أولا، رسالة الإنسان في الحياة:
نخبتنا، المتغربون والمحافظون، يعيشون غيبوبة فكرية وثقافية، والنتيجة فقدان وعي الذات، وفقدان وعي الذات معناه أزمة الذاكرة التاريخية والحضارية، والنتيجة سير في صحراء الحياة ولكن من دون بوصلة، وهنا تجد أنها تعيش أزمة هوية، الأمر الذي يستدعي البحث عن حلول.
وبطبيعة الحال تنقسم النخبة إلى فريقين: الأول منبهر بثقافة الغرب بل ومنهم من يتحول عميلا حضاريا، حسب الدكتور محمد عمارة، رحمه الله.
الفريق الثاني يفكر بالعودة إلى الذات انطلاقا من إحساسه بحقيقة المشكلة وهي أزمة الهوية.. إذن فالدافع نبيل، لكن هذا الدافع يصطدم بمهددات الخوف على الذات من الذوبان والتلاشي أمام الثقافة الوافدة، فيلجأ إلى استدعاء الموروث - تقليدٍ لحلول جزئية قيلت في سياقات تاريخية وظروف مغايرة وليس لها رابط منهجي علمي معتبر لدى فقهاء الأصول.
والمحصلة النهائية هي أن أزمة وعي الذات لدى عموم النخبة نتج عنها خواء ثقافي فسارع الجميع إلى ملء الفراغ ولكن بمحنة التقليد + تخندق = صراع مستعر وتخوين متبادل متجدد، وهنا يصدق فيهما قول العاشق الأبله:
أتاني هواها قبل معرفة الهوى
فصادف قلبا فارغا فتمكنا
السؤال يقول: ما نوع العودة المنشودة في هذا المقام؟ إجابة السؤال في المحاور التالية.
المحور الأول، العودة إلى مقاصد الخلق:
قبل الدخول في الحديث عن مقاصد الخلق نود لفت نظر القارئ إلى أن مصطلح الثقافة الوافد قد اتسعت تعريفاته بصورة غريبة، لكن التعريف قد انطلق من دلالة مفهوم مادي سطحي واحد والذي تمركز حول مفهوم الأشياء العملية المتعلقة بقضايا الحياة بعيدا عن القيم.. إذن هو تعريف مادي قاصر ونتائجه واضحة - حضارة عوراء دمرت كرامة الإنسان.
تدمير الإنسان يتجلى أكثر فيما يلي: الله خلق آدم وعلمه الأسماء..
القرآن يقرر بالنص القاطع منذ البداية الأولى لخلق آدم عليه السلام قائلا: "وعلم آدم الأسماء كلها".
المحور الثاني، دلالات تعليم آدم الاسماء:
الدلالات كثيرة لكننا سنوجز القول فيما يلي:
1- تعليم آدم الأسماء يعطينا دلالة على عظيم نعمة الله في هدايته للإنسان - إلى التي هي أقوم - قيما عقدية، وتزكيةً، وخلقا، وتشريعا، وحكمةً، وسننا، وأبعادا، وعلاقاتٍ، وبصيرةٍ، وجمالٍ، وذوقٍ، وتوظيفٍ، وإحسانٍ، وفاعليةٍ، وتجديدٍ، وإبداعٍ، والى كل ما يؤدي إلى استقامة علاقة الفرد بذاته وبالمجموع، وكل مظاهر الحياة، والهدف هو تمكين الإنسان من حمل رسالة الاستخلاف المتمثلة في عبادة الله وتزكية الإنسان وتكريمه وعمارة الأرض - بناء الحضارة.
2- الهدف الثاني من تعليم آدم الأسماء هو استقامة العلاقات الاجتماعية وأيضا تجاه الحياة.
3- الأدلة من نصوص القرآن: من نافلة القول إن القرآن كله هو هداية وتعليم للإنسان، كي يستقيم له التعامل مع الحياة، فالله خلق الإنسان وأسكنه الأرض ثم أنزل عليه خطابا أرشد الإنسان إلى قضية هامة في حياته متمثلة في احترام الدلالة الإلهية بلا إكراه قائلا: "فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى".
فالإنسان فقير إلى الإرشاد الصادر عن الخالق العليم.. فقير إلى العلم والتعليم كما قال سبحانه: "والله خلقكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون".
4- أمرنا الله بقراءة فاتحة الكتاب في الصلاة كي تستمر ألسنتنا لاهجة بالدعاء 17 مرة في فريضة الصلاة: "اهدنا الصراط المستقيم".
5- خاطب الله الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه وكل المسلمين المتبعين له قائلا: "فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير".
انظر أخي القارئ إلى التوجيه الذي مزج العقيدة والتزكية والتوعية بالسنن - يا أيها الرسول استقم ومن تاب معك واحذروا الطغيان.. وفي الآية التالية: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا".. أرأيتم أي تعليم؟ وأي تزكية؟ وأي توعية بالسنن؟ وفوق ذلك يقرر القرآن ما يلي: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا".
المحور الثالث، تعليق واستخلاص:
1- وحدة الجذر اللغوي للمفردات: "المستقيم، فاستقم، أقوم، قِيما".. يجمعها ق.و.م.. وهذا هو الأصل لمفردة: قِيم.. والدين القيّم.. ودين القيمة.. وكان بين ذلك قواما.
2- القيم - لغة - معناها الشيء الثمين جدا أي الغالي والعالي الثمن.
3- الدلالة المفهومية للقَوام: "وكان بين ذلك قواما".. مفهوم القَوام يعني الوسطية، ومفهوم الوسطية هو أعظم خصائص الرسالة الخاتمة.
4- الجذر اللغوي لـ ق. ي. م.. ورد في القرآن بتصريفات مختلفة - استقم، استقاموا، المستقيم، قيم، أقوام، قوم... إلى غير ذلك.. حيث بلغ العدد 1049 مرة، أي بمتوسط حسابي في المصحف مرتين في كل صفحة.
5- أبعاد دلالية: تتفق معاجمنا اللغوية على أن تعريف الثقافة لغة هو "التقويم".. يقول العربي: ثقّفت الرمح أي قوّمته إذا كان الرمح معوجًّا.. يتم تسخينه على النار فيلين لتقويم اعوجاجه.
إذن، معنى الثقافة في اللغة العربية يعني الاستقامة لغة واصطلاحا.
الجدير ذكره أن الدلالة قد توسعت إلى معنى التهذيب، أي شطب حد السيف ليكون سريع القطع، كما تعني صقل السيف - إزالة الصدأ ليصبح له لمعان، ومن المجاز عند العرب أنهم يقولون فلان "ثقِفٌ" أي ذكي، نبيه، وثقف: ذلق اللسان.. لكن هنا سؤال يفرض نفسه قائلا: لماذا العرب لم تستخدم هذا التعريف في التراث؟
الجواب: لقد استخدمها العرب ولكن قليل جدا، ولنا عودة للإيضاح لاحقا.
6- الدلالة الأقوى هي أن مفهوم الثقافة في الحضارة الإسلامية لا يخرج عن القيم والاستقامة لغة واصطلاحا ومفهوما، على أنناقد ذكرنا أعلاه أن التعريف الوافد لا يعطي للقيم أي اعتبار، كما أن بعض فلاسفة الغرب يدخلون القيم ولكن على اعتبار شأنها شأن الخرافات والشعوذة والوثنيات والانحراف والتخلف.
إذن، تعريف الثقافة حاضر في حضارتنا ويتضمن مفهوما عالي الشأن، فهل نخبتنا المتغربة قد تمردت على القيم الإسلامية لتعيش في أوحال التفاهات والتحلل من القيم؟
المحور الرابع، المفهوم الحضاري الشامل:
1- سبق القول إن مفهوم الثقافة الوافدة هو الجانب العملي أو السلوك والممارسة، وقلنا إنه تعريف سطحي مادي، وأما معنويا فهو متصل بالخرافة والانحراف والشعوذة والوثنية والأساطير... إلخ.
2- المفهوم الشامل للثقافة في الحضارة الإسلامية يعني القيم العقدية، والخلق أي السلوك المستقيم فكريا وعلميا وتشريعا وعلاقات اجتماعية.
المحور الخامس، المقصود بالآلية الثقافية:
هذا المحور يمثل العمود الفقري للحلقة، كونه الإطار المستوعب لكافة مظاهر الحياة الإسلامية، وفي ذات الوقت يتضمن دلالة مفهومية تعني الآليّات، أي أن كل مكونات الثقافة الإسلامية هي آليات مقصدها تنظيم الفكر والسلوك العملي ابتداء من الاعتقاد، والشعائر التعبدية، والأخلاق، والتشريع، ومؤسسة الأسرة، والمؤسسات الأهلية والسياسية، والمعاملات، والعلم، والعقل، والسنن، والحكمة، والمعايش، والسياسة، والقضاء، والعلاقات الاجتماعية، وعلم الاجتماع، والتاريخ، والإدارة، وعلم النفس، وعلوم الزراعة، والصناعة، والطب، والمهن، والتطور، والتجديد، والإبداع، والابتكار، والإحسان، والإتقان، والجودة، والتعاون، والأخوة، والدافعية، والمبادرة، والبحث العلمي، والجمال، والذوق، والموسيقى، والفنون، والبذل، والكرم، والإنفاق، والتواضع، ولين الجانب... إلخ. وكل هذا ينبثق من مشكاة واحدة هي مشكاة مركزية التوحيد - الإيمان بالله واليوم الآخر.
هذا الإطار المستوعب والجامع لمعاني الثقافة يمكننا أن نطلق عليه مصطلح:
1- الأخلاق العملية هي الثقافة.
2- الثقافة والأخلاق هي العمل الصالح: "الذين آمنوا وعملوا الصالحات".. وهكذا هي دلالات القرآن متداخلة العلاقات - دلالة وآليات وتنظيم وتهذيب وعمل ومقاصد.
3- الأخلاق في الكتاب والسنة: تضمن القرآن عددا من القيم الخلقية بلغت 22 خلقا، وتكرر ذكرها - نصا ودلالة - 1337 مرة.. بمعدل يقترب من ربع القرآن.. وبمتوسط حسابي 3 مرات في كل صفحة من المصحف.
4- اتصلت نصوص الأخلاق بركني الإيمان بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح، وهذا الاتصال القيمي المتداخل يخلق مفهوما ثقافيا في غاية المتانة من جهة، ومن جهة ثانية نجد أن القرآن خاطب الجنسين بالعمل الصالح: "من عمل صالحا من ذكر وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون".
5- السنة النبوية زاخرة بالتعاليم المجيدة والتطبيقات النبوية للأخلاق، ويكفينا كتاب في المتناول السهل احتوى على قرابة 1100 حديث نبوي، والكتاب هو "خلق المسلم" للفقيه المفكر محمد الغزالي، رحمه الله.
كل ما سبق ذكره يجعلنا نقترب من دلالة بالغة الأهمية، والتي هي موضوع المحور التالي.
المحور السادس، توجيه الأخلاق:
المقصود بتوجيه الأخلاق أن القيم والتزكية والعلم بمقاصد التزكية والوعي بالسنن كلها منبثقة عن محرك - دينمو الإيمان والعمل والصالح الهادف إلى غاية عليا هي مرضاة الله انطلاقا من هدايته سبحانه التي اقتضتها الحكمة الربانية، لتكون آليات منظمة ومصلحة للاجتماع وعمران الأرض، وهنا نجد القرآن المجيد يقرر أن التزام العمل بهذه الآليات هو الطريق إلى غاية السعادة والتي أطلق عليها القرآن مصطلح "الحياة الطيبة" دنيا وأخرى.
نكتفي بهذا القدر حول الآليات الثقافية القاصدة الحياة الطيبة للإنسانية جمعاء.. نلتقي بعونه سبحانه مع الآلية الثالثة.