صمود أسطوري
كنا في الحلقات السابقة، قدمنا عرضاً تاريخياً لعدد من العمليات الإسرائيلية التي ترمي إلى استهداف المقدسات الإسلامية في مدينة القدس بوجه خاص, لهدف بسط النفوذ على المسجد الأقصى وكل ما يتصل به, وذكرنا أنه لم يكن الاستهداف مقتصراً على جانب معين, بل شمل عدداً من الجوانب والتي تسير جميعها إلى ذات الهدف المخطط له منذ فترة طويلة!
ينطلق اليهود "الصهاينة" من دافع ديني وسياسي, ويسعون جاهدين إلى فرض واقع جديد على الأرض, وينظرون إلى الأقصى وما سيخلف أنقاضه حسب يوسي بيلين "إن الهيكل بالنسبة لليهود كما الكعبة للمسلمين!"(1).
وبالنظر إلى تلك المخططات التآمرية الإجرامية، والتي لا تتوقف لحظة, نجد أن عملية التهويد لمدينة القدس هي الأساس في ذلك المخطط, وهي أيضاً واحدة من أخطر الأدوات التي يسير عليها الاحتلال بوتيرة عالية, وباتت كل أعماله تهدد وضع المدينة بشكل كبير, إلى جانب الصيحات المستمرة من المقدسين والذين لا ينفكون التأكيد على خطورة ما يجري, إذا ما نظرنا الى أن وضع المدينة يتغير باستمرار بين سنة وأخرى!
"ولو تتبعنا مسلسل التهويد الذي تواجهه المدينة المقدسة, لوجدنا أنه مسلسل يعرفه الجميع، وإذا أردنا نقل تصريحات ساسة العدو بشأن المدينة وأقصاها، فهي أكثر من أن تحصى، وهي تؤكد أن الموقف الصهيوني منها هو ذاته؛ من آباء الصهاينة الذين قال كبيرهم بن غوريون: "لا معنى لإسرائيل بدون القدس ولا معنى للقدس بدون الهيكل"(2).
وأمام هذه الهجمة الإسرائيلية والخطط الممهنجة التي يسير عليها الاحتلال نحو تهويد القدس وبسط كامل النفوذ على ما تبقى من المقدسات الإسلامية والمسيحية, عمد الفلسطينيون على تأسيس عدد من المؤسسات في الداخل والخارج, والتي يمكن أن تقف الى جانبهم في مواجهة الاحتلال ومخططاته.
هذه المؤسسات استطاعت أن تصمد إلى حد كبير وتمثل السند الأبرز للمقدسيين في الإعانة والصمود، ورفض كامل التهديد والتهويد الذي يمارسه الاحتلال. ومثلت تلك المؤسسات نصيراً بارزاً كان لها الدور البارز كما هي مؤسسة القدس الدولية إلى جانب عشرات المؤسسات في الداخل والخارج.
"فمنذ الاحتلال الكامل للقدس عام 1967 سعت إسرائيل إلى جعل القدس الموحّدة عاصمة أبدية لدولة إسرائيل, حيث شعر الاحتلال أن الوجود الفلسطيني في شطر القدس الشرقيّ المحتل عبء وحجرُ عثرة أمام مخططات ضمّ هذا الشطر وتوحيد القدس, فكان السير نحو ضرب هوية الوجود المقدسي, وربطِ المقدسيين بشكل كامل بمنظومته الاقتصادية والمعيشية والحياتية المختلفة"(3).
بالنظر إلى كل الخطوات التي قام بها الاحتلال سنجد بوضوح أن إسرائيل سعت خلال العقود الماضية إلى استكمال المخطط الاستيطاني الهادف للسيطرة الكاملة على مدينة القدس، حيث عمل على تحقيق ذلك من خلال توسيع ما يسمى بحدود القدس شرقاً وشمالاً، وذلك بضم مستوطنة "معاليه" التي يقطنها حوالي 20 ألف نسمة، كمستوطنة رئيسية من الشرق، إضافة إلى المستوطنات العسكرية الصغيرة مثل "عنتوت، ميشور، أدوميم، كدار، كفعات بنيامين" من الجهة الشرقية، "وكخاف يعقوب، كفعات زئييف، كفعات حدشا، كفعات هاردار" من الشمال.
كل ذلك أدى إلى مضاعفة عدد المستوطنين, وفي نفس الوقت قللت نسبة السكان العرب الفلسطينيين الذين يشكلون ثلث سكان القدس أي حوالي 220 ألف نسمة بما فيها الجزء المضموم 380 ألف نسمة، مع العلم أن عدد المستوطنين في القدس الشرقية يساوي عدد المستوطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة 180 ألف مستوطن(4).
تشير بعض الإحصائيات الأخيرة إلى أن عدد المستوطنات في القدس حسب مركز أبحاث الأراضي 29 مستوطنة، 14 منها في الجزء المضموم من القدس أي ما يسمى حدود القدس الشرقية، وتنتشر هذه المستوطنات في لواء القدس على شكل تجمعات استيطانية مكثفة تتخذ الشكل الدائري حول المدينة وضواحيها ممثلة بمراكز استيطانية كبيرة المساحة.
ورغم المحاولات الكبيرة لتهويد القدس الشرقية فلا تزال نسبة تقارب الـ"20%" من مساحة القدس القديمة في قبضة اليهود في حين أن الـ "80%" الباقية هي ملكية عربية فلسطينية، وإن الاحتلال يفرض سيطرته عليها بالقوة العسكرية فقط, فيما يقدم أبناء هذه الأرض بطولات وصمود أسطوري في الدفاع عن هويتها العربية الإسلامية ورفض ومقاومة كل المحاولات الاستيطانية والعمليات التي تعمل على تجريف الارض ونزع هويتها.
في عام 1967م دخل الجنرال موردخ ايجور المسجد الأقصى المبارك هو وجنوده، ورفعوا العلم الإسرائيلي على قبة الصخرة، وحرقوا المصاحف، ومنعوا المُصلين من الصلاة فيه، وصادروا مفاتيح أبوابه، وأغلقوه على مدى أسبوع كامل، حيث منعوا خلاله الصلاة والأذان, وتمكنت القوات الإسرائيلية حينها من فرض سيطرتها على المدينة التي دخلها موشي دايان وزير الدفاع الإسرائيلي وقتذاك، وخطب قائلاً: "لقد أعدنا توحيد المدينة المقدسة، وعدنا إلى أكثر أماكننا قدسية، عدنا ولن نبرحها أبدًا"(5).
"فالقدس بحاجة إلى إستراتيجية وطنية جديدة لدعم صمود أهلها بالمال والمناصرة والتصدي لمشاريع تهويدها وطرد سكانها الأصليين واعتقالهم، وصون عروبتها, والكشف عن عمليات البيع والسمسرة لأراضي القدس، وعزل المسؤولين الفلسطينيين الذين يعطون لإسرائيل الأحقية في السيطرة على حائط البراق الإسلامي"(6).
الخلاصة
بالنظر إلى أزمة المسجد الأقصى المتعلقة بالحرم القدسي الشريف، والتي بدأت في 14 يوليو/ تموز 2017م وذلك بعد هجوم قام به ثلاثة شبان فلسطينيون، وأسفر الحادث عن مقتل شرطيين إسرائيليين, وعلى إثر هذا الهجوم، قامت الاحتلال بتركيب أجهزة الكشف عن المعادن عند مدخل الحرم الشريف.
كانت إسرائيل تعتمد على استراتيجية رد الفعل دائماً, وهي الاستراتيجية التي كانت تحدث جدل داخل الصفوف الفلسطينية بأن كل فعل له رد فعل سلبي من تجاه الاحتلال, وفي هذه الخطوة الخطرة تجمع آلاف الفلسطينيين عند مداخل الحرم القدسي احتجاجاً على هذا الإجراء ورفضه والتعبير عن ذلك بالمشاركة الجماهيرية الواسعة.
وبعد تجمع الفلسطينيين بذلك الصمود الأسطوري وفي 25 يوليو/ تموز من نفس التوقيت صوّت مجلس الوزراء الإسرائيلي على إزالة أجهزة الكشف عن المعادن واستبدالها بوسائل مراقبة أخرى, ومع ذلك قرر الناشطون الفلسطينيون مواصلة الاحتجاج، مدعين أن هذه الكاميرات تمثل درجة أكبر من السيطرة من أجهزة الكشف عن المعادن.
أعطت تلك الخطوات دفعة كبيرة للداخل الفلسطيني بشكل خاص وللعالم الإسلامي الشعبي, وهنا وجد المقدسيون والفلسطينيون أنهم قادرون على الصمود وحماية المقدسات دون الحاجة إلى المواقف الرسمية العربية والتي كانت في معظمها لا تلبي حتى الحد الأدنى مما هو مناط بها.
...................
هوامش:
(1) كاتب صهيوني يكتب في صحف إسرائيلية منها هاآرتس وإسرائيل هيوم, ويعمل أيضاً أستاذاً في جامعة تل أبيب.
(2) ياسر الزعاترة كاتب فلسطيني مبعد يعيش في الأردن.. المقالة منشورة في إذاعة صوت الأقصى
(3) تقرير صادر عن مؤسسة القدس الدولية عام 2015م
(4) المصدر السابق
(5)عسكري وسياسي إسرائيلي
(6) وسام زغبر كاتب فلسطيني يقوم في غزة