تشهد العملة الوطنية اليمنية تدهورًا كارثيًا غير مسبوق في قيمتها أمام العملات الأجنبية في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا، مما فاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد، وعمّق معاناة المواطنين، وسط غياب أيّ تحرّك جدّي من جانب المجلس الرئاسي والحكومة لمواجهة هذه الكارثة التي أثارت غضبًا شعبيًا واسعًا، لا سيما في محافظة تعز التي تتزايد فيها أوجاع السكان وتتصاعد دعواتهم لاحتجاجات واسعة، رفضًا لهذا الوضع البائس والتهاوي المتواصل.
ووصل سعر صرف الدولار الواحد، الأربعاء الماضي، في المحافظات المحررة إلى 2008 ريال يمني للبيع، و1991 للشراء، بينما سجل الريال السعودي 525 ريالا يمنيا للبيع و522 ريالا للشراء، وفق مصادر صحفية، وهي أدنى قيمة للعملة الوطنية، ليس منذ تشكيل المجلس الرئاسي فحسب، بل في تاريخ الريال اليمني.
هذا الانهيار الحاد وغير المسبوق في قيمة العملة الوطنية، أدى إلى ارتفاع كبير في الأسعار، لا سيما المواد الغذائية والخدمات الأساسية الضرورية، التي باتت أسعارها منذ اندلاع الحرب الحوثية على اليمنيين مرتبطة بقيمة صرف الدولار، وكلما انهارت قيمة العملة الوطنية زادت تكاليف تلك المواد، حتى بات الغلاء فاحشًا، في حين ظلت الرواتب رقمًا بلا قيمة، وسط عجز المواطنين عن تلبية احتياجات أسرهم.
غضب شعبي
خلال الأيام الماضية، عبر اليمنيون في مختلف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي عن غضبهم من انهيار سعر الريال اليمني، منددين باللامبالاة التي تتعامل بها الحكومة إزاء هذا التدهور الخطير الذي يهدد معيشة المواطنين.
وصباح الأربعاء الماضي، شهدت مدينة تعز إضرابًا شاملًا للمحال التجارية ومحال الصرافة، احتجاجًا على انهيار العملة الوطنية وارتفاع الأسعار.
وتزامن الإضراب مع تظاهرة لعشرات المواطنين جابوا شوارع المدينة، ورددوا هتافات غاضبة منددة بالانهيار المتواصل للعملة الوطنية، مشيرين إلى أن هذا الفعل الشعبي هو بداية لثورة ضد الجوع، بحسب مشاركين في المسيرة.
ويتوقع مراقبون أن تشهد تعز ومحافظات محررة أخرى، خلال الأيام المقبلة، تظاهرات شعبية غاضبة وإضرابات واسعة، تنديدًا بهذا التدهور الاقتصادي، في حال عدم وجود تحركات حكومية فعّالة.
أوضاع مأساوية
الأستاذ "عبد الملك عبد الله"، مدرس لغة عربية في إحدى مدارس ريف تعز، تحدث لـ"الإصلاح نت" عن جانب بسيط من المعاناة الموجعة التي يعيشها المواطنون، وفي مقدمتهم المعلمون، في ظل هذا الانهيار المُريع في قيمة العملة والتدهور الاقتصادي المُدمّر.
وقال عبد الله لـ"الإصلاح نت"، إن المستحقات التي يستلمها المعلّم لا ترقى لأن تّسمى "راتبًا"، فهي لا تكفي حتى تكاليف وجبة واحدة يوميًا لأسرة المعلّم، ناهيك عن بقية الوجبات، فضلًا عن بقية الاحتياجات الضرورية، مضيفًا: "راتبي يُساوي 100 ريال سعودي، بمعنى أنه يكفي لشراء كيس دقيق فقط، ولا مجال لشراء غير ذلك، ولحسن حظ بعضنا أن لديهم أبناءً شبابًا يوفرون جانبًا بسيطا جدًا من بقية الاحتياجات، في حين أن كثيرا من المعلمين صارت عندهم البطاطا كالوصول إلى الدجاج واللحوم عند غيرهم، لمن استطاع إليها سبيلًا ".
وأوضح أن المعلمين "يعيشون وضعا مأساويا جدا، بل أصبحوا أكثر طبقة مسحوقة في المجتمعات، وكل ذلك بسبب هذا الانهيار الاقتصادي، الذي لم تحرك الحكومة ساكنا لأجل إيقافه"، لافتًا إلى "ضرورة أن تستشعر الحكومة مسؤوليتها وتخاف الله، وتعمل على إنقاذ العملة أو معادلة رواتب الموظفين كما كانت قبل الحرب"، مشيرًا إلى أن راتبه كان قبل الحرب يكفي لشراء نحو سبعة أكياس دقيق.
غياب حكومي
وفي ظل هذه الأوضاع الاقتصادية المزرية، يتهم المواطنون الحكومة بأنها تتعامل باللامبالاة مع هذه الانتكاسات التي يشهدها الريال اليمني، وعدم التحرك الفاعل لإنقاذ البلد، والاكتفاء باستلام رواتب كبيرة بالعملات الأجنبية، دون شعور بمعاناة الشعب.
وفي هذا السياق، يقول الطالب الجامعي أسامة محمد: "كمواطن يمني، أتساءل: هل فعلا لدينا حكومة ورئاسة؟ أين هم من الأوضاع التي يعاني منها الشعب؟ ما الفائدة من وجودهم وهم لا يقومون بواجباتهم تجاه الوطن والمواطنين؟".
وأضاف لـ"الإصلاح نت": "الريال اليمني ينهار بشكل مخيف، والأسعار ترتفع بشكل جنوني، بينما أعضاء الحكومة يستلمون بالدولار ويتجاهلون كل شيء ويديرون ظهورهم لهذه الكارثة التي توجعنا وتبكينا كمواطنين، وتتعامل معنا بـ(أذن من طين وأخرى من عجين)"، متسائلًا: "متى سيشعر مسؤولو الدولة بالمسؤولية؟ متى سيتحركون لإنقاذ العملة التي تلفظ أنفاسها؟ متى سنراهم مسؤولين حقيقيين يعملون لأجل الشعب؟".
واختتم حديثه مخاطبا مسؤولي الشرعية: "كلمة وعشر (سوا).. إما أن تقوموا بدوركم أو فارحلوا غير مأسوف عليكم.. إما أن تنفعوا الشعب أو أن تنقلعوا.. وبس".
الحكومة: انخفاض غير مبرر
وتزامنًا مع هذا الانهيار، التقى رئيس مجلس الوزراء أحمد عوض بن مبارك، الأربعاء، مع قيادة البنك المركزي، لمتابعة التدخلات المنقذة للسيطرة على أسعار صرف العملة الوطنية، والإجراءات المطلوب القيام بها لإعادة الأوضاع إلى طبيعتها ووقف المضاربات وضبط المتلاعبين، وفق وكالة "سبأ" الحكومية.
وقال بن مبارك: "إن التقديرات المالية والنقدية المؤكدة تشير إلى أن ما حدث من انخفاض في أسعار الصرف وتحديداً خلال اليومين الماضيين غير مبرر أو منطقي ولا يتوافق مع حجم الكتلة النقدية المتداولة"، لافتًا إلى أن "هذا يؤكد أن ما حصل ليس عفويا ويشير إلى مخطط مرسوم نحن مدعوون للتكاتف لمواجهته".
وأشار رئيس مجلس الوزراء إلى أن الانخفاض غير المبرر في سعر صرف العملة الوطنية يجب التعامل معه على أنه معركة توازي في أهميتها المعركة العسكرية القائمة لاستكمال استعادة الدولة وإنهاء الانقلاب الحوثي، ما يحتم على الجميع التعامل معها وفق هذا الأساس، مشددًا على أن المسؤولية تكاملية ويجب تكاتف الجهود بين الحكومة والبنك المركزي اليمني لوضع حد لهذا العبث في أقوات ومعيشة المواطنين، فالمواطن لم يعد يحتمل أي أعباء إضافية في الجانب المعيشي، بحسب وكالة "سبأ" الرسمية.
المليشيا الحوثية.. مسؤول ومستفيد
ويتفق اليمنيون على أن السبب الأول لهذا التدهور الاقتصادي هو الانقلاب الحوثي على الشرعية الدستورية وإرادة المواطنين في سبتمبر 2014، وأن المليشيا ذاتها هي المستفيد أيضا من استمرار هذا الانهيار لقيمة العملة الوطنية في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دوليا.
فالمليشيا القادمة من الكهوف لم تكتفِ بالتهام الأخضر واليابس وتعطيل عجلة الحياة بانقلابها على الدولة، بل سعت لخلق انقسام مالي وشرخ اقتصادي بين الشعب اليمني وداخل البلد الواحد. ففي 18 ديسمبر 2019، وجهت المليشيا بحظر تداول العملة الجديدة من العملة الوطنية المطبوعة في روسيا، وهي من فئات 100 و200 و500 و1000 ريال، بعد أن كانت البنوك ومحال الصرافة والشركات والمواطنون قد تداولوها بشكل واسع في صنعاء وعموم مناطق سيطرة الحوثيين.
كما ازداد تدهور العملة الوطنية في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية عقب الهجوم الذي شنته مليشيا الحوثي على ميناء الضبة في محافظة حضرموت بطائرة مفخخة، في 22 نوفمبر 2022، وهو ثاني هجوم خلال ذات الشهر، وأعقبه إعلان الحكومة المعترف بها توقّف تصدير النفط الذي كانت عائداته تدعم خزينة الدولة بالنقد الأجنبي.
وحينما أصدر محافظ البنك المركزي اليمني أحمد غالب المعبقي، في 30 مايو 2024، قرارا بوقف التعامل مع 6 بنوك في صنعاء كان قد أمهلها شهرين لنقل مراكزها الرئيسية إلى العاصمة المؤقتة عدن، وما تبع ذلك من قرارات وتوجيهات بنقل السويفت عن هذه البنوك، فضلا عن التوجّه لإلغاء العملة القديمة، وجدت مليشيا الحوثي نفسها في مأزق وزاد صراخها وتصريحاتها التهديدية، ليأتي بعد ذلك المبعوث الأممي غروندبرغ منقذًا لها، فتراجعت الحكومة عن قراراتها تحت الضغط الأممي والإقليمي، وأحدث تراجعها استياء واسعا في أوساط اليمنيين.
دعوة لتحرّك حكومي عاجل
بدوره، يرى الصحفي وفيق صالح، المختص بالشأن الاقتصادي، أنه "من المهم أن تبادر الحكومة خلال الوقت الراهن إلى دراسة وتشخيص المشكلة ومعرفة الأسباب والعوامل التي أدت إلى انهيار العملة الوطنية بشكل معمق، ومن ثم البدء بوضع الحلول والمعالجات التي تحد من تفاقم الأزمة، وتحافظ على الاستقرار المطلوب للعملة الوطنية في سوق الصرف".
وقال صالح لـ"الإصلاح نت": "عندما ننظر ونبحث عن أسباب مشكلة انهيار العملة، نجد أنها بسبب شحة النقد الأجنبي في السوق المحلية، وتوقف المصادر المستدامة من العملة الصعبة للبنك المركزي، إضافة إلى الانقسام النقدي الذي خلق بؤر استنزاف كبيرة للنقد الأجنبي في مناطق الشرعية"، مضيفًا أن "هذا الوضع يتطلب من الحكومة سرعة إعادة تفعيل وإنتاج الصادرات النفطية، وإعادة ضبط النظام المصرفي، وتنفيذ سياسة نقدية صارمة، وفرض رقابة شديدة على أسواق الصرف، بحيث يتدخل البنك المركزي في تثبيت سعر الصرف عند مستوى محدد، ومكافحة المضاربين والمتلاعبين بالعملة، الذين ينشطون بشكل مكثف، للتأثير على قيمة العملة الوطنية، والإضرار بسوق الصرف".
سيناريوهات
في ظل هذا الانهيار الاقتصادي المتسارع، يعتقد الصحفي "محمد السامعي" أن "قضية إنقاذ العملة مرهونة بشكل أساسي في الحصول على دعم مالي عاجل من المانحين، خصوصا السعودية والإمارات، ومن دون ذلك لا يمكن تصور حلول سريعة نتيجة استمرار توقف تصدير النفط وتمسك مليشيا الحوثي بموقفها الرافض لإعادة التصدير، فضلا عن استمرار التطورات الإقليمية التي أثرت على اقتصاديات معظم الدول".
وفي حديثه لـ"الإصلاح نت"، توقّع السامعي "ثلاثة سيناريوهات بشأن مستقبل الريال اليمني؛ السيناريو الأول، حصول الحكومة على دعم مالي عاجل عن طريقه يتم منع تدهور جديد للريال اليمني، بمعنى إبقاء الدولار بسعر ما دون 2000 ريال، وهو السيناريو الذي قد يحدث".
وأضاف أن "السيناريو الثاني، عدم الحصول على دعم مالي ما قد يؤدي إلى استمرار تدهور الريال اليمني، يصاحبه تضخم في الأسعار والفقر وفي السخط الشعبي ضد الحكومة والتحالف، بينما السيناريو الثالث يتمثّل في التوصل إلى اتفاق بين الحكومة والحوثيين بشأن الملف الاقتصادي خصوصا إعادة تصدير النفط، وهذا أمر مستبعد على المدى الزمني القريب".