أولا، فلسفة استعادة الحضارة.. كيف؟ ولماذا؟
استعادة المسلمين للحضارة يجب أن تنطلق من رؤية فلسفية، ذلك أن الثقافة العربية الإسلامية قد رزحت تحت نير الجمود والانغلاق، فدخلت في نوم عميق طلية ثلاثة قرون متوالية، وصاحب ذلك النوم تراكمات من الصراعات الداخلية المختلفة.
أفاقت الأمة العربية والإسلامية على اتفاقية سايكس بيكو - تقسيم تركة الدولة العثمانية بين دول أوروبا، وصاحب ذلك التمزيق الإجرامي اختراق ثقافي - مزيج متشابك مشحون بمضامين الصراعات الاجتماعية الأوروبية الغربية والشرقية والسوفيتية، محملة بمضامين أيديولوجية مرتكزها ومصدرها الرئيسي الفلسفة المادية، وتجلت سلوكياتها في مظاهر - عَداء وتمرد، إلى مقاطعة الماضي بلا استثناء.
باختصار شديد، لقد خضعت النخبة العربية والإسلامية للانقسام الحاد بين سلفيتين - السلفية الأولى التشبث بماضي الثقافة الإسلامية ولكن ليست ثقافة الرعيل الإسلامي الأول، وإنما سلفية ثقافة الانغلاق والجمود ما بعد القرن العاشر الهجري.. السلفية الثانية سلفية الليبرالية والماركسية والعلمانية، فتشبثت النخبة المحافظة بما لديها دون استثناء خشية على الذات من الذوبان أمام دعوة النخبة المتغربنة، فاحتدم الصراع بين نخبتي التقليد، وانتهى القرن العشرون وعقدان من القرن الـ21 والفريقان يركضان في دروب أفضت بهما إلى اللاشيء.
من جهة ثانية انقسمت النخبة المحافظة إلى فرق مختلفة، والعجيب الغريب أنها رغم اختلافها، فإنها تنطلق من ثقافة سننية منكوسة بسبب صراعات القرون الغابرة خلاصتها التنكر للسنن الإلهية في الحياة والنفس والاجتماع، بل وصل الحد إلى إطلاق تهمة الشرك والعلمنة تجاه من دعا إلى الثقافة السننية ولو كان منطلقه القرآن ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم.. هذا الموقف الجامد المنغلق إسلاميا اتكأت عليه نخبة التغريب ولا زالت المعركة مستعرة حتى اللحظة.
ثانيا، الرؤية الفلسفية:
وانطلاقا مما سبق فقد اتفق رجال الفكر الحضاري الإسلامي - مالك بن نبي رحمه الله، ود. عبد المجيد النجار، ود. محمد الطلابي، ود. رشدي فكار رحمه الله، ود. علي شريعتي رحمه الله، وغيرهم.. اتفقوا على قول واحد مفاده: إذا أرادت أمة الإسلام استعادة الحضارة يجب عليها أن تنطلق من رؤية فلسفية تجاه الإنسان، والكون، والحياة، على أن يكون منطلق فلسفتها من المنابع الأولى لثقافتها الإسلامية - كتاب الله، ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم - سنته الصحيحة.
ثالثا، التوحيد الغائي والتوحيد السنني:
اتفق رجال الفكر الحضاري الإسلامي على أن استعادة الحضارة الإسلامية يجب -ضرورة- أن تستند -ضرورة- إلى أسس ومنطلقات ومفاهيم وأهداف واضحة، منها:
- إعادة بناء الثقافة الإسلامية انطلاقا بناءً يجعلها قادرة على مواجهة الاختراق الثقافي المادي الغربي والتغلب عليه، وهنا تكون الثقافة قد رفضت القابلية للاستعمار (والاستحمار، حسب علي شريعتي).
- ضرورة التجديد الثقافي المستند إلى مصادرنا الثقافية المعصومة (الأولى) كتاب الله والسنة.. ومن دون التجديد فلا نجاح في مواجهة الاختراق الثقافي، وإنما نحن نخادع أنفسنا، وفوق ذلك نلصق التهمة بمصادرنا المعصومة المقدسة.
- حسب المفكر د. عبد المجيد النجار، أن نجاح التجديد الثقافي الآنف مرهون بنوعين من التوحيد: النوع الأول، التوحيد الغائي، والمقصود هنا المقصد الأول من الخلق: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".
النوع الثاني، التوحيد السنني.. المقصود هنا التوحيد السببي - الأخذ بالأسباب، ذلك أن التوحيد الغائي وإن كان يمارس تدينا في الوسط الإسلامي لكنه منفصل عن التوحيد السنني - التعاطي مع الأسباب جراء تراكمات صراعات القرون الغابرة والتي فرضت على المسلمين مئات العقائد كإجابات على أسئلة تاريخية لم يعد لها وجود اليوم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن تلك الصراعات دفنت عقيدة التعاطي مع التوحيد السنني السببي.. وعليه، فاستعادة الحضارة تقتضي ضرورة اعتقاد التعاطي مع التوحيد السبي كاعتقاد التوحيد الغائي، فكلا العقيدتين أمران صادران عن الله، وأي تفريق بين نوعي التوحيد هو مخالف لهدي القرآن ومقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم التي قررتها السيرة العطرة - سنته العملية المبينة للقرآن.
يؤكد رواد الفكر الحضاري الإسلامي أن انهيار الحضارة الإسلامية جاء من الانفصال بين التوحيد الغائي والتوحيد السنني - التعاطي مع الأسباب من منظور عقدي دونما تفريق أو انفصال، فالانفصال قد أصاب الحضارة الإسلامية في مقتل.
رابعا، توجيه الثقافة والعلم ورأس المال:
المقصود أمران من توجيه الثقافة: الأول، الوصل بين القيم الكونية والخلقية وبين ركني الإيمان بالله واليوم الآخر.
الثاني، ربط الثقافة بمقاصد القيم الكونية ومقاصد القيم الخلقية، ذلك أن القيم الكونية والقيم الخلقية لها مقاصدها المتصلة اتصالا وثيقا بالتوحيد من جهة، ومتصلة بتعليم الحكمة: "ويعلمهم الكتاب والحكمة".. وما لم يتم وصل القيم بالتوحيد وربطها بحكمتها، فإن القيم ستصبح حركات آلية لا روح لها، ويصبح فعلها عديم الجدوى، فتهتز مكانتها عقديا ووجدانيا وسلوكيا، فضلا عن اختراقها من الثقافة الغازية المتسلطة بوسائلها وأساليبها المختلفة.
فالقيم والأخلاق والثقافة تأتي من تعليم، والتعليم يجب أن يكون موجها نحو الأهداف البانية للأمة توجيها واضحا يحمل مزيجا ثقافيا يغرس ويرسخ في وجدان المجتمع ثقافة روحها العقيدة، ذلك أن الإنسان عموما يتحرك بقوة تجاه ما يعتقد ويتحرك المسلم، خصوصا لأن وجدانه وضميره متشبع بمرضاة الله.. ومن دون توجيه الثقافة والعلم فلن ينجح توجيه رأس المال نحو البناء.
كما أن توجيه الثقافة والعلم على النحو الآنف يثمر فوائد ثقافية هامة، منها: ترسيخ ثقافة الواجب قبل الحق، ورفض ثقافة الاستهلاك، ورفض التكديس، فالتكديس -على سبيل المثال- أكوام من اللباس والأثاث ومتابعة الماركات... إلخ.
خامسا، فاعلية الثقافة في المجتمع:
يرى مالك بن نبي وشريعتي، رحمهما الله، ود. النجار، أن أقوى سنن الفاعلية الثقافية في المجتمع تأتي من مفهوم خلقي اجتماعي واحد هو خلق الإخاء، مؤكدين أن قيمة الإخاء سنة خلقية عقدية أمر بها القرآن في أسلوب خبري، أي أن قيمة خلق الإخاء سنة كونية اجتماعية وأمر قرآني مفروغ منه ولا جدال حوله: "إنما المؤمنون إخوة".. لذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد قام بتطبيق هذه السنة الحاكمة للاجتماع عمليا في سيرته العطرة، فأصبحت تشريعا اجتماعيا راسخ الأركان، مؤكدين بالحرف والفحوى أن لكل مجتمع ثقافته وقيمه والأخلاق هي سمة يمتاز بها الاجتماع الإسلامي، وأضافوا أنه ينضوي تحت خلق الإخاء عدد من القيم المعززة لبناء المجتمع وهي: التعارف، والتكافل، والحب، والتعاون، الأمانة - سيادة الثقة بين أفراد المجتمع.
سادسا، الثمرة الأكبر:
عرفنا في الحلقة الأولى أن النظرية الحضارية عند مالك بن نبي تتمثل في ثلاثة مفاهيم هي: الإنسان، والتراب، والوقت.
وقلنا إنه أضاف الثقافة في كتاباته الأخرى، وقد أشرنا بإيجاز أعلاه إلى مفهوم الثقافة، غير أن مفهوم الثقافة لا زال بحاجة إلى الإضافة النوعية الهامة التالية: بما أن الثقافة الموجهة تعني العناية ببناء المجتمع، فإنها أيضا تمثل الخيط المتين الناظم للوجدان المجتمعي تجاه خدمة ومصلحة المجتمع، كما أنها ترتقي بمفهوم النظرية الحضارية من مرتبة الإنسان والتراب والوقت إلى مرتبة الأفكار أولا، والأشخاص ثانيا، والأشياء ثالثا، وهذا الارتقاء الترتيبي يكتنز فيها مفاهيم ثقافية كبرى وهي: العيش للأفكار والمبادئ والانتماء لها أولا، يليها التضامن الأخوي بين الأشخاص بقدر دورانهم وانتمائهم للأفكار، ويأتي ترتيب الأشياء - الوسائل في المرتبة الثالثة، وبفضل الثقافة الموجهة والناظمة تكون الأفكار هي الجهاز الناظم والموجه للأمة، وتنخرط الأمة في فاعلية تطبيق الأفكار والمبادئ، وهنا تتفجر المواهب وتنطلق العقول على قدم المساواة نحو ابتكار الوسائل - التكنولوجيا من موقع المحاكاة والإبداع - بصمة حضارية متميزة لا تعرف التقليد الكسيح، وصولا إلى الثمرة: الدالة الحضارية الكبرى، المتمثلة في "شبك العلاقات الاجتماعية" متانة النسيج المجتمعي، والتي تقود إلى سنة الشورى التي بدورها تختار السلطة التنفيذية من جهة وتظل تحت رقابة المجتمع من جهة ثانية، وهنا تتحقق الشخصية الاعتبارية للأمة، حيث تصبح ذات هيبة أمام السلطات الداخلية ومحل تقدير العالم الخارجي.
كما أن الثقافة الموجهة ينبثق منها خلق الصبر وتحمل التقشف - نموذج اليابان وألمانيا بعد الحرب التدميرية - العالمية الثانية، وكذلك الصين تقشفت كثيرا انطلاقا من رؤية ثقافية موجهة.
سابعا، نزوع يتطلع إلى استقلالية الأمة:
المقصود هنا طموح عقدي، فكري، ثقافي، سياسي، يتطلع نحو استقلال الأمة - القيام على ساقها، والسعي الحثيث غير المستفز إلى امتلاك قرار أمنها الحضاري، ابتداء من امتلاك أولوياتها الفكرية المدروسة المتدرجة، وصولا إلى امتلاك ناصية استقلالها وطنيا وإنسانيا وسياسيا واقتصاديا وحضاريا.
وليس أخيرا، يؤكد فلاسفة الحضارة - مسلمون، وغربيون، أن أي حضارة مهما بلغت في المجال المادي من دون أخلاق فلا قيمة لها، دمرت الإنسان بصورة أو بأخرى، وإن ادعت أنها خدمت الإنسان فهي أشبه بخدمة حيوان الحظيرة وربما أكثر سقوطا: "إن هم إلا كالأنعام بل هم أظل".. ينتهي رواد الفكر الحضاري الإسلامي إلى القول بأن نجاح المسلمين في إقامة الحضارة الأخلاقية يجب عليهم - ضرورة عقدية الوصول إلى غاية أهم وهي الإسهام في إنقاذ إنسانية الإنسان أخلاقيا وقيميا من جحيم الحضارة المادية التي دمرت الإنسان وصولا إلى إجباره على الشذوذ، وكفى بهذا انحطاطا.
إذن، فالإسلام هو الأخلاق، والأخلاق هي الحضارة، وأي حضارة مادية من دون أخلاق فهي تدمير لأنها فاقدة أخلاق العلم.
تلكم هي باختصار شديد خلاصة فلسفة استعادة الحضارة.. نلتقي بعونه سبحانه مع حدث الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.