في منتصف القرن الماضي حين كان القبائل في عمق الشمال يلتمسون بركات السيد ويحنون رقابهم لتقبيل يده وركبته، كانت نفس الشاب سليمان الفرح تشمئز لتلك المناظر وبدأ بفطرته النقية يتلمس طريقاً نحو النور.
ومع نظرائه بدأ "الفرح" يردد وراء الفقيه في معلامة قرية الشعر عزلة النظير التابعة لمديرية رازح شمال محافظة صعدة، آيات القرآن وحروف الهجاء، إلا أنه ورغم سنه المبكرة قد هاله منظر رفقته الطلاب وهم ينحنون لتقبيل ركبة الموجه "الممتحن" الذي يأتي في زيارة المعلامة ليتأكد من حفظ الطلبة للآيات. رفض يومها الإنحناء وتقبيل ركبة الموجه لأنه اعتبرها نوعاً من العبودية والإذلال، وتلقى يومها بالرضى عقوبته الضرب المبرح جزاءً لتمرده على المألوف ورفضه تقبيل ركبة السيد.
في مذكراته التي دونها قبل وفاته أشار المناضل الراحل سليمان الفرح لتلك اللحظة التي استعادها من ذاكرة غضة لا يعي من شؤون الحياة الكثير، وهو بهذا يشير للموقف الذي أسس لانطلاقة سيرة مختلفة ومتميزة عن أقرانه الذين تلقوا تعليمهم التقليدي وكان صلب العملية التعليمية قائماً على تقديس "السيد" في بيئة "تكاد صخورها تتشيعُ".
في العام 1934 ميلادية ولد الفرح وهي فترة الميلاد الفعلي للحركة الوطنية التي بدأت مشوارها النضالي الطويل لمحاولة تحرير الشعب اليمني من ربقة الإمامة، وحين كان فتىً يافعاً رأي بعينيه كيف جر الإمام أشقاءه رهائن لضمان الولاء الكامل من والده كأحد وجهاء وأعيان المنطقة.
وفي منتصف الخمسينيات وتحديداً في العام 1954 سافر الشاب العشريني إلى المملكة السعودية التي تبعد حدودها عن قريته بضعة كيلومترات وهناك عمل في البناء واكتسب المهن والحرف اليدوية لكن نزعته نحو النور دفعته مع ذلك إلى اكتساب المعرفة والثقافة وهناك بدأت متابعته للإصدارات والكتب التي يؤلفها رجال الحركة الوطنية.
يذكر الفرح في مذكراته التي عنونها بـ"مذكرات من حياتي" أنه في سنوات الغربة التي امتدت ست سنوات تعرف إلى رئيس الجالية اليمنية هناك رجل الأعمال علي سعيد الأصبحي ومن خلاله اطلع على المؤلفات الشعرية والفكرية للزبيري (صلاة في الجحيم، واق الواق، الإمامة وخطرها على وحدة اليمن) وجميعها من متون الثقافة المرجعية والتأسيسية للجمهورية.
عاد المغترب إلى قريته ليس ككل المغتربين الذين يعودون بالمال والهدايا وإنما عاد إلى جانب ذلك بوعي عالي جعله يشعر أن مسؤوليته تجاه مجتمعه تقتضي نشر الوعي والمفاهيم التي اكتسبها في المهجر لرفاقه من الشباب الذين كبلت عقولهم قيود الجهل والخرافة التي فرضتها الإمامة.
الثورة وحصار السبعين
ما إن قامت الجمهورية وسمع بيان الثورة من إذاعة صنعاء وصوت العرب في القاهرة حتى غمرته الفرحة وصدق يقين انتظره طويلاً منذ عودته من المهجر، وواجه وراقب هو وعدد من طليعة مشائخ صعدة الجمهوريين مجلي وشويط، الحشود والمعسكرات للإمامة في جبال صعدة ورواج دعايتها في تشويه النظام الجمهوري والشخصيات الوطنية؛ يقول الشيخ الفرح "رغم سذاجتها كانت تنطلي على المواطنين حيث لا يعرفوا سوى الأئمة الحاكمون باسم الله في الأرض وبزوالهم ستزول الأرض.
بعد أسابيع من قيام الثورة تمكن الشيخ الفرح من السفر إلى العاصمة صنعاء والاتصال والقرب من قيادة الثورة الرئيس المشير عبدالله السلال والفريق العمري واللواء حمود الجائفي وأركان الجيش محمد مطهر وعلي سيف الخولاني والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر والمطري وقايد بن راجح.
نهض الشيخ الفرح بدوره الوطني القتالي في معارك الجمهورية مع الإمامة كر وفر في جبال صعدة ومساندة وجود القوات الجمهورية حتى مطلع نهايتها في السبعينات، وإبان ملحمة حصار السبعين على صنعاء 1968 تواجد ببسالة داخلها وحول محيطها فشارك ومشائخ رازح صعدة في أشهر معارك منطقة عصر والتقدم إلى حزيز على خط النيران وكانت في شهر رمضان مع كبار ضباط الجيش بقيادة الفريق العمري. "وقد أُصبت أنا والأخ عوض صالح وعلي حسن المراني من حيدان وأسعفنا الفريق حسن العمري بنفسه بسيارته وأوصلنا إلى المستشفى العسكري وقد كان مبنى بسيط جداً ما يقارب من ثلاث غرف أنشئ هدية من دولة المجر ولكن رغم بساطته كان الاهتمام كبيراً والخدمات متوفرة انزلوا جميع المصابين فيه وقد كانت إصابتي شظية في العين اليمنى وفي الظهر، كان هناك تعاون وتعاطف كبير من الجميع من الجمهوريين.
ما ان تحسنت حالته بعد الإصابة كان الضرب المدفعي من القوات الإمامية على إحياء ومساكن العاصمة مستمراً وعنيفاً، وانتقل وجماعته إلى تبة المطلاع المسمى الآن تبة دارس فوق خط صنعاء مأرب بيقين عدالة ومشروعية الحرب للدفاع على الثورة والجمهورية بالمعنوية القتالية والمساواة يضيفها إلى رصيد رفاقه من جيش ومقاومة شعبية "ان أُقتل في المعركة ولا أُقتل في المدينة".
العمل الإداري
بعد دحر القوات الإمامية وفك حصار صنعاء طُلب الشيخ الفرح من رئيس الأركان النقيب عبدالرقيب عبدالوهاب ومدير الاستخبارات العسكرية العقيد سلطان القرشي، ما أقرته القيادة العامة للجيش "إنشاء معسكر في عبس مركز محافظة حجة بهدف تجميع القبائل والمشايخ للانضمام تحت لواء الجمهورية، للحفاظ على المناطق المتاخمة والحدودية الواقعة تحت سيطرة الجمهورية وبتقديره استجاب لمهمة عسيرة لم تفلح إلا عند انعقاد مؤتمر عبس عام 1969، غير أنه تم تكليفه عاملاً على قضاء ميدي (مقام مدير المديرية حالياً) وهي مركز حيوي بمينائها على ساحل البحر الأحمر.
الأعمال الإدارية التي تولاها في عدة مديريات محافظة حجة بين 1968- 1978 في كُلَّ منها قَوِيَ بالمسؤولية وتوفير الخدمات لدولة شحيحة الموارد وقليلة الرزق وبكلمة واحدة كان "راعٍ مسؤولاً عن رعيته" أحوالهم ومعاشهم، خزائن القمح والطعام، حفر الآبار، تشجيع زراعتهم، بناء المدرسة وتوفير المعلمين، إنشاء وإصلاحات المكاتب الحكومية في مراكز قضاء ميدي، كسب وثقة وتعاون الأهالي، وأهمها ما كانت في ميدي من اقناع كبار المسؤولين بتشغيل الميناء بُغْيَة ان يستأنف الناس نشاطهم ويسهل لأهل الجُزر أسباب العيش والاستقرار ويخدم مناطق الجمهورية، وكل فعل مُنجز قام به الشيخ الفرح يخص ذكر الشخص الذي منحه الثقة تعاوناً ودعماً كمحافظ وقائد لواء حجة العميد مجاهد أبو شوارب.
في ماضي حرب الإمامة وحاضرها الحوثي طُمرت محافظة حجة ومديرياتها بالألغام من جراءها حُصدت أرواح بشر، في أكتوبر من 1968 كان الشيخ الفرح مع أحد المشائخ ومرافقيهم في طريقهم إلى محافظة الحديدة عبر طريق حيران؛ وأثناء السير انفجر لغم بترت قدم السائق وتوفي أحد الجنود وأخبره أهالي ميدي بعد الحادث وإصابته بجروح طفيفة ان عاملان سابقان افتكت الألغام والعبوات الناسفة المزروعة بحياتهما.
التعاونيات
أفرد الشيخ الراحل الفرح حيزاً في مذكراته حول تجربته مع الحركة التعاونية الأهلية للتطوير التي نشطت بعد استقرار النظام الجمهوري عام 1970 عهد الرئيس عبد الرحمن الارياني، وقد خصص نسبة ٢٥% من الزكاة لمشاريع التعاونيات التي بدأت كتجربة في مراكز المحافظات والعاصمة صنعاء وتوسعت في عهد إبراهيم الحمدي حيث وصل لرئاسة هيئتها قبل صعوده السلطة ثم توسعت في عهد الرئيس علي عبد الله صالح.
من صلب التعاونيات ونجاحها هي شق الطرقات وهو أول توجه للثورة وجمهوريتها السبتمبرية كشريان حياة بين المحافظات والمديريات والعزل استهدفت بدرجة رئيسية التواصل بين المجتمع اليمني والخروج من العزلة، في 1978 زارت كاميرا برنامج صور من بلادي للمذيع الشهير محسن الجبري صعدة وظهر الشيخ الفرح رئيس هيئة تعاون بلاد رازح وأمين مجلس التعاون للمحافظة متحدثاً عن مشاريع ربط الطرقات الحدودية بين المديريات بجبالها الشاهقة وعدد المدارس والمستوصفات الصحية، تغنى أمام الكاميرا أبناء وطلاب مدرسة النظير رازح للعامل والفلاح.
يشدد الشيخ الفرح على أهمية ان تنشر المناهج التربوية في كل المراحل الدراسية ثقافة وتجربة الحركة التعاونية فهي ستحقق الإحساس الوطني للنهوض بالمجتمع واستقرار نظامه السياسي، وخارجياً مَثَلَ الاتحاد العام لهيئات التعاون اليمني في المؤتمر التعاوني العربي الذي انعقد في العاصمة المغربية الرباط 1983.
يتحدث الشيخ سليمان عن بعض نعم اليمن الجمهوري في نشر التعليم والطرق والعوامل التي من خلالها استطاعوا اقناع المواطنين الدفع بالأبناء للمدارس فهناك حرب ضروس ضد التعليم، وكيف تأثر اللواء حمود بیدر محافظ صعدة عندما قام بزيارة رازح و"شدا" على حدود السعودية وفي الاحتفال قام أحد الطلاب بإلقاء كلمة ترحيبية تأثر الجميع بها وكان المحافظ بيدر يقول من كان يتصور وجود من يقرأ في شدا. ولا أحد ينكر أنه بفضل الله ثم بفضل الثورة المباركة أنشئت المدارس في جميع مناطق المحافظة.
يقيم الشيخ الفرح سنوات الرئيس الشهيد الحمدي الذي زار مديرية كشر وهو عاملاً فيها "بصاحب نشاط كبير وطموح عظيم ومهارة عالية في ترتيب وتحديث آلية السلطة والنظام كما كان ذو تواضع ونفس بسيطة ولسان بليغ وخطاب مؤثر، ومن أبرز معالم حكمه إنشاء لجنة التصحيح ومما يسجل له محاربته الظاهرة الرشوة ومراقبته لموظفي الدولة مع رعايته لهم وقد أنشأ جمعية خاصة بالموظفين توصل المواد الغذائية لهم في كل مركز شهرياً، وقد انعدمت ظاهرة الرشوة تقريباً فقد اقتنع واقتنعوا.
العمل السياسي والحزبي
سياسياً الشيخ الفرح شغل عضوية مجلس الشعب التأسيسي ومن ثم الشورى، وتعين بقرار جمهوري العام 1980 ضمن 50 عضو للجنة الحوار الوطني التي كان عليها انجاز الميثاق الوطني كمنهج فكري يملأ الفراغ السياسي التنظيمي وهو ما استند عليه تأسيس المؤتمر الشعبي العام الذي استمر على مدى دوراته الانتخابية عضواً في اللجنة الدائمة حتى قيام الوحدة والتعددية السياسية ليكون من مؤسسي التجمع اليمني للإصلاح ورئيس هيئة شوراه المحلية فرع صعدة.
طوى الشيخ الفرح حياته حزيران 2014 وقد شاهد الفتنة الحوثية وحروبها الست من مشفى علاجه، لكن تلطف الله بهمه الوطني حيث لا شيء سيكسره ما كسر وطناً وشعباً ليلة 21 سبتمبر وقد تعاظم تراخي الدولة في قمعها للتمرد الذي أبدى عليها من وقتٍ مبكر أسفه وأساه.
لدن الشيخ الفرح من الولاء الجمهوري الخالص والوعي الثقافي السياسي المتقدم، إذ يتجسد في ثنايا سيرته دون أن يقع في ما وقع فيه، ولازال إلى يومنا هذا سياسيون ومثقفون ومؤرخون إذ يؤرخون لليمن الحديث بخروج جيش الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وتسلم الإمامة المتوكلية الجزء الشمالي من اليمن.
بينما يحدد الفرح تاريخ اليمن الحديث بالثورة السبتمبرية وجمهوريتها بزوال الحكم الإمامي وهدم نظريته المحنطة لحكمه وتغيير حال بنية المجتمع المتخلف على كل المستويات إلى وضعه السليم