تعرّضت المجتمعات العربية خلال أكثر من قرنين إلى عملية تغريب واسعة، حاولت إعادة تشكيل المجتمع على أساس طبقي، حتى يتسنّى بناء النموذج الغربي السياسي الذي يقوم على أساس أولوية المصالح والمنافع المادية، بحيث تصبح المصالح المادية المشكّل للانتماءات الثقافية وأساس التحيّزات السياسية، يعني بناء نظام سياسي يدير تعارض المصالح بين الطبقات ويؤمن بقاءه.
إلا أنّ الدول التي قامت على أنقاض ثورات التحرّر نكصت إلى نموذجٍ لا يشبه النموذج الغربي، وصاغت نموذجها الأسوأ من السيئ، فبنت أنظمة أدارت المصالح المادية لطبقتها فقط، وهيكلت تأبيدها في الحكم.
محاولات صهر المجتمع وطبعه على النظام الجديد المشكّل على أساس طبقي فشل، ولاقى مقاومة كبيرة من بنية المجتمع الموروثة التي ظلت تقاوم تلك التقسيمات، كما فشلت معها محاولات شبكات الحكم المسيطرة على جهاز الدولة في فرض طبقتها الخاصة وهيمنتها الثقافية والقيمية على المجتمع، حتى لو بدا لها ظاهريا أنّها حققتها سياسياً، فيما هي لم تنتج سوى حلقات متتالية من دوائر المستفيدين من النظام الحاكم.
فشلت عملية إخضاع المجتمع لتقسيمات على أساس طبقي مادي، أو مصلحي نفعي، إذ تبيّن أنّ القدرة الطبيعية للمجتمعات على حماية نفسها جعلها قادرة على تشكيل وعي ثقافي منفصل عن كلّ المتغيرات الخارجية.
فإذا كانت الأسس الثقافية والاجتماعية التي تأسّس عليها المجتمع عاملا أساسيا في التجانس والترابط الاجتماعي، وعليها تتشكل مكوناته وتترابط فيما بينها، على أساس ما بينها من قواعد ثقافية وروابط اجتماعية مشتركة، فذلك يمنع تشكّل مكونات غير مترابطة .
مخلّفات ما بعد الحروب الأهلية في أكثر البلدان تخلّف جماعات ومكونات مسلحة، تحتمي بالتعصّب تفرض سيطرتها، مستندة بذلك إلى قانون الغلبة وكيانات وظيفية، تحتمي بحاميها الخارجي، فأصبحت هذه المكونات والكيانات مسيطرة، وتمثل حالة من التعدّد المنغلق على نفسه، المهيمن على الإطار العام خارج كل الانتماءات الثقافية والاجتماعية.
تمنع هذه المكونات أو الكيانات وجود الدولة، بسبب انتماءاتها الضيقة التي فرضتها على النظام العام، وغاب عنها الانتماء العام تحت إطار مصالحها الضيّقة، فما تحتاجه المجتمعات بعد الحروب الأهلية هو إيقاظ الانتماء العام للمجتمع، بحيث يكون فاعلا، الانتماء العام القائم على إدراك المصلحة العامة، وتوحد إرادة المجتمع عاملا ضروريا للم شتات ما تبقى من دولة وإعادة مؤسساتها وشرط أساسي لاستئناف عملية الإصلاح والتغيير.
وتكون حالة تجاوز مخلفات الحرب الأهلية أصعب، حينما ترى المكونات أو الكيانات المسيطرة أنها فرصة لتحقيق طموحها السياسي، فهي بذلك ستستخدم كل ما في وسعها من إمكانات مادية، وإيجاد حالة من الاحتقان الاجتماعي على أساس الهوية، لتتخذ من الأمر دافعا سياسيا يدفع عامة الناس إلى مزيد من التحشيد.
المؤكد أنّ مجتمع ما بعد الحروب الأهلية، إن لم تتأسس بنيته على الموروث الثقافي والاجتماعي وروابطهما المشتركة، سيظل يعاني حالة التفكك والنزاع الداخلي، وتحضر أرضيات لمشاريع الفوضى والتشظي، فعلاج حالة الإقصاء والاستحواذ على السلطة والثروة في الفترة السابقة لن يكون بمحاولة تصنيع تيارات ومكونات تقوم على أساس الهوية أو الجهوية أو المناطقية، يسيطر على الانتماء العام.