لم يكن الثالث عشر من سبتمبر/أيلول 1990م نهاراً اعتيادياً في عاصمة الحضارة صنعاء ، بل كان يوماً مشهودا تم فيه الإعلان عن ميلاد حزب «التجمع اليمني للإصلاح» على يد كوكبة من رجال ونساء اليمن ينتمون الى مختلف المحافظات المنتشرة على الجغرافيا اليمنية بعد اعلان الوحدة التي سبقت هذا الحدث ببضعة أشهر فقط ، وتوزع المؤسسون بين كل الفئات الاجتماعية والعمرية والمهنية ، ومنذ ذلك اليوم بدأ الإصلاحيون في نسج مسيرة بناء وعطاء امتدت حتى اليوم لثلاثة عقود وبضع سنين سجل فيه الإصلاح مواقفاً أقل ما توصف بأنها "خالدة" وصنع فرقاً في ميدان العمل السياسي في كل المحطات وعلى كافة الأصعدة ، وشكل الوطن الجامع أهم أولويات الإصلاح كحزب ولد من رحم الأرض اليمنية الطيبة ، وتشرب أعضاؤه عذب ماء هذا الوطن ونهلوا من معينه الذي لا ينضب ، فكان الارتباط بالذات اليمنية العريقة والانتساب إليها مدخلاً مهماً يحدد مواقف الإصلاح في كل القضايا والأحداث التي صنعها أو كان جزء منها .
الارتباط بالجذور
لم تكن ولادة التجمع اليمني للإصلاح كحزب رسمي وفق الأطر السياسية مجرد عملية استجابة للتغيرات التي تلت إعلان الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990م ، بل اختار الإصلاحيون يوم أن أعلنوا حزبهم صناعة مشروع تنويري يمتد ارتباطه إلى الجذور التاريخية للذات اليمنية ، وهي جذور ضاربة في أعماق التاريخ والحضارة ، فاختار الإصلاح لنفسه اسما ومنهجاً يعبران عن هذه النزعة التي تمتد إلى عمق الحياة السياسية اليمنية والتي شهدت حركات إصلاح وتنوير في مختلف حقبها التاريخية .
يؤكد التاريخ أنه لا تخلو فترة زمنية من ظهور مشروع إصلاحي تنويري وبروز حامليه إلى واجهة الأحداث وإن اختلفت المسميات وتعددت الأهداف كأبي محمد الحسن الهمداني ( 893 - 947 م) ، ونشوان بن سعيد الحميري ( 1107م - 1178 م) ، ومحمد بن إسماعيل الأمير ( 1687 - 1768) ، وصولاً إلى القاضي محمد محمود الزبيري (1910- 1965م) وأحمد محمد نعمان (1909م - 1996م) ورفاقهم المناضلين ، وكل هؤلاء شكّلوا مشاعلاً للنور وواجهوا المشاريع الهادمة اجتماعياً وسياسياً ، وقدموا تصورات مختلفة لإصلاح المجتمع والنظام السياسي تنوعت وتعددت بحسب كل مرحلة زمنية ، لكن كل دعوة إصلاح أو حركة تجديد كانت تشكِّل امتداداً طبيعياً للحركة الإصلاحية اليمنية التي جعلت الطريق معبداً لظهور كيان يمني خالص تبلور في قالب سياسي حين أعلن التجمع اليمني للإصلاح عن ذاته .
مسيرة سياسية ناصعة
شكلت ولادة «التجمع اليمني للإصلاح» تعبيراً عن رغبة حقيقية من قبل أعضائه في تقديم تنظيم سياسي مدني الهوى يمني الهُوية ليشارك بفاعلية وإيجابية في بناء الوطن وتنميته واستقلاله وحرية أبنائه ، وحرص الإصلاح على أن يرسم بأدائه صورة ناصعة للعمل السياسي المدني، ويعزز قيم التنافس المرتكز على أساس البرامج والأهداف والرؤى محتكماً إلى المحددات الديمقراطية سواء في البناء الداخلي للحزب أو في العملية السياسية الوطنية ، سالكاً درب المنافسة الشريفة واحترام التعددية السياسية ، وتقديم نموذج حزبي مدني يرتكز على خدمة الوطن والمواطن .
طوال مسيرته السياسية حمل حزب الإصلاح مسؤولية أخلاقية وسياسية تمثلت في تأصيل عقيدة وقيم وأخلاق وتاريخ وتراث المجتمع اليمني، كما حمل على عاتقه مهمة مقدسة تمثلت بإرساء قيم الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية ، والاحتكام لنتائج الممارسة الديمقراطية وسيادة النظام والقانون، كما انتهج نبذ العنف والتطرف والاستقواء بالسلطة أو الاستيلاء عليها قسراً، واتجه بكل ثقله وأفراده وإمكانياته إلى الحفاظ على مكتسبات الوطن وتأصيل النظام الجمهوري ودعم وحماية الدولة اليمنية كمنجزات وطنية لا يمكن التفريط فيها أو القفز عليها.
تجربة تستحق الدراسة بعمق
يمكن القول أن تجربة الإصلاح فريدة وجديرة بالدراسة والتعمّق، وخاصة أنه مارس العمل السياسي من مختلف الزوايا وفي كل الظروف، فقد كان شريكاً في أكثر من حكومة، ومارس المعارضة في أكثر من مرحلة، وخاض التغيير عبر صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية والنقابية، وأطلق مشروعه للنضال السلمي لإصلاح البلد دون الانزلاق للفوضى والعبثية، وحين انقلب الحوثيون وعاثوا في الأرض فساداً وسقطت البلاد في كنف انتفاشة مشبوهة وانقلاب مقيت وكثر اللون الرمادي في الشارع السياسي، اختار الإصلاح أن يكون ثابتاً على لونه فظل جمهورياً لامعاً، وانحاز للقيم التي تأسس عليها، واختار أن يكون في صف الجمهورية وتحت راية الوطن الكبير.
المسار الذي اختاره الإصلاح والمرتبط بمصلحة الوطن العليا في المرتبة الأولى والتزامه بمواقفه وقيمه ومحدداته في مختلف المحطات تحمل لأجله ضريبة باهظة ودفع أثماناً كبيرة لمواقفه المنحازة للوطن، وشملت هذه الضريبة المضايقات على كل ما ينتمي للحزب ، والتضييق على الأعضاء والمؤسسات التي يديرونها والفصل والتهميش، ثم انتقلت إلى القتل والاختطاف وتفجير المنازل، واضطر كثير من قياداته وأعضائه إلى النزوح أو الاختفاء أو الهجرة القسرية، ومع هذا كله صبر الإصلاح ولم تدفعه كل هذه الممارسات إلى الارتداد عن أي من القيم والمبادئ التي حملها ودافع عنها منذ تأسيسه ، وعلى راسها الانحياز التام للوطن ونظامه الجمهوري ، ونبذ التعصب لعرق أو لون أو نسب ، ومحاربة الطائفية والعنصرية بأشكالها الواضحة والمقنّعة .
الوطن أولاً وأخيراً ..
محطات عديدة وأحداث متتابعة أكدت أن الانحياز الكامل لصف الوطن أضحى سلوكاً إصلاحياً لصيقاً بامتياز ولا يمكن تجاوزه أو الطعن فيه ، وطوال تاريخه السياسي اتخذ الحزب قراراته المصيرية والمرحلية بما يتناسب مع المصلحة الوطنية العليا مغلّباً لها على مصلحة الحزب وأعضائه الذين تفهّموا هذا المسلك وساروا عليه وفي رحابه ، ولأن الإصلاح كبيراً بِكِبَر ما يحمله ويسير عليه خابت كل المساعي للانتقام منه وإلغائه أو حتى تهميشه ، وخرج من كل جولة منتصراً مضيفاً لرصيده المزيد من المكتسبات والتي يسخّرها دوماً لخدمة الوطن وضمان أمنه واستقراره ، وظل في كل مرحلة يوجه أعضائه ومناصريه للمشاركة بفاعلية في بناء الوطن ، ويحضهم على تقديم أجمل ما لديهم من خبرات وإبداعات لإضافة قيمة نوعية ترتقي بالمجتمع اليمني ، وتنمّي قيم الحرية والعدالة والمساواة .
ينتصر الإصلاح حين ينتصرُ الوطن ، وكل جرحٍ في اليمن الكبير يمتد نزفه إلى كل إصلاحيٍ وإصلاحيةٍ على امتداد الجغرافيا اليمنية ، تلك حقيقة أكدتها عقود من الأداء السياسي الذي يواكب الهم الوطني بإطاره الجامع الذي من أولى أولوياته أنه يجمع ولا يفرق ويصلح ولا يفسد ويبني ولا يهدم.
الوطن أولاً والوطن أخيراً ، وما بين ذلك مجرد تفاصيل لا تعني شيئا للإصلاح ، لكنها تعني الكثير فقط حين تكون نتيجتها النهائية تحويل هموم قيادات وأعضاء الإصلاح ونشاطهم وابداعاتهم إلى مسار التنمية والبناء والانجاز تحت سماء الوطن الفسيح الذي يتسع للجميع ولا تحتكره فئة أو طائفة ، ولأجله تهون التضحيات وتسخر القدرات والأوقات .. وذلك ما علّمنا إياه الإصلاح منذ بزوغ شمسه وحتى اليوم.