معوقات بناء فقه الأمة (الحلقة 3) التخلف الفكري والغزو الثقافي
الموضوع: اخبار وتقارير
   

أولا، نافذة فكرية:

يقرر فلاسفة الاجتماع أن فاعلية الفقه الإسلامي والسير أمام المجتمع وقيادته إنسانيا وحضاريا، مرهون بفكر وثقافة المجتمع - ارتقاء، وانحطاطا.. وهذا ينطبق على التشريعات القانونية أيضا.

ثانيا، آثار التخلف الفكري والثقافي:

1- معوقات بناء فقه الأمة تراكمت عبر قرون عديدة، وكلما ابتعد الفكر والثقافة الفقهية عن هيمنة القرآن انعكس ذلك الابتعاد سلبا على بناء فقه الأمة نحو التخلف، الأمر الذي يدفع المعالجات الفقهية نحو مزيد من التقليد لمقلدي المقلدين، سعيا إلى معالجات قضايا الواقع ولكن بمزيد من التعمية المكرّسة للتشدد، وأحيانا كثيرة يجد القارئ أنه أمام "أحاجي وألغاز".

2- تزداد العماية والتعقيد عندما يأتي المتأخرون فيكتبوا حواشي على حواشي السابقين.

3- الأسوأ هو إضفاء القدسية على تلكم التعمية والتعقيد بحجة أن شريعة الله ليست لمن هب ودب.

4- الوضوء أصبح هو الرخصة: شريعة الإسلام قائمة على منهج التيسير، وإليك مثال سريع: رخصة التيمم في القرآن في غاية الوضوح واليسر - سببا، وكيفية، فالأسباب: مرض، سفر، فقدان الماء.. والرسول صلى الله عليه وسلم وضح الكيفية أنها ضربة باليدين على التراب ومسح الوجه والكفين من تلك الضربة.

بهذا التيسير تعبدنا الله، لكن التقليد حول رخصة التيمم إلى محنة، فأصبحت عزيمة الوضوء هي الرخصة.

5- هناك 14 حاشية في كتاب، إنه كتاب "الغاية في أصول الفقه" لأحد فقهاء الهادوية الذين يرفضون التقليد، فهذا الكتاب حمل 14 حاشية - أعلى الصفحة وأسفلها وجوانبها وبلغة عمياء كل صاحب حاشية يدعي أنه يريد التيسير فلا تجد إلا ظلمات بعضها فوق بعض، وكذلك كتب السنة -حواشي وحواشي على الحواشي- 4 حواشي على تفسير الكشاف، وثلاث حواشي على كتاب الفروق للقرافي، والنماذج كثيرة.

6- دفن النماذج المشرقة: منهجية فقه جلب المصالح ودفع المفاسد ظلت حاضرة على قلّتها قياسا بغيرها، وأصحابها أعلام كبار جدا في مذاهب المالكية كالقرافي والشاطبي والشافعية كالجويني والعز بن عبد السلام، والحنابلة كابن تيمية وابن القيم، وغيرهم كثيرون، لكن هذا العطاء المشرق تم تجاهله - دفنه إلى حد النسيان.. نموذج الموافقات للشاطبي غاب طيلة أربعة قرون.

نعم، ظهر في مطلع القرن العشرين وتناولته الكتابات المختلفة، ولكن الاستبداد الديني والسياسي حضرت وصايتهما، فالديني يصف المنهج المقاصدي بالبدعة، والسياسي حضرت عصاته الغليظة في أذهان الباحثين الأكاديميين، فاكتفوا بضرب الأمثلة من التراث، ولم يجرؤ واحد على تقديم أمثلة من الواقع، كالكرامة، والحرية، والمساواة، والحكم الرشيد، والتعددية، والنقابات... إلخ.

7- التقليد المذهبي انزوى نحو التشدد.. كل مذهب فقهي فيه اجتهادات إيجابية صالحة لإنتاج اجتهاد يقدم حلولا لقضايا معاصرة.

وبالمقابل هناك اجتهادات داخل كل مذهب كانت إجابة في سياقات ظرفية لم يعد لها وجود.

النتيجة، إهالة التراب على فقه المصالح، وفقه الوسائل، وفقه السنن الحاكمة للاجتماع.

بالمقابل حصلت هرولة سريعة إلى زقاق التشدد والتزمت -اعتناق الزاوية الضيقة لدى مدرسة الأثر- تحت مبرر اتباع السلف، فخضعت الحياة لسيطرة بعد معرفي واحد، وساعد على ذلك طفرة نقدية تم توظيفها لصالح الحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي والسوفييت الشيوعي الذي تهاوت دولته أواخر ثمانينيات القرن الماضي.

8- استغفال مضحك: الدخول في زقاق التشدد صاحبته تبريرات غاية في الضحالة والسخافة، ذلك أن البعض كان يتساءل عن ذلك التشدد الذي طاول كل جوانب الحياة، فيأتي الجواب بغلاف قدسي استغلالا للتخلف الفكري والثقافي للهيمنة على الوجدان والعقل في أن قائلا: "أين مهبط الوحي" أليست مكة والمدينة؟ هنا يرضخ العقل الجمعي للخيالات الدينية ظنا أن الوحي لا زال يتنزل.

فلو قيل انتهى عصر الوحي يأتي الجواب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأرز الدين إلى مكة والمدينة كما تأرز الحية إلى جحرها".. يأرز: ينزوي إليهما.

عجيب، تشبيه الدين الخاتم بالحيّة لا يمكن يصدر عن أفصح الخلق صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الاعتراض يحتاج منهجا علميا أصوليا مقاصديا.. وهيهات.

ثالثا، الاحتيال على الدين والشرع:

كنا ولا زلنا نسمع من ثقافة الجدات -حكمة تدل على بقايا إرث ثقافة المنهجية- تقول الحكمة: "من أغلق بابا من الشريعة أحوجه الله إليه".

وجه الدلالة، أن إغفال وتناسي الآفاق المنهجية الخادمة للدين والدنيا دفع بالجمود الفقهي إلى اجتراء خطير على الدين والشرع بسبب محاصرة التشريع الرحب بالعقليات الجامدة، فحضر "فقه الحيل" والعياذ بالله، وإليك الأمثلة التالية.

1- زواج التحليل: فالجمود الفقهي لا يتساءل عن دوافع الطلاق وموجباته وإنما يتجه إلى حيلة مخالفة للشرع، وقد بلغت صور التحليل أكثر من 8 صور، كلها تخالف الشرع الصريح، وتحل ما حرم الله.

2- الوصايا، النذور، الوقف: احتيال تحت واحد من هذه المسميات، بهدف حرمان البنات أو حرمان ابن الزوجة السابقة أو حرمان للأبناء الكبار لصالح الصغير المدلل. وقد دخل تحت هذه المسميات صور مقذعة مقززة من الحرمان والحيل، وباسم الشريعة.

3- استباحة الربا: هناك صور كثيرة للاحتيال على الربا، حيث يتقدم طالب قرض نقدي لبناء غرفة يستر بها عرضه أو يعالج قريبه أو لشراء ماكنة تصوير مثلا.

الخلاصة، تنتهي العملية إلى بيع شكلي احتيال على الشرع.

4- تحريم التأمين الاجتماعي والتجاري.. حوادث المرور نموذجا.

هذا النوع من التأمين مصلحته محققة وراجحة من منظور المنهج المقاصدي، ولكن هيهات - فاقد الشيء لا يعطيه.

الخلاصة، أساليب الحيل، وتحريم التأمين، تعكسان أزمة جمود فقهي مستحكمة بعيدة الغور.

5- الاستدلال بالروايات الضعيفة: اللافت للنظر في هذا المقام أن بعض حملة الفقه لا يعلمون ضعف أًدلة مذهبهم.

البعض الآخر يعلمون ضعف تلك الروايات لكن عقلية الجمود تنطلق من منطق الوصاية المتلذذة بالتشدد والتزمت بل وتتلذذ بإفساد مقاصد الشريعة وتدمير الأسر... إلخ، وهذا مثال: ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، الطلاق، الرجعة، وفي رواية العتاق.

هذه الرواية سندها ضعيف جدا، ومتنها مخالف لصريح القرآن حول المقصد النفسي: "ولا تعزموا عقدة النكاح".. "وإن عزموا الطلاق".. الحديث: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".

القاعدة الفقهية الأصولية المقاصدية "الأمور بمقاصدها".. والقاعدة المتفرعة عنها "العبرة بالقصود والمعاني لا بالألفاظ والمباني".

كل قاعدة مكونة من عشرات الأدلة كتابا وسنة، ولكن الجمود يضرب بكل ذلك خلف الحيط ويتبع الرواية الضعيفة، ولا يهمه هنا أنه دمر أسرة أو أفسد صياما أو أي عبادة، أو استباح محرما أو حرم حلالا.

رابعا، سحق كرامة الشعب:

الجمود الفقهي يجعل العقل أشبه بالكوز المنكوس، كما في الحديث، لايعرف معروفا ولا ينكر منكرا، وبالتالي اتجهت العقلية الجامدة إلى تحصين الطغيان، وهدم مقاصد القرآن، الذي جاء لحماية الأمم والشعوب - كرامة وحرية ومساواة ودماء وأعراض، حقوقا ومواطنة متساوية ومقدرات أوطان... إلخ.

ومن يطالع الثقافة الغثة في هذا الصدد، سيجد الفظاعات المذهلة بل يجد الجرأة على الله، وإليك الشاهد التالي:

1- "للأمير الظالم في اليوم سبعون صدقة كبرى".. هذه الوقاحة والجرأة على الله قادمة من خلفية عقدية أفظع وهي "تأليه الطغيان".

2- الحاكم الطاغي لو ارتكب المحرمات وابتدع أسوأ أنواع البدع فهو مغفور له، والفقيه المجتهد صاحب النظر كالرازي، والجويني، والعز، والقرافي، والشاطبي، وغيرهم، لو اجتهد في مسألة فهو مبتدع زائغ ضال مضل، وأحيانا لغة الإرهاب الفكري (مخالف للإجماع) لن ينجو من الكفر، وفي اللغة المهذبة: لقد زل، ولكن حسناته ستكفر زلته.. باختصار، عقلية الجمود توزع صكوك غفران.

خامسا، الاستخفاف بهيمنة القرآن:

القرآن مهيمن على كل الكتب السابقة، والرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم مكلف بالخضوع والاتباع للقرآن: "إن اتبع إلا ما يوحى إلي".

وسنته العملية والقولية هي شارحة ومفسرة لمقاصد القرآن، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصد القرآن: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا".

لكن الجمود والتقليد عكف على الروايات وإن كانت في غاية الضعف، والنتيجة إهمال هيمنة القرآن اتباعا للأهواء وحراسة للطغيان، والمضحك هو الادعاء أن عبادة أقوال السلف ليست مذهبية.

سادسا، تمييع عقيدة مركزية التوحيد:

مركزية التوحيد هي محور بناء فقه الأمة، وهذه هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، واعتماد مركزية التوحيد هو الباب نحو الفاعلية المجتمعية إنسانيا وحضاريا.

ولكن تعالوا بنا إلى العقيدة التي أدت إلى تمييع مركزية التوحيد، ها هو العقل الراسف في أغلال التقليد الصدئة يدعونا إلى اعتماد 315 عقيدة.. من أين أتيتم بهذا؟ الجواب: من صراع القرون.

وهكذا باسم التوحيد يتم هدم مركزية التوحيد.. باختصار بالغ، تلكم هي نتائج وآثار التخلف الفكري والثقافي.

الإصلاح نت - خاص - عبدالعزيز العسالي
الأحد 26 فبراير-شباط 2023
أتى هذا الخبر من موقع التجمع اليمني للإصلاح:
https://alislah-ye.net
عنوان الرابط لهذا الخبر هو:
https://alislah-ye.net/news_details.php?sid=10046