من مقاصد القرآن الكريم: فقه منظومة سنن الواقع (الحلقة 5 والأخيرة) مؤهلات الأمة الوسط.. تجريم كبائر الإثم المعاصر ومحاربتها
الموضوع: اخبار وتقارير

 

 

المقدمة الأولى: الإسلام جاء يبني الأمة، والرسول صلى الله عليه وسلم أرسى الأسس لإقامة الأمة تطبيقا للقرآن وعلمنا الحكمة، وللمزيد حول بناء الأمة يمكن للقارئ أن يعود إلى كتاباتي خلال الأشهر الثلاثة الماضية بما فيها الشهر الجاري.

المقدمة الثانية: خلاصة مفهوم بناء الأمة يعني الوصول بوعي الأمة إلى درجة المناعة الثقافية.. وعي بالعرف المتجدد بالسنن الحاكمة للاجتماع السياسي انطلاقا من أصولنا المعصومة واستيعابا لثقافة العصر والهيمنة عليها بمفاهيمنا الخلقية المتينة.

المقدمة الثالثة: لماذا بناء الأمة؟ لأنها هي مالكة الدولة، كون الأمة صاحبة المصلحة الحقيقية التي رسمتها مقاصد القرآن الواضحة التي مكنت الأمة من الولاية على ذاتها، كما أن مقاصد القرآن المجيد ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم - سنتة العملية التي جسدت بوضوح تمليك الأمة حقها في العقود -وثيقة المدينة- وتجلت تلكم المنهجية عبر التاريخ الفقهي كما سنوضح لاحقا.

باختصار، الوصول بالمناعة الثقافية والسياسية مقصد قرآني نبوي يجب - ضرورة - أن يكون نابعا من إرادة واختيار الأمة كي تحمي حقوقها ومصالحها وتكون الأمة هي مالكة القرار عن وعي بذاتها وأهدافها ووسائل تحقيق وحماية مصالحها.

 

المقدمة الرابعة، الدوافع والأسباب:

1- العُرف المتجدد المتصل ببناء أجهزة الدولة الحديثة تقسيما واتساعا، فقد كان شكل الدولة في العالم بما في ذلك العالم الإسلامي لا يتعدى 4‐5 وزارات فقط.

2- بما أن الأمة هي صاحبة القرار في إقامة الدولة، فمن حقها الشرعي القيام بإرساء قوانين يتم التعاقد بموجبها بين الأمة والوكلاء - السلطة بكل أجهزتها انطلاقا من الوعي الثقافي الشامل بحقوقها ووعي بالآليات والوسائل الملائمة الضامنة تحقيقا للعدل والمصلحة وحفظا لحقوق الأمة.

3- تغول المستبدين بسبب اتساع صلاحياتهم مستغلين السذاجة الثقافية الموروثة، علما بأن تلك الثقافة لها سياقها التاريخي.

4- الوصول إلى الأمة الوسط: تكرر منا القول حول قيام الأمة الوسط وبناء الشخصية الاعتبارية للأمة تبدأ من بناء مجتمع الرشد الذي تشرب مقاصد الشريعة - ثقافة عامة في المجتمع بدءًا من الصف الرابع أساسي فما فوق - شريطة تبسيط مدخلات الثقافة المقاصدية مع ضرب الأمثلة.

 

أمثلة للمفاهيم الأولية:

1- التوعية المستمرة حول تجريم كبائر الإثم والفواحش المعاصرة ومحاربتها.

2- محورة كبائر الإثم المعاصر: المقصود هنا تقديم كبائر الإثم تحت مفاهيم مبسطة مثل مفهوم الكرامة، الحريات، حقوق الإنسان، الهوية، المواطنة المتساوية، وقيم الانتماء الوطني.

يتخلل ذلك ضرب الأمثلة الواقعية وبيان الأسباب الثقافية التي أدت إلى كبائر الإثم، مع بيان نتائجها من الواقع، وصولا، إلى إرساء ثقافة قيم وسنن محاصرة الظلم والاستبداد... إلخ.

- تجريم كبائر الإثم المعاصر يجب ربطه بالتدين المغشوش المنحرف عن الفهم الصحيح لمقاصد عقيدة التوحيد والمنهج المقاصدي، ولفت نظر المجتمع إلى خطورة الانفصال بين مقاصد التوحيد ونتائجه، مع ضرب الأمثلة.

 

تلكم هي أهم وأبرز المقدمات.

باختصار، إرساء مفاهيم ثقافية واضحة الدلالة مفادها أن المساس بالكرامة والحريات هدم لمقاصد الشريعة، وأن محاربة الكبائر المعاصرة واجب عقدي، أخلاقي، شرعي، حماية للأمة من ثقافة الخوف وتمزيق النسيج المجتمعي وشبكة العلاقات الاجتماعية.

 

ثانيا، تحويل القيم إلى وسائل:

1- الانتقال بالوعي الثقافي من الثقافة الذهنية النظرية لدى المجتمع وتحويلها إلى وسائل قانونية تعاقدية بين المجتمع والسلطات الحاكمة تنص بوضوح على تجريم أي مساس بكرامة الإنسان وحقوقه، وتنص على عقوبات صارمة واضحة، وتنص القوانين على إنشاء محاكم خاصة تنص قوانينها أنها محاكم قضايا مستعجلة على أن تصدر قراراتها في زمن محدد لا يتعدى 30 يوما، مثلا.

2- إنشاء مكاتب محاماة وتمويلها من عائدات وقفية متخصصة وتبرعات واشتراكات من منظمات المجتمع المدني للقيام بالاحتساب والمرافعة أمام القضاء الشرعي.

3- إقامة دورات تجديدية متعلقة بهذا الصدد - إصلاح الخطاب المسجدي، وهذا سيكون له فاعلية مجتمعية غير عادية.

 

ثالثا، التأصيل الشرعي لكبائر الإثم والفواحش المعاصرة:

1- الوفاء بالعقود: قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود".

2- التعاقد حول العرف المتجدد: قال تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف".

فالحياة متجددة متغيرة وبالتالي يجب على الأمة - النخبة الدوران مع فقه الوسائل المتجددة ذات الفاعلية في حامية للمقاصد.

3- القاعدة الأصولية - الأصل في العقود الإباحة.. والمقصود هنا التعاقدات القانونية الخادمة للمصالح، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".

4- يتفق الفقهاء جميعا أن مقاصد الشريعة جاءت لحفظ وحماية الإنسان - دينا، ونفسا، وعرضا، وعقلا، ومالا، وحرية، وهذه هي المقاصد الضرورية.

5- اتفق الفقهاء على تحريم كل وسيلة أو طريقة تؤدي إلى المساس بالمقاصد الضرورية الآنفة، مثل توسيع صلاحيات الحاكم دستوريا او قانونيا أو إداريا أو حزبيا... إلخ، فهذا هو التشريع لكبائر الإثم والفواحش.

6- الوسائل لها حكم المقاصد: اتفق الفقهاء على أن هذه القاعدة المقاصدية الحامية للمقاصد ينطبق عليها حكم الأهداف والمقاصد والغايات الإنسانية، مثال على ذلك: حماية الإنسان مقصد شرعي ضروري، والعلاج وسيلة لحماية الإنسان. إذن العلاج يكون حكمه ضروري، وكذلك الشرنقات وسيلة لكن لا قيمة للعلاج من دون وسيلة الشرنقات. إذن، حكم الشرنقات ضروري لأنها وسيلة حماية الضروري، وقس على قولي تكن فقيها.

 

رابعا، القواعد الأصولية المقاصدية:

1- يحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور: هذه القاعدة الذهبية الرائعة قررها الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، رحمه الله.

جاء تشريع هذه القاعدة من واقع متجدد، والهدف ردع بعض النافذين المستغلين نفوذهم السياسي وغيره، فقرر الخليفة العادل القاعدة الآنفة تضمنت استحداث عقوبات غير مسبوقة زجرا لمنتهكي الحقوق - اغتصاب المنازل، أو المزارع، أو اعتقال بلا مبرر شرعي... إلخ.

2- بناءً على القاعدة الراشدية الآنفة، فقد تطور التقعيد الفقهي المقاصدي إلى بلورة قاعدة مقاصدية أوسع وأشمل هي قاعدة "السياسة الشرعية".

وأصبحت السياسة الشرعية محل اتفاق فقهي - نظري وعملي في الفتوى والقضاء وبناء التفريعات الفقهية حسب الزمان والمكان - تشريعا بل واستند إليها فقهاء القوانين المعاصرة.

3- قاعدة المعاملة بنقيض القصد: هذه القاعدة تبلورت من مقصد النص القرآني القائل: "اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخلُ لكم وجه أبيكم".

قصد إخوة يوسف إزاحة أخيهم يوسف حتى يستحوذوا على نظر أبيهم إليهم فقط، لكن الله العليم بالنفوس عاملهم بـ"نقيض قصدهم"، فقد ابيضت عينا يعقوب عليه السلام من الحزن فهو كظيم لا يرى، عقوبة لهم من نيل مكانتهم في نظر أبيهم.

- ميراثك منها الحجر: مناسبة الحديث ومقصده: تقول الرواية إن شخصا شكا إخوته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم اقتسموا تركة أمهم ولم يعطوه حصته، فثارت شكوك أن ذاك الولد قذف حجرا أودى بحياة أمه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "ميراثُك منها الحجر".. وبناء على المقصد النبوي تقررت قاعدة "المعاملة بنقيض القصد".

- قياس أصولي: اتفق الفقهاء على إلحاق القضية التالية بقصة صاحب الحجر قائلين: لو أن "س" من الناس أوصى لـ"ص" بمال أو أرض، واشترط تنفيذ الوصية يكون بعد موته، لكن "س" قتل الموصي بهدف سرعة الحصول على الوصية، هنا قرر الفقهاء حرمان القاتل من الوصية معاملة له بنقيض قصده.

4- قاعدة سد الذرائع: انطلاقا من القاعدة الراشدية وقاعدة "نقيض القصد"، قرر الفقيه مالك بن أنس أن قاعدة سد الذرائع هي أحد أركان مذهبه، ووافقه فقهاء كثيرون من مذاهب أخرى.

 

مثال من واقعنا المعيش:

الصلاحيات الواسعة للحكام - هناك حاكم اتخذ 32 صلاحية دستورية صريحة إلى جانب عشرات الصلاحيات القانونية والإدارية والتسلطية المستبدة إلى الحد أنه صار يتدخل شخصيا في نقل مدرسين من مدارسهم إلى مديريات نائية، وحرمانهم من رواتبهم والسبب أنهم ليسوا في حزبه.

- أسوأ من ذلك أن تلكم الصلاحيات الفوضوية جاءت بسبب تقاعس أو غباء منظمات المجتمع المدني وبسبب تقصير المثقفين، واستغلالا للأغلبية الكسيحة في البرلمان، إلى جانب شراء ذمم المستشارين القانونيين السلاليين وبعض لاعقي الأحذية.

إذن على الشعب محاصرة تلك الفوضى سدا للذريعة ومعاملة بنقيض القصد والسعي لإصدار قوانين عقابية يتم التعاقد عليها وتحويلها قيودا دستورية تقلّم مخالب المستبدين والأطماع التسلطية المستبدة، وتقرر خلع الحاكم إذا خالفها.

 

خامسا، المفهوم القرآني الدال على كبائر الإثم:

1- اسم سورة الشورى: أسماء السور في القرآن لها دلالات وأبعاد حضارية، ومنها اسم سورة الشورى، فهذا الاسم يعكس أبعادا حضارية تخدم مقاصد القرآن في تمليك الأمة حقها في إقامة الحكومات وإيجاد الأمة الوسط وبناء شخصية الأمة.

2- مفهوم دلالة سياق نص آية الشورى: قال تعالى: "والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون • والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون".

3- تعددت صفات المؤمنين بدءا من اجتناب كبائر الإثم والفواحش، مرورا بالمغفرة عند الغضب، فالاستجابة لربهم في إقامة الصلاة، "وأمرهم شورى بينهم"، فالأمر هنا مصطلح شامل في سياق المدح، يعني كل ما يتصل من الأمور بمستجدات حياتهم الدنيوية، جلبا للمصالح ودفعا للمفاسد.

4- المفهوم السياقي: اقتران كبائر الإثم والفواحش بمبدأ الشورى يدعونا إلى أنه من الضروري حماية مقصد الشورى، وحماية العدل يجب أن يقوم على وسائل حامية للمقاصد.

- اتفق الفقهاء أن السياق النصي قاعدة منهجية تحدد مراد النص والقطع بعدم احتمال غير المراد.

 

سادسا، نماذج لكبائر الإثم والفواحش المعاصرة:*

تنويه وتذكير:

- يجب توعية المجتمع بخطورة الكبائر والفواحش المعاصرة بأنها أشد خطرًا، وأبعد أثرًا، وأوسع ضررًا من الكبائر التقليدية الشخصية، ذلك أن ضررها يطال شعوبا عقودا طويلة، إفسادا للحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتربوية والأخلاقية إلى حد التدمير، إهلاكا للحرث والنسل، بل تدمير الأوطان والإتيان على مقدراتها من القواعد - وطننا اليمن نموذجا.

 

وإليك أبرز كبائر وفواحش العصر:

1- إسقاط عقيدة الوطنية لدى مؤسستي الجيش والأمن: عقيدة مؤسسة الجيش تتمثل في "الله"، و"حماية الوطن".

عقيدة مؤسسة الأمن تتمثل في "الله"، و"حماية المواطن".

2- الصلاحيات الواسعة: سبقت الإشارة إلى الكوارث الناجمة عن هذه الكبيرة الآثمة.

3- تزوير الانتخابات من كبائر الإثم في عصرنا، بل من أكبر الكبائر، وصولا إلى الأغلبية الكسيحة فقد صادرت حق الشعب وإرادته وحرياته، وإليكم أبسط نتيجة: أقرّت الأغلبية الكسيحة قانون إيجار البيوت وفيه من المظالم ضد المستأجرين ما يتفجر له الصخر الأصم.

يا ترى هل يعلم الشعب شيئا عن هذه اللعنة الساحقة الماحقة لذوي الدخل المحدود؟ إيجارات تجاوزت رواتبهم.

 4- انتخاب التجَّار، وتجار المخدِّرات، وأيضا المفسدين زبانية المستبد ليكونوا في المجالس النيابية.. إن انتخابهم من أكبر الكبائر.

5- التسويق للحكَّام الظالمين والمفسدين من رجال الإعلام والسياسة والأثرياء من أكبر كبائر الإثم.

6- اعتقال الناس وسَوْقهم من بيوتهم إلى السجون بتهم ملفَّقة، وإقامة محاكمات من قضاة غير نزيهين أو من عسكريين من أكبر كبائر الإثم.

7- تفصيل الدساتير لتوافق أهواء الحكَّام وتُحقِّق مطالبهم.. من أكبر الكبائر.

8- استيراد المُقرَّبين للأغذية الفاسدة، أو المُلوَّثة بالإشعاع، أو منتهية الصلاحية، من كبائر الإثم، بل من أكبر الكبائر.

9- استيراد البذور المفسدة للتربة، والمضرَّة بالزراعة.. من كبائر الإثم، بل من أكبر الكبائر.

10- انتقاص الكميات اللازمة من الحديد والإسمنت في بناء العمارات، مما يؤدِّي إلى انهيارها على سكَّانها - نموذج "عمارات الموت".. من كبائر الإثم، بل من أكبر الكبائر.

11- احتكار المواد الضرورية من الأغذية، والأدوية، أو الملابس، أو مواد البناء، لتستفيد منها طبقة معينة أو أفراد معينون.. من أكبر كبائر الإثم.

12- إنتاج الأفلام أو المسرحيات أو المسلسلات الهابطة المروجة للخلاعة، وتدعو إلى الإباحية والفجور.. من أكبر كبائر الإثم.

أكتفي بهذه الإلماحات على أمل اللقاء بكم مع عنوان: معوقات بناء المجتمع والأمة الوسط، وبناء شخصية الأمة.

...................

* مسرد الكبائر أعلاه، تم نقله عن الفقيه حجة العصر يوسف القرضاوي رحمه الله، بتصرف وإضافات.

الإصلاح نت - عبد العزيز العسالي
الثلاثاء 31 يناير-كانون الثاني 2023
أتى هذا الخبر من موقع التجمع اليمني للإصلاح:
https://alislah-ye.net
عنوان الرابط لهذا الخبر هو:
https://alislah-ye.net/news_details.php?sid=10011