مدخل: الثقافة.. النخبة.. أين الخلل؟
لا يختلف اثنان حول اعتزاز اليمنيين بهويتهم، لكن العقلاء يتساءلون: هل من تحليل موضوعي يقدم حلا لإشكالية اعتزاز اليمنيين بهويتهم، وبين التمزق الضارب المهدد لليمن؟ باختصار، أين الخلل؟
لا نريد الدخول في جزئيات التفاصيل، ذلك أن ثقتنا بالقارئ الكريم أنه سيشاركنا في تقديم رؤيته تحليلا وتأسيسا لإعادة بناء الهوية. إذن، في هذا المدخل سنحصر رؤيتنا الفكرية حول مصادر الخلل الرئيسية، وسنسهم في اقتراح المعالجة تحت عدد من المحاور.
أين الخلل؟ نعم، اليمني يعتز بهويته بلا خلاف، غير أن الاعتزاز لا يستند إلى أسس - لا عقديا ولا علميا ولا فكريا ولا سننيا. وبالتالي، غيبوبة تامة لوظيفة ومقاصد وأهداف بل وخطورة مفسدات الهوية، ومن هنا دخل تمزيق الوطن. إذن، "فاقد الشيء لا يعطيه".
وقبل الحديث حول مصادر الخلل نرى تقديم قصة أدبية ذات رمزية جميلة خلاصتها: رأى الثعلب أناسا يضربون طبلا ضخما ويرقصون، وبطبيعة الحال كان صوت الطبل قويا، فقال الثعلب: هذا الصوت القوي دليل أن الطبل مليء بالشحم اللذيذ.
وبعد انصراف الناس هجم الثعلب على الطبل وغرز مخالبه فيه، فوجده خاليا، وكان هناك شاعر يرقب المشهد فقال بيتا شعريا بلسان الثعلب سار مثلا حتى اليوم:
كمثل الطبل يٌسمع من بعيدٍ
وباطنه من الخيرات خالِ
الدلالة الرمزية هي الصوت العالي للطبل لا يختلف عن الصوت العالي لاعتزاز كثير من اليمنيين بهويتهم - طبل أجوف.
وعليه، يمكننا تحديد منابع المشكلة فيما يلي:
أولا، مصادر الخلل:
- انفصال القيم عن وريدها.
- التعليم بلا مقاصد.
- النخبة فاقدة بوصلة القيم.
غير أن حديثنا سيبدأ بتناول المصدر الثالث للخلل، ذلك أن النخبة جسدت ثلاثية الخلل.
الجدير ذكره أن الحديث عن النخبة يشمل النخبة العربية عموما، وإليكم الدليل البرهاني:
ثانيا، فجائع = دلالات:
1- أحد مؤسسي ثورات اليمن منذ عام 1948، أدلى بشهادة صدمت المتابعين قائلا: بعد الانقلاب السلالي على الشرعية السياسية والنظام الجمهوري قمت بزيارة شخصية عسكرية ذات رتبة عالية وتاريخ جمهوري مشرق، وكانت الزيارة في مقر قيادته فوجدته يوزع عربات الكاتيوشا والدبابات والمصفحات والذخائر لمشرفي المليشيا، وأكثر من ذلك أن الشخصية بادرت بالقول: أنا أعلم أن هذا خيانة وطنية ولكن الفندم هكذا يريد.. عجيب، تقصد الفندم الذي أصدر قرار تعيينك هنا؟
الجواب معروف، والدلالة هنا متصلة بمصدر الخلل المحوري - النخبة، فكيف ضاعت الثقافة والتاريخ المشرق؟ ليس هناك تفسيرا سوى انفصال القيم عن وريدها النابض - ركنا الإيمان بالله واليوم الآخر. باختصار، غابت القيم، فحضرت الجهوية والمناطقية.
2- في مقابلة مع أمين عام حزب عربي سأله الإعلامي: بعد انقلاب الرئيس على الدستور ماذا كان موقفك؟ أجاب: اتجهت إلى اللجنة المركزية - مجلس شورى الحزب البالغ عدده 120 شخصية تحمل الماجستير والدكتوراه، وطرحت عليهم الموضوع.
الإعلامي: وماذا كان موقفهم؟ قالوا بصوت واحد: يا سعادة الأمين العام دع الزعيم يقرر ما يشاء؟ اتسعت عينا الصحفي وفغر فاه، وسأل: ما تفسيرك؟ بربكم، ركزوا: تفسيري يعود للتربية الطرقية المتوارثة أي التصوف.. شيخ الطريقة هو من يفكر ويختار، وهل نحن سوى تبع؟ لو كانت الإجابة من زاوية فقهية، مهما كانت مجافية للصواب، ربما وراءها عذر مذهبي، لكن انظروا مصدر الخلل.. ذلكم القطر العربي هوى مشتتاً - لحق الحالة اليمنية.
3- مضت أربع سنوات على انقلاب المليشيا الطائفية، شعر كثير من المثقفين بغصص جراء ما آلت إليه حال وطننا الحبيب.. الشاهد أن شخصيات حزبية من ذوات العيار الثقيل حضرت أحد المجالس، فاتجه الحديث تجاه شؤم القرار الفردي المجرم الذي زج بمؤسستي الجيش والأمن إلى مستنقع الطائفية التي دمرت الوطن.. فوجئ الكل بشخصية حزبية مثقفة جدا - يشار إليها بالأصابع - وهي في حالة انفعال لافت تقول: لا، لا، اتركوا الحديث عن الشورى التنفيذية، وإن كان المصير ما كان.. تلعثم كثيرون.. أحدهم حاول قائلا: المقام مصيري يحتاج إلى إعادة نظر، فسلقته الألسن.
الخلاصة: لا شك أن الدلالات قد تجلت للقارئ بطريقة أو بأخرى، والواقع زاخر بالنماذج الصارخة التي تشير إلى أن النخبة قد تجسدت فيها مصادر الخلل، وهذا يعني أنه لا تنمية للمجتمع، ولا انتماء إلى المجتمع ما لم يكن الإنسان هو محور عملية التعليم الهادف بناء وتنمية تحضرها منظومة الهوية -بوصلة هادية- ولا هوية ولا قيم انتماء للمجتمع والوطن ما لم يكن التعليم مرتكزا على القيم، ولا قيمة للقيم إذا انفصلت عن وريدها النابض - الإيمان بالله واليوم الآخر.
والآن ندلف إلى صلب الموضوع من خلال المحاور التالية.
المحور الأول، بناء النخبة:
أولا، المقصود بالنخبة: طلاب الجامعات الإنسانية والعلمية وأعضاء هيئة التدريس وأيضا المعاهد المهنية والتعليم العام - مدراء، ومدرسين، والخطباء، والوعاظ، والمرشدين، ورجال الإعلام، ومؤسستي الجيش والأمن، والأطباء، ومنظمات المجتمع المدني.. هؤلاء جميعا يجب تجاههم إصلاح ثقافتهم الإسلامية كما سنوضح لاحقا.
ثانيا، الثقافة الإسلامية:
أمضيت 20 عاما مدرسا في الجامعات -حكومية وأهلية- في مجال الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية.. باختصار، تتبعت المقررات عموما والثقافة الإسلامية خصوصا، غير أن حديثي هنا حول الثقافة الإسلامية.. لم أكتف بمقرر الثقافة في اليمن وإنما تعمدت النظر في مقرر عدد من الجامعات العربية فخرجت بما يلي:
- مقرر يتكون من 4 مجلدات موزع على 4 مستويات، تضمن جميع أحكام الفقه الإسلامي - عبادات معاملات.. الجدير ذكره أن هذا المقرر هو أبعد عن شيء اسمه ثقافة إسلامية.
- مقرر في مجلد يتم تدريسه في فصل جامعي واحد، وقد تم شرح أركان الإيمان فقط في 170 صفحة من القطع الكبير - جدل كلامي وصراعات ومنطق يفسد تفكير الطالب تماما.. بقية الموضوعات جميلة ولكن أنى للطالب أن يتفاعل معها بعد ذلك الجدل، فقناعة الطالب أن المقرر كله جدل في جدل.
- مقررات يمنية عدة ممسوخة تماما، والمحزن جدا أن ذلك تحت نظر الإدارات الأكاديمية.
- مقرر يمني متميز إلى حد كبير ولكنه خاص بمؤلفه - غير مقبول.
- مقرر عربي قادم من قطر عربي متميز أكاديميا، اشترك في إعداده 6 شخصيات كفؤة، لكني انصدمت جدا أزاء تعريف الثقافة الذي استغرق 71 صفحة.
الغريب هو تأكيد المؤلفين على ضرورة فهم ذلكم الكم من التعريفات.
- المقرر الأخير لشخصية يمنية كفؤة حقا، مجلد ضخم زاخر بالمعلومات، كثير التفريعات جدا يشتت ذهن الطالب.
الملاحظة الشاملة - جميعها غاب عنها قضايا جوهرية - الانفصال بين القيم والإيمان، أثر الإيمان في النفس والمجتمع، الهوية، سنن الله في النفس والمجتمع، مقاصد التزكية.
مفردات مفخخة: فصل كبير عن النسخ، وقد فوجئت بسؤال من طالب مفاده: هل هناك آيات باطلة؟ باختصار، المفاهيم المفخخة كثيرة وأخطرها القول بنسخ 120 آية، وتلك الآيات هي أدلة التعايش الحضاري بين سائر الناس.
ثالثا، مقرر الثقافة المنشود:
يجب العناية بمقرر الثقافة الإسلامية كونه متطلب لجميع التخصصات، وهذا يستدعي لفت انتباه ومتابعة الجهات المعنية بدءا من مجلس الجامعات وعمادة الكليات.. أيضا يتضمن المقرر وصل القيم بركني الإيمان بالله وباليوم الآخر بصورة موجزة ومدعم بالأمثلة.
أيضا دور الإيمان وأثره في النفس والمجتمع.. أيضا ربط السنن الإلهية بالإيمان.. أيضا التأكيد على أهمية السنن وفي مقدمتها منظومة الهوية كونها متصلة بالإيمان وكرامة الإنسان، واللغة، والتاريخ، والأرض، والحرية، والمساواة، والنهوض بالمجتمع.
أيضا، ذكر عدد من الدول ذات الهوية المحترمة عالميا وأسباب ذلك الاحترام وأثر ذلك السلم والسلام والتنمية... إلخ. ويتضمن خطورة غياب الهوية وتقديم الأمثلة من الواقع وخطورة إهمال السنن.
أيضا، يتضمن مقاصد التزكية - التعارف، القسط، الحرية، شبكة العلاقات الاجتماعية، التكافل، الأخوة، التواصي بالحق... إلخ.
وليس أخيرا، يجب أن يتضمن مقرر الثقافة الإسلامية في مقدمة الكتاب الكليات العليا - مقاصد الخلق، التوحيد والعمران وكرامة الإنسان، والتزكية وقدسية الإنسان وأن الوحي لا يتناقض، فلا القرآن يخالف السنة ولا السنة تناقض القرآن، فالطائفية القذرة دخلت علينا من هذا المفهوم المفخخ: بطنين، قرشية، خمس، حق إلهي، تقديس الأشخاص، انقلاب على الشرعية، مصادرة الشورى.
أيضا، تقديم مؤسسة الشورى، وربطها بمؤسسات المجتمع، ويربط قضية الشورى بسنن الاجتماع وليس بأحكام الفقه - مستحب، مندوب.
المحور الثاني، هل التخصص:
والمقصود هنا متخصصو الشريعة ومتخصصو الدراسات الإسلامية، وإيجاد كلية أو قسم خاص بالدعوة والخطابة، وأيضا
حلقات العلم الشرعي والوعظ والإرشاد، فهذه الشريحة يجب أن تتضمن مقررات المنهج المقاصدي الميسر من المستوى الأول، ثم أهمية المنهج المقاصدي ومكانته الفقهية ووظيفته التجديدية، ومواكبته لمتغيرات الحياة.. أيضا يتضمن القواعد الفقهية الكبرى والصغرى، ومقاصد القرآن، وربط الأحكام الشرعية بمقاصدها، ويتضمن قواعد نقد متون الأحاديث، ويتضمن ربط الفقه بعلم الاجتماع، وقوانين حركة التاريخ، والقواعد الكبرى لعلم الإدارة، وعلم النفس، ويتضمن التأكيد المتكرر على استحضار قواعد المنهج المقاصدي وربطها بسنن النفس والاجتماع وقواعد التنمية ومفسدات الهوية، والكفر بالطاغوت، وعدم الركون إلى الظلمة واحترام سنة الاختلاف، والانفتاح على الآخر وفقه الواقع.
وفي المستوى الرابع، يتم إلزام الطالب ببحث تخرج - تطبيقات على مسائل جزئية.
وفوق، وقبل، وبعد، التوكيد المستمر بهدف ترسيخ ثلاثة مفاهيم كبرى: المفهوم الأول، أن معصية الله في إهمال السنن الحاكمة للاجتماع بما فيها الهوية لا تختلف عن معصية الله في مجالي العقيدة والشريعة.
المفهوم الثاني، الانتقال بالتوبة من توبة الفرد إلى توبة المجموع، وذلك من خلال التعاطي مع السنن والمقاصد وكل ما سبق.
المفهوم الثالث، عدم حصر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه فقط وإنما باتباعه في إيجاد شروط سننية تهيئ لإقامة الشريعة، ولا تنسى رد الاعتبار للعقل انطلاقا من القرآن المجيد.
المحور الثالث، أدب الطفل:
هذه الشريحة هي أهم الشرائح مطلقا لأنها نظيفة الوجدان والمشاعر، وفوق ذلك أعضاؤها هم قادة المستقبل، الأمر الذي يحتم أهمية العناية بها، بناء لإرادتها، وترسيخا للمفاهيم الآنفة الذكر، بل وغيرها، لأن الشرائح السابقة تعاني أزمة إرادة بامتياز.
وسيلة الخطاب:
بعد تأمل طويل وصلنا إلى وسيلة ذات فاعلية بلا خلاف.. إنها وسيلة ذات وجهين: الوجه الأول، تقديم الفكرة للأطفال على شكل رواية أدبية ولكنها مبسطة بلسان الحيوانات، على غرار كتاب كليلة ودمنة، فهذه أفضل وسيلة ذات فاعلية ناجحة جدا، تتضمن الرواية قصة بناء البلد أو الجزيرة أو المدينة أو الصحاري... إلخ، وأن ذلك يتم بالتشاور بين الحمام والنسور والغربان والفئران والكلاب والغزلان... إلخ.. على أن يكون التوظيف ذكي ولافت لكل بحسب شخصيته.
الطريقة الإجرائية:
تحديد 4 أو 5 دقائق بالأسبوع أثناء الغداء أو الفطور بشرط أن الاختيار لأطفال الأسرة وفي الجلسة يتم التعرف على بناء المجتمع أو الجزيرة أو الصحراء.
وكذا التعليم والهوية والسنن والدستور والقانون والادارة... إلخ، وتكون بلغة سهلة - قالت القطة: ما هو الدستور؟ أجابت الحمامة: هو دفتر يتم كتابة ما اتفق عليه أهل الجزيرة بشأن نوع الحكم... إلخ، وتخصص جلسة فأكثر لتبسيط المفاهيم القوية والمركبة، كهوية أبناء الجزيرة ووسائل حماية الجزيرة والتجارة والاقتصاد، والتربية والحرية... إلخ.
على أن يتم دعم القصة بصورة لكل حيوان سيتحدث في الجلسة، وقد قام بها البعض فحققت نجاحا غير عادي.
المحور الرابع، حلف فضول:
الحزبية والتنظيم والأيديولوجيات والالتزام والانضباط، كل ذلك تكتنفه صعوبات، غير أن عصر السوشيال ميديا تكفل بفاعلية متميزة دون أي خسارة.
افتح مجموعة (جروب)، وحدد مع الأعضاء قضية للنقاش زمانا ومكانا وتحديد مدة للنقاش، على أن ينتهي النقاش أن كل عضو يعمل على نشر النتيجة لمجموعات مختلفة، شريطة أن تكون القضايا إنسانية، وهذا عمل غير مضنٍ وليس فيه أية كلفة.. نموذج تحريك إنسانية شعوب أوروبا مع شعب فلسطين، ذلك أنني تتبعت عددا لا بأس به من الفلسطينيين في الشتات فوجدت أن تلك السيول الجرارة مصدرها المجموعات (الجروبات).
أكتفي بهذا القدر على أمل اللقاء مع قوانين القرآن في تنمية المجتمع.