشعبية:

نص القرآن على هذا المكون: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".

11- إدارة أقاليم الدولة بطريقة لا مركزية (الحكم المحلي).

هذا المكون تضمنه الدستور النبوي في المدينة.. حيث أعطى كل قبيلة وكل بطن من بطون اليهود والمسلمين حق الاحتكام إلى أعرافها وثقافتها... إلخ.

 

خامسا- مهددات هيبة الدولة:

1- الفردية: الواقع المعيش عربيا صارخ.

2- الملأ.. أي جوقة المطبلين للفرد المتسلط.

القرآن ذكر الملأ في 14 موطنا كلها ذم.. وأنهم أعداء العدل والرسالات السماوية، "قال الملأ...".

القرآن لم يمدح الملأ إلا الملأ في دولة سبأ..

الجدير ذكره أن القرآن حصر أسباب دمار الاجتماع السياسي في الملأ.. وذلك في عصر ما قبل الدولة، وفي عصر قيام الدولة - النمرود وفرعون وملؤهم نموذجا.

3- إهمال الشورى التنفيذية.

لقد تلقت أمة الإسلام ضربات أفقدتها نهوضها بسبب إهمال الشورى التنفيذية.

4- التشكل الكاذب.. أي الشكلانية في مؤسسات الدولة.

التشكل الكاذب ملاحظ وملموس في وجود برلمان ودستور وقانون وحكومات وقضاء وجيش وأمن.. ولكن هذا كله مظاهر شكلية يتحكم بها الزعيم الفرد المتسلط صاحب الصلاحيات المطلقة.

5- التنازع وغياب هيبة الأمة.

لا شك أن التنازع غير الاختلاف، "ولا تنازعوا فتفشلوا فتذهب ريحكم".. وأجزم وأنا مسؤول عن كلامي دنيا وأخرى أن صانع التنازع هو الفرد المتغول المتسلط.. لقد لبس أقنعة النفاق من عهد جرير والفرزدق، وهلم جرا.. والمعتزلة والسنة، والتشيع والتسنن.. واليوم العلمنة والأسلمة، فالطائفية والجهوية والمناطقية القذرة.. وصولا إلى إحياء السلالية والعنصرية الإبليسية.

6- اجترار تراثنا الفكري السياسي.

هذا جرح متقيح.. يتمثل في التقليد الأعمى.. والذي أنتج عقلية عابدة للتراث السياسي وأن التراث هو الدين المقدس.. ولا ريب أن أصابع التغول الفردي وراء إعادة إنتاج هذه العقلية.. ولنا وقفة خاصة مع التراث بعونه سبحانه.

7- التقليد للوافد.. هذا الدور قام به اليسار العربي باسم العلمنة... إلخ، فكان اليسار كذبة كبرى يريد التسلط والعربدة الفردية أو الحزب الذي حوّل كل الأعضاء دجاجاٍ بجوار ديك واحد هو الزعيم فقط لا غير.

8- تحصين الطغيان والفجور السياسي باسم السنة النبوية وهي روايات لم يعرفها الخلفاء الراشدون الذين حفلت فترتهم بأحداث عاصفة ومع ذلك ما وجدنا للصحابة أي احتجاج بهذه الروايات مثل "ميتة الجاهلية" لمن لم يبايع.

 ولا وجدناهم قالوا لمعارضيهم لا يجوز منازعة الحاكم إلا إذا وجدتم كفرا بواحا لدى الحاكم، وإن قَتَل الشعب أو سَحَقَه.. ولا قال الصحابة إن الانبطاح للظلم واجب ديني.. فحاشا شريعة الإسلام أن تقول هذا.

 

سادسا- نتائج غياب هيبة الدولة:

إذا كنا قد عرفنا أسس ومصادر ومكونات هيبة الدولة على الصفة الآنفة، فإنه يمكننا القول بكلمات قليلة إن الفردية المتغولة المتسلطة أدت إلى انفجار الربيع العربي أولا..

الثورة المضادة لخيارات الربيع العربي والتي سحقت الشعوب المتطلعة إلى العدالة والعيش الكريم.. هي نتائج طبيعية لغياب هيبة الدولة .. أعني هيبة المكوٍنات القادمة من شرعية الأمة صاحبة المصلحة.

 

آفاق الحل:

- إعادة النظر في نصوص القرآن من زاوية الجهاز المفاهيمي لمقاصد القرآن.

- دفن تراثنا الفكري السياسي.

- دفن الفردية والشكلانية المؤسسية وكذا جوقة الملأ المطبلين.

- ترسيخ الشورى التنفيذية عمليا.