اليمن ومسيرة الإصلاح في التاريخ الحديث
الموضوع: دراسات وتحقيقات

 

1ــــ 4

يتفق المؤرخون أن العالم الإسلامي عموما والعربي خصوصا دخل في ظلمات بعضها فوق بعض في جوانب الحياة المختلفة وذلك بعد سقوط الأندلس، صحيح أن الدولة العثمانية تسلمت راية قيادة العالم الإسلامي وهنا دخل الإسلام إلى البلقان ـــ البوسنة والهرسك ــ حيث كان فتحا جديدا للإسلام بعدما أُثخن في الأندلس، غير ان الدولة العثمانية كانت قوة عسكرية ضاربة، ولم تكن حاملة فكر إصلاحي.
كما أن محاضن الفكر الإسلامي كانت غارقة في فكفكة حروف متون المذاهب وأصبحت متون المذاهب تتمتع بقدسية توازي القرآن. انعكست قدسية متون المذاهب على إنتاج معرفة مغلقة فحوصر العقل بثقافة الإصر والتقليد.

 

الأســس الأولى لـمسيرة الإصــــلاح فــي الــيــمــن


برهنت الحكمة اليمانية في القرن الثامن الهجري أن إقليم اليمن يتميز بخصوصيات عن بقية الأقاليم العربية والإسلامية، كيف لا وها نحن نقف أمام إشراقات إصلاحية جديرة بالعقلاء أن يقفوا عندها ويحنون الرؤوس إجلالا وإكبارا; ذلك أن المسيرة الإصلاحية الحديثة التي يخوضها اليمن في هذه الآونة انما هي امتداد لهذه الأسس التي وضعها أولئك الرواد الأوائل بدءًا من القرن الثامن الهجري.


كانت أسـس الإصلاح الحديث قد بسقت شجرتها منذ القرن الثامن الهجري، وكان رائدها الأول ابــن الــوزيــر، وهو الفقيه المحدث اللغوي المفكر الفيلسوف الأصولي الأديب الشاعر البليغ صاحب العبارة الرصينة والأدب المتين محمد بن إبراهيم الوزير المعروف بابن المرتضى ـ رحمه الله.


بما أن دعوات الإصلاح تأتي عموما بمثابة أسئلة إجابات عن اسئلة الواقع الذي تعيشه فقد جاءت الأسـس الأولى لمسيرة الإصلاح في اليمن، لا اقول انها قد وضعت البذور وانما كانت قد بدت شجرتها باسقة الفروع ضاربة الأصول غليظة الجذع كونها متصلة بمنبع الإصلاح الأول ــ القرآن وصحيح السنة.


نعم لقد كانت تجليات أسس الإصلاح الأولى معالجة للواقع الذي تعيشه النخبة حينها حكاما وعلماء وقضاة وخطباء وأدباء وشعراء، فلقد كانت النخبة تعيش اسوأ حالات التعصب المذهبي الضيق الأمر الذي انعكس تعصبا على بقية جوانب الحياة سلالياً عنصريا جهويا طبقيا وأسريا ناهيك عن الجانب الفكري (عقائد الفرق؛ شيعي، اشعري، صوفي، سني، معتزلي)، فقد كان الجانب الفكري هو مصدر تغذية التعصب في بقية الجوانب ـ فجاءت العقيدة كلاما ضبابيا لا صلة لها بأي دليل من الكتاب أو السنة ـ وإنما متون ــ نخالة أفكار وزبالة صراع وعجاجة ضبابية وليدة صراع متراكم فكان الحصاد هو أن كل فرقة ومذهب يكفرون الفرق والمذاهب الأخرى، وفي أحسن الأحوال يصفون الآخر بفساق التأويل أو كفار التأويل!


لقد تردى العقل المسلم فقهيا وفكريا مرتكسا في حمأة المتون المقدسة عند اربابها كل حزب بما لديهم فرحون!


وكانت شجرة الاصلاح التي غرس فسيلتها المصلح ــ ابن الوزير رحمه الله ـ إجابة على أسئلة المعتقد أولا، متمثلة في كتابه العظيم "ايثار الحق على الخلق في ردجميع المذاهب الى الحق"، باختصار محور الإصلاح الذي قدمه المصلح هو ( القبول بالآخر ) مثبتا أن كل المذاهب تنشد الحق وان أخطأت في التعبير عنه ــ مؤكدا انه لا تكفير في القضايا العقلية المستوحاة من النصوص الاجمالية ـ خصوصا في مجال الأسماء والصفات.


كما قدم هذا المصلح اجابة اخرى هي بمثابة تكملة للاجابة الاولى تمثلت هذه الإجابة بوضع الأصبع علي مصدر الداء القاتل للعقل المسلم الذي اصبح تحت آصار واغلال التعصب، فجاءت الإجابة في كتاب ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان بأسلوب متين رشيق وأخّاذ.


كما قدم هذا المصلح إجابة أخرى في كتاب موسوعي بعنوان "العواصم والقواصم"، كرسه للدفاع عن السنة والهدف هنا هو حصار التعصب ايا كان حيث وضع البوصلة مشيرة للعقل: الطريق من هنا (العودة الي المنابع الصافية الاولى). لقد جاءت الموسوعة الأخيرة في أربعة مجلدات صخمة قاربت زهاء ثلاثة آلاف صفحة أجاب فيها مدافعا عن السنة من ستين وجها الأمر الذي وقف عنده الفقيه الشوكاني قائلا: لو انتشر هذا الكتاب خارج اليمن لكان معجرة لليمن بلا نزاع لكن اليمن تأكل أبناءها!

الــرائــد الــثـانـي:
في القرن العاشر الفقيه المفكر صالح بن مهدي المقبلي رحمه الله ـ، ولقد تسلم راية مسيرة الإصلاح وقدم إجابة أكثر صراحة ووضوحا في كتابه القيم "العلَم الشامخ في النهي عن تقليد الآباء والمشايخ" إضافة الي كتب وبحوث اخرى فائقة العطاء.


لقد كان التعصب السلالي العنصري المذهبي ضارب الأطناب فجاءت مقولة المقبلي التي اشتهرت عنه وهي في غاية الحدة "اعطني زيديا صغيرا أعطك منه رافضيا كبيرا"!


غير ان هذا المصلح لم يكن له ركن شديد يأوي اليه فقد ارتحل مهاجرا الى مكة ويوافيه الأجل هناك. ولقد تميز أسلوبه بالمتانة وجِدّة العبارة والأسلوب الرصين.

الرائد الثالث: الحسن بن أحمد الجلال
فقد سار في نفس الطريق حاملا راية الإصلاح مواصلا المسيرة بقوة واقتدار، انتهي مشواره الإصلاحي بنبذ التقليد والتعصب ومحاربتهما، داعيا الي الكتاب والسنة وله قصيدة مشهورة مطلعها هذا البيت:

الدين دين محمدٍ وصحابه
ياهائما بقياسه ولُعابِهِ


ومع أن هذا المصلح كان ينتسب إلى آل البيت الاّ أنه حورب من الساسة والأقران فاعتزل في منطقة الجراف حتى توفي -رحمه الله ـ وكانت العزلة كذلك مع ابن الوزير وهي ضريبة طبيعية لكل سائر في مسيرة الاصلاح.

 

مسيرة الإصلاح.. العصر الحديث
كانت تلكم هي الأسس الأولى لمسيرة الاصلاح بين الثامن والقرن الحادي عشر الهجريين، ويتخلق القرن الثاني عشر الهجري منبلجا فيه مصلح جديد هو الفقيه المحدث الشاعر الأديب محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني -رحمه الله-.


برز هذا الفقيه والعالم الإسلامي راسفاً في دياجيرالظلام الفكري والعقلي فقدم الكثير من العطاء حيث شرح المتون وعلق عليها متوخيا الدليل، كما الف في شرح احاديث الأحكام ـ واتجه معالجا لجذور المشكلة في كتاب "إرشاد النقاد الى تيسير الاجتهاد"، بين فيه ان الاجتهاد اصبح ميسرا جدا بسبب انتشار الكتب العلمية.


كما ألف كتبا ورسائل في محاربة الخرافة، واشتهر بمصطلح القبورية والقبوريين ـ كما الف كتابا في مصطلح الحديث بعنوان توضيح الأفكار وهو شرح لكتاب تنقيح الأنظار للمصلح الآنف ابن الوزير، وكتابات ابن الامير سهلة مبسطة.


الجدير ذكره ان هذا المصلح الرافض للتعصب والتقليد وهو ينتسب لآل البيت فقد لاقى عنتا واستعديت القبائل ضده وسُجِن غير انه كان قد انشا جيلا فانتشر فكره اكثر من سابقيه في داخل اليمن وخارجها.



الرئد الاكبر والمصلح المظفر محمد بن علي الـــشـــوكــاني
تكللت مسيرة الاصلاح في القرن الثالث عشر الهجري بهذا الفقيه المصلح المحدث الشاعر المؤرخ والقاضي المفسر التربوي بل وعالم الاجتماع ايضا -كما سيتضح لاحقا.


لقد تولي منصب قاضي القضاة (رئيس المحكمة العليا بلغة اليوم) واستغل موقعه في الاصلاح الشامل ولم يشغله منصبه عن مسيرة الاصلاح؛ فقد كتب الكثير في محاربة التقليد وظل مدرسا في حلقات المساجد.


لم بكتف بهذا بل خطا خطوتين جديدتين في مسيرته الاصلاحية وسط حرب شعواء من المتعصبين.


ومن اعماله التجديدية التي جمعت بين النظرية والتطبيق انه الف رسالة صغيرة بعنوان ( الدواء العاجل في دفع العدو الصائل)، والجديد فيها انه قسم المجتمع الي اربع طبقات مشخصا الحالة الثقافية والدينية والاجتماعية لكل طبقة وهنا الجديد انه تطرق لاصل العلة مقترحا العلاج.


فالعدو الصائل هو الجهل والعلاج نشر العلم، وانتقل الي حيز التنفيذ ففتح المدارس في المدن والقرى وارسل المدرسين والمشرفين ورصد الجوائز للمبرزين، وهذا عمل غير مسبوق ونجح فيه كثيرا.

 


فــتــاوى قامعة للطغيان
اشتدت محنة المواطنين والتجار بكثرة الضرائب والاتاوات الي جانب النهب والبطش ولان المذهب الهادوي كان قد ابتدع احكاما فقهية هدفها الابتزاز باسم الدين والشرع كالزكاة على العثرب والحطب والحشيش، غير ان الشوكاني جاء فقرر مذهبه في السيل الجرار الرافد للمواطن، تمثل مذهبه في امور كثيرة، ومنها القول بعدم الزكاة علي البقر وعروض التجارة والعسل.


ينتهي مطافنا مع هذا المصلح الجسور..انه قاد انقلابا ابيض داخل الاسرة الحاكمة عندما اضطرب الوضع واشتد النهب والتقطع والابتزاز للتجار من ضرائب وقطع راتب الجند لاشهر عدة، فما كان من الشوكاني الا ان اخذ بيد ولي العهد وادخله علي ابيه طالبا منه انقاذ الدولة بتمكين ولده من ادارة الدولة ويبقى كل شيء باسم الأب الواهن المتشبث بالكرسي المغرم بذكر اسمه في خطبة الجمعة.


الخلاصة
استقر الوضع بفضل الله ثم بفضل المصلح الشجاع الفقيه الشوكاني -رحمه الله.

الأصلاح نت / خاص / عبدالعزيز العسالي
الخميس 03 مايو 2018
أتى هذا الخبر من موقع التجمع اليمني للإصلاح:
https://alislah-ye.net
عنوان الرابط لهذا الخبر هو:
https://alislah-ye.net/news_details.php?sid=1406