مدخل: مصطلح الاستخلاف وعلاقته بمنظومة الآليات السياسية
قبس من الذكر الحكيم:
قال تعالى: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ولا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" (النور: 55).
أولا، منطوق النص ومفهومه:
1- تضمن النص حرفيا مصطلح الاستخلاف.
2- مصطلح الاستخلاف اكتنزت فيه منظومة الآليات السياسية.
3- يمكننا تقسيم منظومة الآليات إلى محورين كما يلي:
- محور الأسس.
- محور المكونات.
تفصيل الحديث عن المحورين لاحقا.
4- مصطلح الاستخلاف أعطانا مفهوما دلاليا عقديا مفاده أن الكون كله سيزول ولكن وعد الله بالاستخلاف باق سرمدي ببقاء قيومية الله جل جلاله.
5- قرر النص بوضوح أن الإيمان والعمل الصالح - الشامل - هما المرتكزان اللذان يقوم عليهما الاستخلاف، وقرر النص الأمن الشامل والتمكين - ثمرة الإيمان والعمل الصالح.
6- دلالة النص على سنن الله في الاجتماع مفادها أن الإيمان بالله والعمل الصالح هما السنة المجتمعية المضطردة التي قام على كاهلها الاستخلاف الحق - الحافظ الأمين والحامي لكرامة الإنسان وحقوقه - فردا ومجموعا عبر تاريخ الأمم.
7- النص قرر حرفيا الحكم بالكفر والفسق ضد من لم يصدق بوعد الله ويلتزم به: "ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون".. وهنا سؤال مهم جدا هو: الحكم بالكفر مفهوم المعنى تجاه من لم يصدق بوعد الله كونه غير مؤمن ولا عمل صالحا، فما معنى حكم الفسق؟ والجواب: السياق القرآني كفيل بالكشف وتجلية استعمال القرآن لمصطلح الفسق.. نكتفي بإيراد شاهدين: الأول، قوله تعالى: "فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين".. فالدلالة هنا استخفاف الطاغية بعقول من حوله.
الشاهد الثاني، دعاء موسى عليه السلام.. طلب موسى من قومه الدخول إلى أرض الكنعانيين لإصلاح المجتمع وقيادته فرفضوا.. هنا نجد موسى دعا ربه قائلا: "ربي إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين".. صفة الفسق أنهم لم يحترموا عقولهم.. فلم يؤمنوا بوعد الله.. إذن، فلا عمل صالح.. النتيجة: تمرد أحمق ضد سنن الله في التمكين - أسوأ دركات الحماقة أن تهدم سنن نجاحك.. فأين العقلانية؟
ثانيا، منظومة مكونات الآليات السياسية:
1- العلم المنافي للجهل: من نافلة القول إن العلم يسبق كل الأعمال، قال تعالى: "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات".. أيضا نصوص القرآن دلت حرفيا أن وظيفة الرسل جميعا هي تعليم المجتمعات: "ويعلمهم الكتاب والحكمة".. إنه يقول لنا حشو الأذهان بالمعلومات هيهات أن يخدم المجتمع.
وعليه يجب فرضا تعليم الحكمة - مقاصد العلم وأهدافه كونه سنة الله الناهضة بالمجتمع بما في ذلك معيارية العقل وآليات التجديد وجودة التفكير والرشد العقلي.
وهنا نعرف عظيم حكمة الله إذ قال: "وعلم آدم الأسماء كلها".. وتعليم نوح عليه السلام: "ويصنع الفلك بأعيننا".. وتعليم داوود عليه السلام: "وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم".. وتعليم عقيدة الأسباب لذي القرنين: "وآتيناه من كل شيء سببا • فأتبع سببا".. إلى قوله تعالى: "ما مكني فيه ربي خير".
إذن، تعليم العلم بدأ سماويا عبر الرسل عليهم السلام.. بصيغة أوضح: بذور بناء الحضارات علم سماوي، فكيف نقبل بتلكم التخاريف المادية حول الإنسان الأول، كونها خرافات حمقاء ضد الوحي المعصوم المحفوظ.
من جهة ثانية، دلت النصوص أن العلم - إجرائيا - قد تبوأ صدارة منظومة الآليات السياسة - أسسا، ومكونات، ومواكبة، وتقييما.
ولا شك أن منظومة المكونات تستدعي التعاطي المتسلسل.. ولأن حيز الحلقة لا يسمح فإننا سنقارب ونسدد، على أننا سنبدأ بالمفهوم التالي.
2- مفهوم السياسة: القاموس السياسي - أحمد عطية - تضمن 13 تعريفا للسياسة.. ولا شك أن الطبعات الجديدة قد تضمنت تعريفات أخرى.
المهم هنا أن التعريفات المعاصرة للسياسة بلا ريب هي تعريفات قادمة من خلفيات فلسفية مادية والتي ألحقت تشويها غير قليل بالسياسة ممارسة وأهدافا - فصل السياسة عن الأخلاق أسوأ لعنات انحطاط الثقافة المادية المعاصرة.
3- توخيت الموضوعية، فأمعنت النظر في التعريفات المعاصرة، فوجدت تعريفا للسياسة هو أقرب إلى المفهوم، ولكني تعاطيت معه كتعريف على اعتبار أنه يمثل أحد تعريفين عريضين - تعريف معاصر، وتعريف آخر في الفكر الحضاري الإسلامي.
- التعريف المعاصر يقول: "السياسة فن الممكن".
- تعريف السياسة في الفكر الحضاري الإسلامي يقول: "السياسة - ما يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد".. أما تعريف الفقيه عبد الوهاب خلاف: "السياسة ما يكون الناس معها أقرب إلى الصواب وكليات القرآن ومقاصده الإنسانية وأبعد عن الفساد".. وهذا تعريف متين شامل قوى.
4- يلاحظ أن التعريف المعاصر نص على مفردة "الممكن"، وهذه المفردة قد لجّت.. بل هوت بالسياسة في دهليز المادية - الرأسمالية أو الاشتراكية على السواء وإن اختلفتا في التفاصيل الجزئية.
ثالثا، مدخل التنظيم الاجتماعي:
ذكرنا في الحلقة الثالثة خلاصة كلام أحد صناع الاقتصاد الأوروأمريكي في لبنان عام 2008م، حيث لوح أنه متشائم إزاء الاقتصاد الرأسمالي كونه يتجه إلى طريق مسدود، وانتهى إلى القول: "الحل عند العرب - المسلمين.. لكنهم لم يقدموا آليات".. فماذا يعني كلام الرجل؟ إنه يعني دلالات هامة أبرزها:
1- الحل الاقتصادي في المنظور الإسلامي منظومة متكاملة من المؤشرات أو المعالم تتمثل في عدد من القيم والآليات، الأمر الذي يعني أن المنظور الإسلامي لديه إطار ثقافي متكامل - شبكة التنظيم الإسلامي للمجتمع.
2- أن القيم الرأسمالية تعاطت مع الجانب السطحي للإنسان فقط وأهملت الجانب القيمي، الأمر الذي آل تدميرا للمجتمع لمصلحة الفردانية التي أرساها العقل الليبرالي، حيث اختزل فكرة الاقتصاد الرأسمالي في ضوء مفهوم الحرية الفردية، وقد تجلى ذلك في الدستور الأمريكي عام 1776م، حيث قام بصياغته51 شخصا كلهم مليارديرات.. يعني شرعوا لأنفسهم ونسوا المجتمع تماما، فكانت فضيحة صناع الدستور مدوية - إذا لم تستح فاصنع ما شئت.. بعد مرور 6 سنوات قرر حيتان الجشع تعديلا طفيفا - تسامحا تمثل في إعطاء الشعب شراكة محدودة عام 1792م، تلاها 15 مرة من التعديلات خلال 232 عاما.
الجدير ذكره أن تلكم التعديلات لم تشارك فيها منظمات المجتمع المدني ولا الجامعات وإنما مبادرات لرجال المال، ليس اعترافا بحقوق الشعب ولا تسامحا، وإنما بهدف الحيلولة وقطع الطريق خوفا من القادم من الشرق - دولة الاتحاد السوفييتي الشيوعي - لسان حال العمال في المصانع والشركات الاحتكارية، تفاديا لأي انفجار شعبي ضد الرأسمالية المتغولة الناهبة لثروات الأمم والشعوب.
استحوذت الرأسمالية على زمام السلطة وحفظت نفسها سياسيا بالدستور، ثم منحت الشعب مساحة حقوقية محددة، وها هي اليوم تسعى حثيثا للتخلص من التزاماتها وقد بدأت بالتدريج.
3- اتجه التعليم والثقافة والخطاب الإعلامي والعام إلى تكريس المفاهيم الخادمة لكلا النظامين.
4- الرأسمالية جعلت الفرد هو المالك المطلق.
5- الشيوعية حرّمت الملكية على الجميع.
6- الإسلام قرر صراحة حق الملكية الفردية وقرر حقوق المجتمع في مال الفرد - قرارا عقديا، ونظاما تشريعيا ملزما، ليس تفضلا ولا تكرما وإنما مقاصد أخلاقية في الثروة - عدالة التوزيع.. وقرر الإسلام وجوب التكافل بين الأقارب وقرر الإنفاق، وتفتيت الثروة بين أفراد الأسرة، وقرر نظام الوقف والوصايا والإنفاق الدائم.
رابعا، تعليم المجتمع منظومة الآليات:
1- الهدف من مقاصد الوحي هو بناء المجتمع - وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم تعليم المجتمع: "ويعلمهم الكتاب والحكمة".
2- قرر النص "تعليم الحكمة" أي مقاصد التشريع الشاملة الناظمة لمصالح الدنيا والآخرة.. كيف لا والقرآن يقرر حرفيا أن رسالة الإسلام هي رحمة للعالمين: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".. مصالح العالم أجمع.. مسلم وغير مسلم.
3- دلت نصوص القرآن أن أول آليات بناء أو إصلاح المجتمع تبدأ من تغيير ما في الأنفس: "حتى يغيروا ما بأنفسهم".. ومن نافلة القول إن التعليم هو بوابة تغيير ما في الأنفس.
4- هذا العمق الفلسفي التعليمي صادر ابتداء عن الخلاق العليم بما يصلح الإنسان - قيما روحية وخلقية وعقلية واجتماعية ومعيشية وسياسية.
5- إذا كانت الفلسفة الوضعية شرعت حماية الإنسان من الإنسان، فإن نصوص الوحي -بل ومقاصده- قررت حق الإنسان حقا خلقيا في تشريع مقدس لإنسان مكرم مطلقا.
6- قررت نصوص الوحي أن بناء المجتمع - فريضة - يجب أن يكون بناء مؤسسيا ابتداء من مؤسسة الأسرة فمؤسسة ذوي القربى فالعشيرة فالقبيلة... إلخ دوائر الانتماء.. إذن، هي آليات مؤسسية، فالإسلام بطبيعته مؤسسي.
7- الآليات السياسية هي نتاج النمو الطبيعي للوعي المجتمعي، ومن جهة أخرى مؤسسة الآليات السياسية ذات صلة وطيدة بالعقيدة: "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون".
8- مقاصد مؤسسة الآليات السياسية هي الانتصار من البغي، قال تعالى: "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون".
هذا النص جاء عقب نص الشورى.. سيتم تناول مقاصد الشورى بتفصيل في حلقة قادمة.
9- مؤسسة الشورى تعني دلالة أنها آلية مؤسسية أرضيتها التشاور والحوار، ومصدر إلهامها هو العلم والتخصص والتمرس.
10- مقاصد القصص القرآني قررت أن تدمير المجتمعات عبر العصور مصدره الظلم والطغيان، وبالتالي نص القرآن على النهي الصريح للرسول صلى الله عليه وسلم ومن تاب معه قائلا: "فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير • ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار".
إذا نظرنا إلى نصوص الوحي ومقاصده نجد أن هذه التوجيهات تعطينا دلالة مفادها أننا إزاء سنن الله الحامية والحافظة للمجتمع، ولن تؤتي مقاصدها وثمارها الحق إذا لم تكن مدخلات تعليمية وثقافية ثم آليات مؤسسية ذات فاعلية مجتمعية وليس مجرد وعظ.
خامسا، بناء وعي توحيدي متجاوز:
نحن نعيش عصر انقلاب هائل في عموم مجالات الاجتماع السياسي.. إنه عالم متغير.. وبالتالي إذا كنا نريد بناء آليات سياسية تمثل ضمانات قوية تحمي كرامة الفرد والمجموع يجب علينا فريضة إعادة النظر في موروثنا.. إنه موروث مكبل ورازح تحت نير نوعين من التقليد الثقافي - ثقافة الوافد الذي لم ولن يحل مشكلتنا أبدا، وكذلك ثقافتنا الموروثة من الاجتهاد الفقهي الذي كان تلبية لأسئلة سياقاته الظرفية وهي سياقات ثقافية مختلفة جدا.. أعني الثقافة المجتمعية معيشيا وسياسيا.
وعليه يجب علينا استكمال عقيدتنا - تطبيق الركن الثالث السنني كما يلي:
1- القيام باجتهاد توحيدي فقهي متجاوز - يتجاوز ثقافة التقليد للوافد والتقليد للموروث من جهة.. ويتجاوز الثقافة الوافدة من جهة أخرى.. ويسهم في إرساء ثقافة قيمية تنقذ الإنسان من ظلم الإنسان - اجتهاد توحيدي يتجاوز تقليد الثقافتين لأننا أمام انقلاب عالمي متغير.
2- يجب أن يفهم المجتمع ويعي مفهوم الرحمة للعالمين أنها تعني: أن قيم الكرامة والحقوق والحريات والمساواة والقيام بالقسط والعدل والأخلاق والسنن الحاكمة الناظمة للاجتماع وتحويل القيم إلى مؤسسات بل وآليات مواكبة للمتغيرات انطلاقا من القرآن: "وأمر بالعرف".. يشمل كل عرف ثقافي سليم عدلا ومصلحة، كاختيار النظام الإداري للسلطة ومدنية الدولة.
باختصار، يجب فرضا أن يعي المجتمع أن كل مصالح الأمة عطاء إلهي في تشريع مقدس وليست هبة أو منحة من أحد.. وأيضا كل ما يترتب عليها من انتماء للقانون والدستور والمواطنة وتحديد صلاحيات الحاكم وتحديد الفترة الزمنية للبقاء في السلطة والرقابة المجتمعية والشراكة المجتمعية في صنع السياسات - النظام العام.. وأن مؤسسة الشورى مؤطرة ومتداخلة مع منظومة قيم وسنن اجتماعية ملازمة لها، وأن الاعتداء عليها من كبائر الإثم والفواحش لأنها إفساد في الأرض.
ويجب أن يعي المجتمع أن قوى الضمانات أن تنطلق التشريعات لكل ما
سبق من مقاصد القرآن وكلياته، وأن هذا المنطلق يجعل الالتزام بما سبق فريضة واجبة التكليف والالتزام، ويجب على المجتمع أن يعي أن كرامته وحريته هما قرين مسؤوليته، وأنه لا قيام لكرامته وحريته إلا بقيام مسؤوليته والعكس صحيح، وأن جمودنا الفقهي فتح الباب للارتماء في أحضان الغرب، وأن الارتماء للغرب فتح الباب للغرب أن يتدخل في خصوصياتنا حيث غرس عملاء حضاريين باسم حماية الحرية والمساواة وصولا إلى الاحتلال.
3- على المجتمع أن يعي تماما أن مكونات مؤسسة الشورى تشمل المتخصصين المتمرسين وذوي الخبرات - سياسيا، واقتصاديا وتربويا، وعلم اجتماع، وصناعة، وإدارة، وفقهاء قانون دستوري، ومهنيين، ووجاهات، ورجال أمن، وعسكريين، وقضاة، وذوو الخبرة في أجهزة السلطة التنفيذية.. فهؤلاء هم أهل "الاستنباط" الذين سماهم القرآن الكريم - الآية 83 سورة النساء.. وأن قرارات هؤلاء ملزمة حماية لأمننا القومي ما دامت لا تخالف مرجعية الأمة - قيمها أو مصالحها العامة المعتبرة، وأن كل ما سبق بمثل الركن الثاني من عقيدة التوحيد - الكفر بالطاغوت.. أي إعلان الحرب على كل أنواع الطاغوت - الاستبداد السياسي، وطاغوت المال، وطاغوتية أغلبية حزب الحاكم، وتقديس الأشخاص والاستقواء بالأعراف المعوجة، والآبائية، قبيليا، وعشائريا، وجهويا، ومناطقيا، وطائفيا.
4- يجب أن يترسخ كل ما سبق في وعي النخبة - طلاب الجامعات والكليات المهنية جميعا عبر مقرر الثقافة الإسلامية الشاملة لكل مجالات العلوم، ويجب أن يعي المجتمع أن إعادة البناء التأصيلي لما سبق ينطلق من مد خل واحد تضمنه الوحي حرفيا ومقاصديا، إنه المدخل المتين انطلاقا من الجمع بين القراءتين - قراءة الكتاب المسطور وقراءة الكتاب المنظور، وكلاهما وردت في أول سورة نزلت على خاتم المرسلين: "اقرأ باسم ربك الذي خلق • خلق الإنسان من علق • اقرأ وربك الأكرم • الذي علم بالقلم • علم الإنسان ما لم يعلم".
علما أن النصوص الآمرة بالقراءتين كثيرة جدا.. إنها مقاصد الوحي تهدينا إلى الجمع بين الإيمان بالغيب - التوحيد وكرامة الإنسان وسنن الله في الكون والاجتماع.. كل ذلك حراسة للأمة من الانبطاح للاهوت الكنسي الذي يغالط العقل باسم عالم الغيب والقدر.
فقد جاءت مقاصد الوحي بحل سماوي معصوم يتمثل في مفهومين هما مقصد حماية الإنسان، وأن المكلف بحماية الإنسان هو نظر الإنسان نفسه إلى سنن الله المسخرة الحاكمة للنفس والاجتماع، وهو نظر يجمع بين فهم النص ومقصد النص - حكمته.. وهذه هي قراءة الكون المنظور قراءة عقلانية واقعية شاملة للغيب وشاملة للإنسان ومصالحه اجتماعيا وسياسيا... إلخ.
نعم يجب التأكيد الدائم على ما سبق وتجديد الوسائل، حتى يستقيم فكر وثقافة المجتمع ويصبح هذا ثقافة عامة.. فهذا كفيل باستعادة الروح الحضارية للأمة.. وهنا نلتقي مع الجوهر الحقيقي للمفهوم القائل: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
إذن، الضرورة والمصلحة العامة تقرر إعادة تأصيل قضايا الاجتماع ثقافيا واجتماعيا وتربويا واقتصاديا وسياسيا، تفاعلا مع المتغيرات العالمية والتي أصبحت متداولة ثقافيا.. أعني هنا انفتاحا واعيا على الغير بما لا يصادم ثوابتنا، فهذا كفيل بحماية أمتنا جلبا للمصالح ودفعا للمفاسد، وهنا تتحقق قوة شخصية الأمة وفقا لمقاصد الوحي.. إنها شخصية الأمة الوسط.. الأمة الشاهدة على الأمم.. الأمة ذات الاستقلال من كل تبعية.. فلسنا بحاجة لمنهج خارجي، فنحن أمة لنا ثقافتنا الإنسانية الكونية القادرة على الإسهام في إنقاذ إنسانية الإنسان من جحيم التغول والطغيان الجشع الذي سحق إنسانية الإنسان وكرامته حيث حوله إلى حيوان استهلاك، وفوق ذلك سحقه بأنواع أسلحة التدمير، بل ونهب ثروات ومقدرات الأمم، وأمة الإسلام تحمل أمانة التكليف إنقاذا لإنسانية الإنسان وحماية القيم الإنسانية ابتداء من قيم التعارف والقيام بالقسط والتعاون على البر النافع.
ولن يتحقق الاستخلاف ولن تقوم عمارة الأرض إلا بالوعي الشامل والملتزم بالدخول في السلم كافة - عقيدة، وأخلاقا، وسننا، ورد الاعتبار لمعيارية العقل في فقه الواقع، وفقه الموازنات، وفقه تنزيل النص، وفقه المآلات، وفقه النتائج والآثار.
نكتفي بهذا القدر على أمل اللقاء بعونه سبحانه مع الحلقة الخامسة: مبررات التجديد التوحيدي المتجاوز.