مقدمة: مقاصد القرآن إعداد الإنسان
مقاصد الوحي تقرر بوضوح الغايات العليا من خلق الإنسان، والغايات العليا تتمثل في عبادة الله، وتزكية الإنسان، وعمارة الأرض.
بصيغة أخرى؛ الإنسان محور التكاليف الربانية عبادة وتزكية وعمارة للأرض، قال تعالى: "أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها". وبما أن حكمة الله العليم الحكيم اقتضت هذه المقاصد العليا لخلق الإنسان، نجد أن نصوص الوحي كلها قد أولت العناية بالإنسان حرفيا أو دلالة أو إشارة أو مفهوما.. نجد ذلك بصورة لافتة تضمنت إصلاحا شاملا للنفس والسلوك - الفرد والمجموع، والبيئة حوله حتى تتهيأ له الحياة الطيبة في الدنيا وأيضا الأجر الأحسن في الآخرة، قال تعالى: "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" (سورة النحل).
وعليه، قمت بلملمة أطراف الموضوع خدمة للقارئ الكريم وإعطائه صورة متكاملة حول منظومة الثقافة الإسلامية
- الآليات الاجتماعية، وإن شئت قل مقاصد التنمية الاجتماعية، علما أن الهدف من التقسيم هو إجراء تعليمي لا غير من خلال المحاور التالية.
المحور الأول، أهداف إعداد صناعة الإنسان:
1- تحديد الغايات العليا لمقاصد خلقه.
2- بناء تصوراته، أفكاره، قناعاته.
3- إعداد إمكاناته وقدراته.
4- بعث رغباته الفطرية والمادية تكوينا لإرادته وعزيمته.
5- ضبط فاعليته تقويما لسلوكه مع الذات والمجتمع والواقع - البيئة، والمحيط الخارجي.
المحور الثاني، الآليات القيمية:
1- المقصود بالآليات القيمية هو القيم العقدية المتصلة بإصلاح التصور الفكري، فالقيم تعتبر الإطار المحوري للدين ومرتكز التدين، وللعلم فالقرآن سماها قيما، قال تعالى: "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم".
2- نصوص القرآن أولت القيم عناية من وقت مبكر بل وفي قصار السور، قال تعالى: "أرأيت الذي يكذب بالدين • فذلك الذي يدع اليتيم • ولا يحض على طعام المسكين".. إلى قوله تعالى: "ويمنعون الماعون".
3- دلالات النص الآنف: التكذيب بالدين ينعكس ظلما قاسيا على الضعفاء وحرمان لهم وفي مقدمتهم ضعفاء اليتامى، بل إن التكذيب بالدين مرتبط بمنع الماعون، والمنع للماعون واسع الدلالة والذي يبدأ من احتكار المعلومة العلمية وصولا إلى منع إعارة الإناء للمحتاج من الجيران.
4- الطفل المسلم الذي يتفتق لسانه مبكرا حفظا وتلاوة لسورة الماعون، فالنص هنا يكون قد غرس بذور القيم، وهي مقاصد التنمية الاجتماعية.
5- من نافلة القول في هذا المقام نشير إلى الحضارة الإسلامية بما قدمته من اختراعات طبية وعلمية... إلخ، جعلتها في المتناول الجميع دون احتكار، فهل الغرب اليوم فعل ذلك؟ هيهات.. فكبار علماء الغرب اليوم ينكرون وبكل وقاحة عالمية الحضارة ويصرون على أن الحضارة حكر على الرجل الأبيض فقط.
5- في سورة البلد عدد من القيم الإنسانية العليا، قال تعالى: "فك رقبة • أو إطعام في يوم ذي مسغبة • يتيما ذا مقربة • أو مسكينا ذا متربة • ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتوصوا بالمرحمة".
6- الحرية أعظم القيم الإنسانية، فالنص قد بدأ بها كأعظم القيم الإنسانية وذلك في فجر الدعوة بمكة، ثم قيمة الإطعام للقريب - تكافل.. أو البعيد.. وتحرير الرقبة.. والإطعام مرتبط بقيمة الرحمة، وينتهي الربط بين القيم وبين الإيمان باليوم الآخر: "أولئك أصحاب الميمنة".
7- تزكية النفس والمال: قال تعالى: "وسيجنبها الأتقى • الذي يؤتي ماله يتزكى".. يلاحظ أن النص كالمعتاد قد ربط التزكي بالقيم العقدية، قال تعالى: "إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى • ولسوف يرضى".. قطعا سيلاقي الأجر الأحسن.
8- سورة الفجر سردت قصص الهلاك لقوم عاد وثمود وفرعون، وعلى الفور اتجه الخطاب لكفار قريش الذين يعتبرون الغنى لديهم أنه علامة حب الله لهم، فجاء الرد: "كلا بل لا تكرمون اليتيم • ولا تحاضون على طعام المسكين • وتأكلون التراث" - ميرا ث النساء والأقارب والضعفاء... إلخ. وانتهت السورة بالوعيد في يوم يتمنى الغني: "يا ليتني قدمت لحياتي".
9- التطفيف للمكيال والميزان: لا زلنا في قصار السور، وها هو القرآن يتناول جانب التموين والتجارة، ويربط هذا البخس والاحتكار متوعدا فاعليه بيوم البعث: "ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون • ليوم عظيم • يوم يقوم الناس لرب العالمين • كلا إن كتاب الفجار لفي سجين"... إلخ.
10- مصطلح الإحسان: إذا نظرنا في القرآن المدني نجد أن النص القرآني ارتقى بالقيم العقدية والخلقية - رأسيّا أنه مصطلح "الإحسان". وارتقى به أفقيا - اجتماعيا وذلك في أكثر من موطن، ولكن النص 36 من سورة النساء شمل شرائح المجتمع كافة، قال تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب كل مختال فخور".
باختصار شديد؛ من المعلوم أن أعلى مراتب التوحيد هي مرتبة الإحسان، ثم أعلى مراتب طاعة الوالدين هو الإحسان، إذ لا يمكن الحديث عن الوالدين بغير الإحسان، ثم ينتقل مصطلح الإحسان مع كافة شرائح المجتمع، وينقل النص أن الإحسان هو أخلاق - سلوك الموحدين المحسنين المتواضعين المتجنبين لأخلاق كل مختال فخور.. هذه إلماحة ولنا عودة عند آليات الثقافة.
المحور الثالث، الضمانات القانونية السننية:
1- من خلال ما سبق نستنتج وازعين اثنين هما الوازع الفطري القيمي الذاتي، والوازع الاجتماعي، أما الوازع الثالث نجده في النصوص التالية:
2- "إن الله يأمر بالعدل".. "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا".. "وأمرت لأعدل بينكم".. "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به".. والنصوص كثيرة في الكتاب والسنة.
3- العدل قيمة سننية قانونية رادعة للمتمرد على الوازع الفطري والمتمرد على وازع النظام العام المجتمعي، فهنا شرع القرآن إقامة العدل ردعا للمتمرد وحماية للمجتمع وضمانا سننيا ناظما حافظا لسلامة سير المجتمع واستقامته.
4- علاقة العدل كمصطلح قرآني بعلوم التنمية يعطينا دلالات ما يسمى اليوم بحماية الاستثمار والتنمية العامة والمستدامة، وغياب العدل وغياب استقلال القضاء يكون البديل هو الشللية والنفاق والمحسوبية، والنتيجة دولة فاشلة.. المزيد من الإيضاح حول المصطلح القرآني وعلاقته بالدولة الفاشلة في حلقة قادمة.
المحور الرابع، السنن الإلهية في الاجتماع:
1- مقاصد السنن الإلهية تتضمن أهدافا اجتماعية ذات صلة متينة بعلوم التنمية، بل نجدها متلازمة في سردية بشكل لافت للنظر، فتأمل ما يلي.
2- سردية اقترنت فيها عدة قيم كالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي والوعظ المعلل بالتذكير والوفاء بالعهد والنهي عن نقض الأيْمان بعد توكيدها، ثم النهي عن التشبه بالمرأة الحمقى: "ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها".. أف لها من حمقاء أتعبت نفسها وأسرتها طوال اليوم غزلا ثم إنها في نهاية اليوم تهجم على مخرجات عملها فتحيله قطنا مندوفا هشا - أنكاثا، وكما هو حال القرآن نجد أنه ينقلنا بسرعة فائقة من تخيل الحركة المشهدية لتلك الحمقى إلى حالة الأمم القوية: "أن تكون أمة هي أربى من أمة"... يا الله كم هو واقعنا المعيش يعج بالسوء الناجم عن ربا الغرور بالقوة - قوة القبيلة، العشيرة، السلاح، التجارة الاقتصاد، سمه ما تشاء.
3- ينتهي المقطع بنصين اثنين: النص الأول تقرير مصطلح شامل لكل القيم سماه العمل الصالح، ورتب عليه غاية عظيمة هي "الحياة الطيبة".. "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون".. غاية الحياة الطيبة دنيويا، وغاية الأجر الأحسن في الآخرة.
النص الثاني: توجيه جدير إلى الوعي بالقيم والسنن... إلخ، قال تعالى: "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم".. توجيه إلى أفضل سبل الوعي بعلوم التنمية والاستقرار.. توجيه مقترن بتعليل واضح أن الفلسفات الوضعية راسفة في بؤرة تزيين الشيطان المتسلط على نفوس الذين يتولونه لاهثين خلف شهواتهم وأهوائهم.. وذلك اللهاث في حقيقة الأمر شرك بربهم لكنه ينعكس عليهم ذلا وخضوعا: "ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا".. الحقيقة أننا إزاء سردية سننية غاية في تركيب الجمل - حبكة - تضمنتها سورة النحل من الآية 89: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين • إن الله يأمر بالعدل..." إلخ المسرد العقدي القيمي التشريعي القانوني السنني التربوي الوعظي.
المحور الخامس، المؤسسية طريق العدل:
1- الإسلام دين مؤسسي في كل تعليماته وتوجيهاته والسلوكيات العملية.
2- الأسرة نواة المؤسسية.
3- إيتاء ذي القربى تعزيز الولاء للمؤسسية الاجتماعية.
4- النص الـ36 من سورة النساء -سبق ذكره- والذي امتد أفقيا شمل شرائح المجتمع كافة بمن فيهم ملك اليمين.. بربك أخي القارئ الكريم ما هو المقصد السنني من هذا التوجيه؟ أليس بناء شبكة علاقات اجتماعية متينة؟
إذن، نحن أمام دائرة انتماء أوسع من العشيرة بل والقبيلة، وكل هذه الدوائر تمارس الشورى مؤسسيا، وهذا العمل أسسه الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعتي العقبة، وفي المدينة، ومارسه الراشدون حتى وفاة الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله، والأدلة كثيرة يصعب إيرادها.
5- مؤسسة شورى الأمة: "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون • والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون".
2- الشورى سنة اجتماعية مؤسسية بدلالتها الحرفية.
3- قيمة الشورى متصلة بالعقيدة: "والذين استجابوا لربهم".
4- مقاصد الشورى كثيرة جدا أبرزها أنها الطريق المثلى لإقامة العدل.
5- قيمة الشورى وردت مؤطرة بمنظومة من القيم الإسلامية سواء في سورة الشورى أو غيرها، وهذا يعطينا دلالات أبرزها ما يلي.
6- السياق النصي يحدد الدلالات القيمية ويربطها في منظومة متكاملة.. اقرأ معي: "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون • وجزاء سيئة سيئة مثلها".
7- تضمن النص الانتصار من البغي السلطوي قطعا، ودل النص أن طريق إقامة العدل هي مؤسسة الشورى.. محاصرة الطغيان والاستبداد بأنواعه.
8- فمن عفى وأصلح.. هذا خاص بالعلاقات الفردية، ويمكن يكون العفو الشعبي تجاه الحاكم الذي ظلمهم بشرط أن يكون الحاكم مجردا من أدوات القوة، وتجريد الطغيان من أدوات القوة يأتي من مؤسسة الشورى - مشاركة المجتمع في صياغة القوانين وتحديد صلاحيات الحاكم.. بل وقبل ذلك أن الأمة هي التي تختار حكامها.
وإذا علمنا أن الأمة هي صاحبة الحق في تصعيد الحاكم فالدليل التلازمي المصاحب يقول لنا: من له حق الاختيار له حق تحديد الفترة الزمنية لبقاء الحاكم.
الخلاصة: القراءة في المصطلحات القرآنية تعطينا أبعاد العلاقات بالعلوم التنموية.
ما سبق ذكره هو غيض من فيض يحمل دلالات واضحة أن التنمية الاجتماعية مقصد شرعي.. إن مقاصد التنمية الاجتماعية هي منظومة آليات تبني وتنمي المجتمع وصولا إلى "الحياة الطيبة".
السؤال الأهم يقول: ما هي القيمة التشريعية المترتبة على ربط التنمية الاجتماعية بمقاصد الشريعة؟ إجابة السؤال هي موضوع الحلقات القادمة.. نلتقي بعونه سبحانه.