لندرك ماذا صنع سبتمبر في حاضر اليمنيين والنُقلة النوعية التي أحدثها في تاريخهم ووجدانهم ومنحى حياتهم؛ علينا أن ندرك حجم وجحيم المعاناة التي اكتوى بنيرانها الرواد الأوائل الذين شقوا تلك الطريق نحو الحرية والنور.
لقد كانت العذابات التي طالتهم من السلطة الحاكمة تهون أمام ما لاقوه من فئات الشعب المختلفة جماعات وقبائل وأفراداً.
وقد ألمح إلى ذلك الزبيري في قصيدة يخاطب فيها الإمام يحيى:
من أين يأتيك العدو وأنت في بلد تكاد صخورها تتشيعُ؟!
- مبادئ كالمساواة والشورى والحكم الدستوري نراها نحن اليوم إنسانية وعادلة وبديهية- لكن في تلكم الحقبة التي مورس فيها تجاه اليمنيين كل أنواع التدجين والتجهيل والاستبداد كان من يدعو لتلك المبادئ تماماً كمن يدعو للكفر والإلحاد في مجتمع محافظ جداً!
ونكتفي هنا دلالة على ذلك بالرواية -التاريخية والموثقة- التي يرويها أحد معتقلي الثورة الدستورية 1948م محمد عبدالله الفسيل، وهي تبين أنه ليس فيما سبق أي مبالغة كما قد يتوهم البعض!
يروي في مذكراته: سُجنت عقب ثورة 48 الدستورية في سجون حجة 7 سنوات..وكانت النساء والأمهات المجاورات لبيتنا يزرن أمي ويسألنها: صحيح أن ولدك اتبع هذا الشيطان الذي يسمونه دستور؟! (كثير من اليمنيين كان يظن أن الدستور رجلاً نصرانياً يريد أن يحتل اليمن بحسب الشائعات التي روجتها السلطة لحاكمة!) هل صحيح أن ولدك دستوري؟!.. وأمي المسكينة تغالب كمدها ودموعها وتدافع عن ولدها أنه ليس دستورياً وأنه مظلوم ...الخ
ولما خرجت من السجن بعد سبع سنوات ووصلت بيتي وبعد السلام والعناق وزوال الوحشة، إذ بأمي تعاتبني:
صحيح ما يقوله الجيران يا ولدي انك دستوري؟! ليش تحرجني يا ولدي أمام نساء الحي؟! .. قل لي أنك لست دستوري سأقبل أي شيء إلا انك تكون كذلك .. الخ. كل ذلك وهي تبكي ودموعها على خدها!
قال ومكثت لديها أقبل يديها ورأسها وأشرح لها ما معنى دستور وأنه وثيقة بين الحاكم والمحكوم يضمن العدل ويمنع تأله الإمام أو أي حاكم ... وإذا بها وقد اقتنعت تنفرج أساريرها وتقول لي إذا كان كذلك يا بني فلماذا لا يكون الناس كلهم دستوريين؟!!
فقلت لها يا أماه إن محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- كان يدعو الناس للأخلاق الفاضلة والقيم الرفيعة ومع ذلك كان الظلمة وأتباعهم من الجهلة ينعتون أصحابه بالمحمديين وكانت كلمة (محمدي) تهمة، وأشاعوا عنه أنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون وسفيه وداعية فتنة حتى شوهوا صورته أمام الناس.
قال: وكانت تلك اللحظات أقسى وأمر على قلبي مما عانيته في سجون حجة على مدى سبع سنوات!
تلك القصة –غيرها الآلاف موثقة في مذكرات وروايات رجال تلك الفترة تختزل حال المجتمع اليمني في حقبة الأئمة.
- ورغم أن 26 سبتمبر لم يحقق أهدافه كاملةً -وذاك أمر طبيعي بل سنة اجتماعية مطردة؛ فلا توجد ثورة حققت أهدافها كاملة- رغم ذلك فلا مقارنة أبداً بين ما قبل ثورة 62م وما بعدها. لكن ما ساعد على نفور الأجيال الحالية من ذكرى ثورة سبتمبر أنها كانت تمرُّ عليهم وهم يرون النظام الحاكم ممثلاً بعلي عبدالله صالح قد صادرها كملكية خاصة به فشعروا أنها لا تعنيهم.. خاصة أنه استخدم إنجازاتها كأداة لإضفاء مزيد من الشرعية لنظام حكمه باعتبار مقارنة ما بعدها بما قبلها يجعله يبدو أقل سوءاً وبشاعة..أو شيئاً محتمَلاً. بينما في الحقيقة أن عهده كان حجر العثرة والعائق الأبرز والأكبر أمام تدفق طموح اليمنيين ومسيرتهم لتحقيق كامل أهداف سبتمبر.
وبالتالي كان معقولاً ومنطقياً ما نشاهده اليوم من احتفاء الأجيال اليمنية غير المسبوق بذكرى سبتمبر بعدما زال النظام الذي كان يتستر وراءها أو يتخذ منها غطاء لسوءاته..طبعاً إضافة إلى استشعارهم لخطورة المشروع الإمامي الحوثي الراهن.
من أراد أن يعرف قيمة سبتمبر وما صنعه فليقارنه بما كانت عليه حال اليمن قبله.. ثوار سبتمبر كانوا يصنعون ذلك؛ ومن يقرأ مذكرات من كتب منهم يدرك ذلك. وبالتالي كانوا يشعرون بنوع من الرضا لما تحقق لليمنيين بعده.
لكن تلك الإنجازات السبتمبرية لم تكن أبداَ -بطبيعة الحال- لترضي جيل 11 فبراير؛ لسببٍ بسيط: وهو أن جيل فبراير لا يقارن واقعه بما كان قبل ثورة سبتمبر فحسب، بل أيضاً هو يقارنه أو يراه على ضوء ما ينبغي أن يكون، والذي ينبغي أن يكون هو أن تتحقق أهداف سبتمبر كاملة.. والذي ينبغي أن يكون هو أن تصل اليمن لما وصلت إليه دول العالم المتحضرة من تقدم ورقي وعدالة ومدنية.
لقد دار الزمن دورته الكاملة ليأتي جيل 11 فبراير ويصنع ثورته التي مثلت وثبة حقيقية وعبوراً واعياً ونوعياً نحو الطموح الحقيقي والفعلي لثوار 48م و 62م واستكمالاً لما لم يُستكمل واستئنافاً لمسيرة اليمنيين نحو دولتهم المدنية المنشودة.. ولذا فإن من الموافقات الملفتة أن من يتمالأ على اليمنيين اليوم هم أعداء سبتمبر وأعداء فبراير معاً؛ الإماميون الحوثيون ونظام علي عبدالله صالح. وكان من البديهي أن نجد أن الثقافة التي تقف في وجه اليمنيين اليوم هي ذات الثقافة التي أعاقتهم بالأمس. بنسخةٍ مطورة لكن بذات المضمون: تمجيد حكم الفرد. تسفيه إرادة لشعب وحريته. رفض قيم الدولة المدنية. إضافة إلى سياسات التجهيل وتزييف الوعي واعتبار القوة والعنف وحصار المدن وسائل لتحقيق الشرعية..
- وكما بالأمس حاصر الملكيون صنعاء وكانت نهايتهم، واليوم يحاصر الحوثفاشيو تعز وستكون تلك نهايتهم. وسيمضي اليمنيون لتحقيق كرامتهم؛ فإرادة الشعب من إرادة الله طال الزمن أو قصر، وإن غداً لناظره قريب.