مع الصائمين.. مفاهيم، قيم، دروس (1-5) الغايات الكبرى من الصيام
الموضوع: اخبار وتقارير
 

 

قال تعالى: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام آخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون" (البقرة: 185).

وقال تعالى: "كما أرسلنا فيكم رسولا يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون • فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون" (البقرة:151- 152).

الدلالات الواضحة:

نحن أمام ثلاثة نصوص متظافرة - منطلقا وغاية.
1- نزول القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا.
2- نزول القرآن يعني أن السماء تتدخل في شؤون الأرض، كما يعني ربط العبادة بالحضارة.
3- إرسال الرسول وتحديد وظيفته - تلاوة القرآن، تزكية المجتمع، تعليم الناس الكتاب والحكمة.
4- نزول القرآن يعني تزكية للإنسان وإرشاده إلى عمارة الأرض وفق المنهج المعرفي القرآني.
5- توجيه المؤمنين إلى الشكر العملي، كما في الآية (152) "فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون".. انتهت الآية (185) بطلب الشكر.. "ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون".

6- الغاية الكبرى والأولى من الصيام: دلت الآيتان أن الغاية الكبرى من الصيام وإكمال العدة والتكبير هي الشكر على تنزيل القرآن - هدى للناس، وإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم لتعليم الناس.

7- الشكر مقام عملي:
دلت الآيتان أعلاه بل وكثير من آي القرآن أن مقام الشكر عملي، وأن الشاكرين قليلون، قال تعالى: "اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور".

8- الهدف الأقرب من الصيام هو التقوى، أي تزكية النفس، ولكنه هدف لازم للمؤمن بخلاف الشكر فإنه مرتبة أعلى من التعبد شكرا للمنعم المتفضل والهادي الرحيم بعباده، ولذلك قرر القرآن أن الشاكرين قليل، وأن شئت فقل إن السالكين طريق الشكر قليلون "وقليل من عبادي الشكور".

الشكر هو الغاية الكبرى:
إذن، الغاية الكبرى، أو الغاية الأولى من الصيام وأنواع التعبد المرافقة للصوم - الذكر والتكبير والحمد والتلاوة والزكاة والإنفاق وصلة الأرحام والعفو والصفح والتعاون على البر وإدخال السرور على الأسرة والجيران وغير ذلك من الطاعات يجمعها مقام الشكر.

الغاية الثانية: تحرير الروح وبناء الإرادة:
ورد في الحديث القدسي: "عبدي يدع لذته من أجلي"، وفي رواية: "يدع طعامه وشرابه من أجلي"، وكلاهما صحيح، غير أن رواية "يدع لذته" أعمق وأشمل وأقوى إيجازا ودلالة فقهية خاصة بمن لديه حالة هبوط السكر فيمكنه استخدام السوائل الوريدية ولا يفطر بها لأنه لم يتلذذ بمذاقها، واللذة من أكبر نعم الله من جهة، كما أن اللذة أوسع من تناول الطعام والشراب، فكل مصلحة للإنسان هي لذة.

من جهة ثانية، أن الإنسان مفطور على تقوية الجسد والنشاط بالطعام والشراب والنوم والفرح والسرور، فهذه مصدر قوة للإنسان نفسيا وجسديا، غير أن المؤمن يترك مقومات حياته ابتغاء وجه الله، ويفطم نفسه من شهواتها أيا كانت، إنه امتناع ليس من باب تأجيل اللذات من خلال تغيير زمن تناولها، وإنما تركها ابتغاء مرضاة الله، وهذا هو الانتصار على شهوات النفس، وهو انتصار لا يحرزه إلا القليل، هذا من جهة، ومن جهة ثانية هذا الانتصار هو عين تحرير الروح، وتحرير الروح يلحقه تحرير الجسد.

وهنا تكون روح الصائم قد حلقت اقترابا من مصدرها الأول، "ونفخت فيه من روحي"، فتقترب ساجدة سجودا معنويا، لترتقي إلى مقام أعظم وأرقى كما صوره الحديث القدسي التالي: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".. فما معنى "فإنه لي"؟
قال ابن حجر وغيره من فقهاء التزكية القلبية إن معنى "فإنه لي" أي من صفتي".

فالله اسمه الصمد أي الذي لا جوف له، لا يأكل ولا يشرب، فامتناع المؤمن عن لذته ابتغاء وجه الله فإنه يكون قد جعل روحه تتصف بصفة الصمدانية ولو لساعات، وهذا هو المقصود "بتحرير الروح"، وهي غاية عظيمة ترفع المؤمن إلى مقام الشاكرين.

الشكر في القرآن.. نماذج وأبعاد:

قال تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ • أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" (سبأ: 10-11).

هذا النص القرآني يكتنز فيه معنى كثيف يلفت النظر بقوة إلى نماذج للشكر العملي تضمنها القرآن نوجزها فيما يلي:

1- علّم الله النبي داود صنعة دروع حربية واقية من طعنات السهام والرماح وضربات السيوف بل وأرشده إلى الجودة، قال تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ • أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" (سبأ: 10-11).

إذن، الله يأمر داود أن يُقدّر في السرد أي جودة حبك الدروع السابغة، ولأن هذه الصناعة تحمي الإنسان، فالقرآن اعتبرها شكرا قلّ الفاعلون له.

قدّر في السرد - اتقن عملك، جوّد عملك، حسّن، نظّم، التزم قيمة الصدق والأمانة في مهنتك، أنت هنا ترسخ قيما عليا إنسانيا وحضاريا، باختصار تبني مجتمع القيم.

2- شكر ذي القرنين:
"إنا مكنا له في الأرض".. فأجاد ذو القرنين شكره العملي من عدة زوايا أهمها:

- شكره من خلال تأديب الظالمين: "وأما من ظلم فسوف نعذبه ثم يُرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا".

- الحيلولة دون الإفساد في الأرض: "إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض..." إلخ.

- وظف التمكين الرباني في تطويع الحديد فقدم أعلى نموذج للشكر في قمع المفسدين وحصارهم أبد الآبدين.

إذن، القرآن يقرر بوضوح أن كل صاحب مهنة أو تجارة، فشكرها هو الجودة وتوسيع رقعتها خدمة للإنسانية وإقامة للعدل وحصار الظلم... إلخ، كل ذلك يصنع هيبة الأمة وقوتها، فالتربوي والقاضي والإداري والسياسي والجندي... إلخ، مطالبون بالشكر كل في ميدان عمله.

شكر الحيوان:

1-شكر النحل: القرآن خلد النحل لأنها تقدم منافع للناس.. بربكم، كم هي أنواع الهوام والحشرات والذباب... إلخ؟ والنحل هي واحدة من تلك الهوام لكنها أجادت شكر الوحي الإلهي إليها فقدمت الشيء النافع بجودة عالية.

2- النملة: سورة النمل ليست سورة سليمان.. الحكمة واضحة في تقديم الشكر - تحصين النمل من تحطيمها تحت أقدام الجند.. لقد خدمت أمتها وحصنتها فخلدها القرآن.

3- الغراب يبحث الأرض: ابن آدم قتل أخاه، فتحير إزاء جريمته الإفسادية ضد الإنسانية: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا".

فأين هذا الإفساد من القيمة التي قدمها الغراب تكريما للإنسانية فرفع القرآن شان الغراب وأسقط مكانة الإنسان المفسد؟

أبعاد الشكر:

الشكر له أبعاد كثيرة متصلة بالإحسان الحضاري والجودة والنظام وحب النظام والكمال والجمال وترسيخ القيم الحامية للمجتمع ويصنع هيبة الأمة.

سؤال: لماذا يفضل الإنسان السلعة المصنوعة في أوروبا على غيرها؟

الخلاصة: الشك عملي وتتعدد صوره، وكل صاحب مهنة أو مال يجب عليه شكرها المتمثل في جودة الصنع والأداء.

الغاية الثالثة: بناء الإرادة:

قيمة امتلاك الإرادة كانت ولا زالت هي الشغل الشاغل لفلاسفة التربية على المستوى الفردي، كما شغلت فلاسفة الاجتماع على المستوى الجمعي.

الجدير ذكره أن فلاسفة التربية والاجتماع وعلماء النفس الاجتماعي والجماهيري قد سطروا مئات إن لم نقل آلاف الصفحات حول طرق ووسائل وأساليب بناء الإرادة وهل تبدأ من مرحلة الرضاع أو الطفولة أو المراهقة... إلخ.

غير أن الكثيرين مالوا إلى القول إن بناء الإرادة يبدأ من لحظة الولادة، مؤكدين أنه وإن تمكنت الأسرة من بناء الإرادة في فترة الطفولة فما بعدها فإنها تظل مهتزة وناقصة وغير متوازنة.

إعجاز قرآني.. هدى للناس:

الإعجاز اللغوي في القرآن لا خلاف حول بلاغته، فهو يمثل أعلى درجات الفصاحة في كل مستوياتها - حرفيا ولفظيا وأدبيا وجرسا وصوتا وسياقا... إلخ.

لكن الحكيم العليم الذي أنزل القرآن قال إن القرآن هدى للناس - جميع الناس وليس للعرب فقط.

وهذا يعني أن القرآن كتاب الرسالة الخاتمة الخالدة، وأنه سيصل إلى غير العرب، وهذا يعني أن هناك ميادين إعجاز أقوى وأبلغ يفهمها غير العربي كما يفهمها العربي، ومن ذلك الإعجاز القِيْمي -بسكون الياء- من القيمة.

نعم، أثبتت البحوث والدراسات العلمية -عمليا- في مجال علم النفس أن بناء الإرادة يمكن ترسيخه وامتلاكه من خلال تدريب الإنسان على الجوع خلال ساعات عدة تصل إلى 16 ساعة فما فوق -عدة أيام- وأن التجارب نجحت في بناء الإرادة شريطة أن يتكرر التدريب على الجوع سنويا أو نصف السنة ولا زالت الدراسات جارية.

دلت الدراسات أن بناء الإرادة ممكن في أي مرحلة عمرية.

دلت الدراسات أن القول باهتزاز الإرادة بسبب تأخيرها عن فترة ما بعد الولادة نسبتها قليل.

إذن، أثبت الإعجاز القرآني أن للصوم غاية ثالثة هي بناء الإرادة.

يمكننا أن نتساءل انطلاقا من المفهوم الفلسفي القائل: نجاح الفكرة يقاس بنتائجها وثمارها -سلبا أو إيجابا- وعليه: هل أزمة الإرادة لدى الأمة العربية ناتجة عن غياب الغايات الكبرى داخل العقلية العربية؟

نلتقي مع الحلقة الثانية بعونه سبحانه "طرق تدبر القرآن".

الإصلاح نت - خاص | عبد العزيز العسالي
السبت 09 إبريل-نيسان 2022
أتى هذا الخبر من موقع التجمع اليمني للإصلاح:
https://alislah-ye.net
عنوان الرابط لهذا الخبر هو:
https://alislah-ye.net/news_details.php?sid=9081