كما هو معروف ـ وكما يقرر الفيلسوف الاجتماعي ـ ابن خلدون رحمه الله فإن للدول أعمارا طبيعية كما للأشخاص أعمار محدودة، وذهب إلى أن عمر الدولة في الغالب لا يعدو أعمار ثلاثة أجيال، وعند أفلاطون كذلك أو قريب منه..
وإلى جانب العمر الافتراضي الطبيعي للدول بمؤسساتها ومرافقها فإن ثمة عوارض ذاتية أو موضوعية قد تعتريها فتؤثر على مسيرة حياتها زيادة أو نقصانا، ونشير هنا إلى عوامل سقوط الدولة وانقراضها على ضوء النظرية الخلدونية الشهيرة..
1ــ إرهاف الحد مضر بالملك ومفسد له في الأكثر..
وهو ما نسميه اليوم القمع وتقييد الحريات العامة، وقد ذهب ابن خلدون إلى أن الملك "إذا كان قاهرا باطشا بالعقوبات منقبا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف والذل ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة وفسدت بصائرهم وأخلاقهم وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات ففسدت الحماية بفساد النيات، وربما أجمعوا على قتله، لذلك فتفسد الدولة ويخرب السياج .."
والمتأمل في حال كثير من حكام الدول العربية اليوم يجد أن كلا منهم على حده نموذج واضح لهذه الصورة، بل لو قرأها أحدهم لقال: أنا المعني بها! فكم من الحقوق والحريات العامة، المنتهكة في الوطن العربي من شرقه إلى غربه على تفاوت في حجم ومقدار القمع ووسائله وآلياته..ولذا كان "المكر والخديعة" من قبل هذه الشعوب التي لم تقف اليوم مدافعة عن حاكمها وقد تساقطت عروش بعضهم وتتهاوى على إثرها عروش آخرين، فمن مظاهر "المكر والخديعة" تلك الأصوات التي ينافق بها البعض رغبة أو رهبة في الانتخابات التي عادة ما تنتهي بالأربع تسعات! لكنها ساعة الحسم تتساقط كما تتساقط أوراق الخريف من حوله، بل ربما تحول الصديق إلى عدو، وربما أقدمت الأمة على قتله أو طرده أو ترحيله ومحاكمته كما نسمع ونرى اليوم.. كل ذلك بسبب إرهاف الحد الذي الذي طال على الأمة عقودا وسنوات..
2ــ ضرب المكوس أواخر الدولة..
يقول ابن خلدون: "يستحدث صاحب الدولة أنواعا من الجباية يضربها على البياعات ويفرض لها قدرا معلوما على الأثمان في الأسواق، وعلى أعيان السلع في موال المدينة، وهو مع هذا مضطر لذلك بما دعاه إليه طرق الناس من كثرة العطاء من زيادة الجيوش والحامية، وربما يزيد ذلك في أواخر الدولة زيادة بالغة فتكسد الأسواق لفساد الآمال، ويؤذن ذلك باختلال العمران.."
وهو ما نجده اليوم من أنواع الضرائب والرسوم والواجبات المفروضة على المواطن وهي كثيرة مقابل الحقوق التي له، كل تلك الجبايات والرسوم لا يعود ريعا على الدولة ومصالح الناس كما هو الأصل منها بقدر ما يعود على بعض المقربين من "الجيوش والحامية" التي ذكرها ابن خلدون ونلمسها نحن اليوم، وقد زادت كما هو معروف في الآونة الأخيرة، فرأينا مئات وآلاف المشاريع الاستثمارية قد فسدت في البلاد بعد أن كسد السوق بفعل فساد الآمال من العوائد "الأرباح" وقد أصبح على كل مستثمر شريك له في حقوقه المشروعة بلا وجه حق، فغادر المستثمرون البلاد بفعل اشتراطات الأبناء والأولاد، واختل العمران..
3ــ تجارة السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية.
يقول ابن خلدون: "..فإن الرعايا متكافئون في اليسار متقاربون، ومزاحمة بعضهم بعضا تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب، وإذا رافقهم السلطان في ذلك وماله أعظم كثيرا منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته، ويدخل على النفوس من ذلك غم ونكد.."
نعم.. إنها تجارة المسئولين في الدولة التي تحرم كل دساتير العالم وقوانينها تقريبا على حرمة الجمع بين التجارة والسياسة، ذلك أن تداخلا في المصالح العامة والخاصة قد يطرأ على العملية التجارية بصورة مباشرة وغير مباشرة، والنفوس البشرية ضعيفة أمام المال، فتضطر إلى التكسب غير المشروع الذي يضر في نهاية المطاف بالطبقة الدنيا من الناس، ثم إن الثروة أيضا مرتبطة بالجاه الاجتماعي، ومتى ما اجتمعت الثروة والمسئولية في جماعة ما فسدت التجارة والسياسة معا، وأصبح المال حكرا على جماعة دون أخرى، ولهذا نبه الله في كتابه الكريم ونهى أن يكون المال "دولة بين الأغنياء" فقط دون غيرهم. وكما رأى الجميع ما من طاغية سقط اليوم إلا وكان من أثرياء القوم وأغنى الأمة، وهذا أحد أسباب سقوطه..
4ـــ الظلم مؤذن بخراب العمران
هكذا يقول ابن خلدون قديما رحمه الله، والظلم على صور شتى، خاصة في عصرنا اليوم، يقول: "اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهامها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها، وإن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته، والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب.. فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتقضت الأحوال وابذعر الناس في الآفاق.. وخلت دياره وخرجت أمصاره واختل باختلاله حالة الدولة والسلطان.."
إنها الصورة تكرر نفسها، الناس شركاء جميعا على ما في باطن الأرض وظاهرها من الثروات والخيرات، والحاكم أجير مستأمن عليها، والتحايل عليها من قبله مفسدة للعقد الاجتماعي بين الطرفين ومضر بمسيرة الحياة الإنسانية ومفسدة للعمران، ذلك أنه مع بداية التعدي يحصل التعدي المضاد، ومع التعدي والتعدي والمضاد بين الطرفين تضطرب الحياة السياسية والاجتماعية وتضطرب الدولة ويتراجع البناء والعمران، الاعتداء على مقدرات الأمة ومكتسباتها خلخلة لكثير من القيم الأخلاقية والمجتمعية التي تنتشر بانتشار الفقر كما ذكر ذلك أيضا عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله في "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" ولا نذهب اليوم بعيدا، فها نحن اليوم كثيرا من رؤوس المال المهاجرة قد تركت بلادها وهاجرت خلف البحار والمحيطات، هناك في بلاد الغرب حيث الأمن والأمان على الأموال والحقوق بلا منازع من أحد ولا تعد من نافذ، وهاهو رأس المال العربي واليمني قد ابذعر "تفرق" في الآفاق بعيدا لا يستفيد منه أهله، باحثا عن بيئة آمنة، ولذا اختل عندنا حالة الدولة والسلطان..
5ــ شيوع الترف بين الحاشية وقلة الإنفاق.
تتزايد حاجة الحاكم يوما بعد يوم للمال وللأبهة ومظاهر الملك، حتى لم يعد يكفيه منفردا ما قد يكفي شعبا أو أمة بأكملها، ذلك أن التفرد والأبهة كما يرى الجاحظ من صفات التفرد، والتفرد في المأكل والمشرب والملبس والمسكن من مستلزمات الملك والسلطنة، ولو بوسع الحاكم أن يتفرد بالماء والهواء لفعل! ومن هنا يحاول الحاشية التشبه به إلى الحد الذي يقترب منه لا يزيد عليه أو يساويه، وكل ذلك من عائدات المكوس والجبايات "الضرائب والرسوم" التي هي ملك عام للدولة، فتبدأ من هنا الأحقاد والأضغان بين العامة والحاشية، خاصة مع ضيق ذات اليد وتراجع الحال، ومن ثم تكثر الفتن والقلاقل في الدولة وتتشعب الفئات والجماعات ويكثر الخارجون عليه رويدا رويدا على حين غفلة منه وانشغاله بالملك وإصلاح وضع الحاشية، يقول ابن خلدون: "فتنصرف سياسة صاحب الدولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال ويراه أرفع من السيف لقلة غنائه، فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النفقات وأرزاق الجند، ولا يغني فيما يريد، ويعظم الهرم بالدولة ويتجاسر عليها أهل النواحي، والدولة تنحل عراها في كل طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلاك..فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها وإلا بقيت وهي تتلاشى إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفئ.." ويرتبط بهذا أيضا كما يرى صاحب المقدمة طروق الخلل من جهة تساقط وضعف الشوكة والعصبية التي هي أساس الملك في الدولة حتى "تتجاسر الرعايا على بعض الدولة في الأطراف ويبادر الخوارج على الدولة من الأعياص.. ولا يزال ذلك يتدرج حتى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدولة.." أليس هذا ما نراه اليوم ماثلا بتمامه وكماله، بدأت أصوات الخارجين والمحتجين من أطراف البلاد وأقاصيها وهاهي اليوم على بعد أمتار من دار الحكم، طامعة في الاستيلاء عليه، ولله في عباده تدبير!
6ــ مشاركة الناس أرزاقهم ومعاشهم
إذا أصبح الحاكم أو بعضا من حاشيته مشاركا للعامة من الناس في أرزاقهم ومعاشهم فإنه سرعان ما يدب الخراب ويذبل العمران في الدولة، ذلك أن الحقوق تصير منتقصة والجهود مسروقة، فيحجم الناس عن العمل بعد ذلك لأنهم لا يأمنون على حقوقهم ولا يطمئنون إلى ريعهم، وقد صاروا كالعبيد في الدولة، يقول ابن خلدون: "ومن أشد الظلامات في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق، وذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات.. لأن الرزق والكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران، فإذا مساعيهم وأعمالهم كلها متمولات ومكاسب لهم بل لا مكاسب لهم سواها، فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم ومكاسبهم من اعتمالهم ذلك، فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخريا في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك، وهو متمولهم، فدخل عليهم الضرر وذهب لهم حظ كبير من معاشهم بل هو معاشهم بالجملة، وإن تكرر عليهم ذلك أفسد آمالهم في العمارة وقعدوا عن السعي فيها جملة فأدى ذلك إلى انتقاص العمران وتخريبه.."